إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟
إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (م ج)
قل: ما هو فهمك أو تفسيرك للحدث
ولا تقل: ما هي قراءتك للحدث
لا يمكن لأي متابع لقنوات التلفاز أن يفوته سماع مقدم البرنامج وهو يسأل المعلق “ما هي قراءتك للحدث” أو “كيف تقرأ ما يحدث في غزة اليوم” وما شابهها كثير. ويستعمل السائل في كل هذه الأسئلة الفعل “تقرأ” أو أي من تصريفاته ليعني به “تفسر” أو “تفهم”. ولست ممن يقف أمام تطور اللغة لكن ذلك لا يعني إستحداث إستعمال جديد لفعل يعرفه الناس ويعرفون معانيه دون سبب. وحيث إن العربية غنية بأفعالها فهي ليست بحاجة لأن تعطي الفعل “تقرا” هذا المعنى الجديد حين يوجد فعل آخر يؤدي ذلك المعنى.
لكن سببشيوع إستعمال الفعل “تقرا” بالمعنى الوارد أعلاه هو السبب نفسه الذي سبق وذكرناه أكثر من مرة في التغرب الفكري الكامل إذ ان معد الخبر أو البرنامج أصبح يفكر بلغة أوربية. لذا فإنه حين يسمع مقدم البرنامج الإنكليزي يسأل المسؤول “How do you Read this event” فإنه يترجم النص كما يسمعه بالإنكليزية حرفياً فيأتي بترجمة الفعل “Read”الذي يقابله في العربية “تقرا” فيصوغ السؤال في العربية كذلك، فيأتي بالفحش من القول.
ذلك لأن ما يصح من إصطلاح في لغة قد لا يصلح بالضرورة للترجمة النصية في كل لغة. فإذا كان للفعل في الإنكليزيةأكثر من معنى فلا يعني هذا أن الفعل نفسه يمكن أن يحمل تلك المعاني في العربية.
إن العربي الفصيح اللسان يجب أن يرد على السؤال أعلاه: “ما هي قراءتك للحدث” بأن يقول: “قراءتي كقراءتك”!
قل: هو رجل أبله وهي امرأة بلهاء وهم رجال بُلْه وهن نساء بُلْه
ولا تقل: رجال بُلهاء
وذلك لأن “الأبله” صفة من صفات العيوب الظاهرة كالأخرق والأحمق والأنوك والألوث والأثول، والمؤنث “بلهاء” كخرقاء وحمقاء ولوثاء وثولاء. ويجمع الأبله ومؤنثه البلهاء على “بُله” أي وزن “فُعل”، ولم يسمع فيه غير ذلك. وجاء في الحديث النبوي الرشيف: “أكثر أهل الجنة البله، فالبله جمع الأبله والأبله كما في لسان العرب، وهو ذو البله والبلاهة، والبلاهة هي غلبة سلامة الصدر وحسن الظن على الإنسان. جاء في لسان العرب في تسمية السليمي الصدر بالبله “لأَنهم أَغفَلوا أَمْرَ دنياهم فجهلوا حِذْقَ التصرف فيها، وأَقبلوا على آخرتهم فشَغَلوا أَنفسهم بها، فاستحقوا أَن يكونوا أَكثر أَهل الجنَّة، فأَما الأَبْلَه وهو الذي لا عقل له فغير مُرادٍ في الحديث، وهو قوله، صلى الله عليه وسلم: أَكثرُ أَهلِ الجنة البُلْهُ، فإِنه عنى البُلْهَ في أَمر الدنيا لقلة اهتمامهم، وهم أَكياسٌ في أَمر الآخرة. قال الزِّبْرقانُبن بدر: خيرُ أَولادِنا الأَبْلهُ العَقُولُ؛ يعني أَنه لشدَّة حَيائِه كالأَبْله، وهو عَقُول”. وجاء في لسان العرب أيضاً: “وقال أَحمد بن حنبل في تفسير قوله اسْتَراح البُلْهُ، قال: هم الغافلون عن الدنيا وأَهلِها وفَسادِهم وغِلِّهم، فإِذا جاؤُوا إِلى الأَمرِ والنهيِ فهم العُقَلاء الفُقَهاء، والمرأَة بَلْهاء؛ وأَنشد، ابن شميل: ولقَدْ لَهَوْتُ بطِفْلةٍ مَيّالةٍ بَلْهاءَ تُطْلِعُني على أَسْرارِها أَراد: أَنها غِرٌّ لا دَهاءَ لها فهي تُخْبِرني بأَسْرارِها ولا تَفْطَن لما في ذلك عليها؛ وأَنشد غيره: من امرأَةٍ بَلْهاءَ لم تْحْفَظْ ولم تُضَيَّعِ يقول: لم تُحْفَظْ لِعَفافها ولم تُضَيَّعْ مما يَقُوتها ويَصُونها، فهي ناعمة عَفِيفةٌ. والبَلْهاءُ من النساء: الكريمةُ المَزِيرةُ الغَرِيرةُ المُغَفَّلةُ…… والأَبْلَه الرجلُ الأَحمق الذي لا تمييز له… لتهذيب: والأَبْلَهُ الذي طُبع على الخير فهو غافلٌ عن الشرّ لا يَعْرِفه؛ ومنه: أَكثرُ أَهل الجنة البُلْه. وقال النضر: الأَبْلَه الذي هو مَيِّت الدَّاءِ يريد أَن شَرَّه ميِّتٌ لا يَنْبَه له….. وعيش أَبْلَهُ: واسعٌ قليلُ الغُمومِ؛ ويقال: شابٌّ أَبْلَه لما فيه من الغَرارة…. قال الأَزهري: الأَبْلَهُ في كلام العرب على وجوهٍ: يقال عَيْش أَبْلَه وشبابٌ أَبْلَه إِذا كان ناعماً”.
وخلاصة الكلام أن “الأبله” صفة حسنة إذا كانت البلاهة في أمور الدنيا مقرونة بالفقاهة في أمور الآخرة وصفة قبيحة إذا كانت صفة عامة، وتظهر بلادة الذهن وفيولة الرأي وسخافة العقل. (م ج)
قل: خرجنا في رُفقَة عظيمة
ولا تقل: خرجنا في رِفقة عظيمة
وكتب الكسائي: ” وتقول: خرجنا في رُفقة عظيمة، بضم الراء ومثله الكلام: جُلبَة و جُبْلَة. والجبلى: فشر القَرحة وأثرها، وجمعها جُلًب، قال الشاعر:
أصبَرُ من عودٍ بجنبيه جُلًب.”
قل: تسَرَّبتُ جِريِة الماء
ولا تقل: تسَرَّبتُ جَريِة الماء
وكتب الكسائي: “وتسَرَّبتُ جِريِة الماء بكسر أوله، والجَرية بفتح الجيم المرة الواحدة. وتقول هي بِغْيَتي، لا يقال في هذه الحروف إلا بالكسر.”
تقول: لعبت لَعْبَةً واحدةَ (بفتح اللام)
ولا تقل: لعبت لِعبَةً واحدةً (بكسر اللام)
وكتب إبن السكيت: “وتقول: لمن اللُّعْبة، فتضم أولها؛ لأنها اسم، وتقول: الشطرنج لُعْبة، والنرد لُعْبةٌ، [وكل ملعوب به فهو لُعْبة، تقول: اقعد حتى أفرغ من هذه اللُّعْبة، وهو حسن اللِّعْبَةِ، كما تقول: هو حسن الجِلْسَةِ، وتقول: لعبت لَعْبَةً واحدة، وتقول: كنا في رُفْقة عظيمة، ورَفْقةٌ لغةٌ، وقد دنت رِحْلَتُنا، وأنتم رُحْلَتُنا، أي الذين يرتحل إليهم.”
قل: قَتَلَهُ شَرَّ قِتْلَةٍ (بكسر القاف)
ولا تقل: قتله شَرَّ قَتلَةٍ (بفتح القاف)
وكتب إبن قتيبة: و ” قتَلَهُ شَرّ قِتْلَةٍ “.
وكتب الحريري: “ويقولون : قتله شر قَتلة ، بفتح القاف ، والصواب كسرها ، لأن المراد به الإخبار عن هيئة القتلة التي صيغ مثالها على فِعلة، بكسر الفاء، كقولك: ركب رِكبةأنيقة، وقعد قِعدة ركينة، ومنه المثل المضروب في الحاذق: “إن العوان لا تعلم الخمرة” من الاختمار.
ومن شواهد حكمة العرب في تصريف كلامها أنها جعلت فَعلة بفتح الفاء كناية عن المرة الواحدة، وبكسرها كناية عن الهيئة، وبضمها كناية عن القدر لتدل كل صيغة على معنى تختص به، وتمتنع من المشاركة فيه.
وقرئ: “إلا من اغترف غَرفة بيده”، بفتح الغين وضمها، فمن قرأها بالفتحة أراد بها المرة الواحدة فيكون قد حذف المفعول به الذي تقديره: إلا من اغترف ماء مرة واحدة، ومن قرأها بالضم أراد بها مقدار ملء الراحة من الماء.
قل: كانت الجَلسة الأولى جِلسة صاخبة (فالجلسة الأولى للعدد والثانية للهيأة)
ولا تقل: كانت الجِلسة الأولى، ولا تقل أيضاً: كانت جَلسة صاخبة
لأن المراد هنا وصف هيأتها، وإذا اجتمع أمران فالحكم للمتقدم منهما فهو إما العدد وإما الهيأة. يقال: متى كانت النَهضة الأولى العربية؟ ومتى كانت النِهضة العربية الأولى. ففي المثال الأول تقدم العدد ففتحنا أول الكلمة وفي المثال الثاني تقدم وصف الهيأة فكسرنا أول الكلمة. (م ج)
قل: فتحت في الشيء فُتحة (بضم الفاء)
ولا تقل: فتحت في الشيء فَتحة (بفتح الفاء)
وذلك لأن الفُتحة هو اسم الموضع المفتوح في الشيء المصمت، ولكونها مفتوحة جاءت على مثال “الفُرجة” وزناً ومعنىً، وهو أحد أوزان اسم المفعول القديمة كالحُفرة بمعنى المحفورة والثُلمة بمعنى المثلومة والحُزمة بمعنى المحزومة والنُطفة بمعنى المنطوفة والُّلقمة بمعنى الملقومة.
أما “الفَتحة” بفتح الهاء فهي مصدر المرة تقول “فتحت الباب فَتحة واحدة” و “فُتحت هذه البلاد قديماً فَتحتين” و “فُتحت تلك البلاد قديماً عدة فَتَحات”. فقل: ما أوسع هذه الفُتحة ولا تقل: ما أوسع هذه الفَتحة، يفتح الله عليك باب الصواب. (م ج)
قل: قال رسول الله: أنا سيِّدُ وَلدِ آدمَ ولا فَخْر(بسكون الخاء)
ولا تقل: قال رسول الله: أنا سيِّدُ وَلدِ آدمَ ولا فَخَر (بفتح الخاء)
وكتب البستي: قولُهُ، صلّى الله عليه وسلّم: “أنا سيِّدُ وَلدِ آدمَ ولا فَخْر”، ساكنة الخاءِ. يريدُ أَنَّهُ يذكرُ ذلك على مذهب الشكرِ والتحدُّثِ بنعمة اللهِ دونَ مذهبِ الفَخْرِ والكِبْرِ. وسمعتُ قوماً من العامَّة يقولونَ: ولا فَخَر، مفتوحة الخاءِ، وهو خَطَأٌ ينقلبُ به المعنى ويستحيلُ إلى ضِدِّ معنى الأَوّلِ. أَخبرني أبو عُمَر، أَخبرنا ثعلب، عن ابن الأعرابيّ قالَ: يُقالُ: فَخَرَ الرجلُ بآبائِهِ يَفْخَرُ فَخْراً. فإذا قُلتَ: فَخِرَ، بكسر الخاءِ، فَخَراً، مفتوحتها، كانَ معناهُ: أَنِفَ. وأًنْشَدَ: وتراهُ يَفْخَرُ أنْ تَحُلَّ بيوتُهُ بمَحَلّةِ الزَّمِرِ القَصِيرِ عِنانا أي يأنَفُ منه. قالَ أبو العباسِ: ويقالُ: فَخَزَ الرجلُ، بالزاي معجمة، وفايَشَ: إذا افتخرَ بالباطلِ، وأًنشدَ: ولا تفخروا إنَّ الفياشَ بكم مُزرِي.
قل: هم في حاجة إلى الغذاء والكسى
ولا تقل: هم في حاجة إلى الغذاء والكساء
وكتب اليازجي:”ويقولون هم بحاجة إلى الغذاء والكساء فيستعملون الكساء بالمد المطلق الملبوس وإنما الكساء ثوب بعينه وهو نحو العباءة من صوف، قال:
جزاك الله خيراً من كساء
فقد أدفأتني في ذا الشتاء
فأمك نعجة وابوك كبش
وأنت الصوف من غزل النساء
والصواب في مرادهم الكسى بالقصر مع ضم الكاف وكسرها جمع كسوة بالوجهين وهي كل ما يكتسي.” إنتهى
وقد وافق لسان العرب والصحاح رأي اليازجي في جمع “كسوة” على “كسا” إلا أن صاحب القاموس إنفرد من بين معجمات اللغة بجواز جمع الكسوة على “كساء” فكتب:
“ج: كُساً وكِساءٌ.” والله أعلم!
قل: تُعَدُّ القراءة مصباح طريق المؤمن في هذا الزمان المظلم
ولا تقل: تُعْتَبرُ القراءة مصباح طريق المؤمن في هذا الزمن المظلم
وكتب خالد العبري: “يستعمل الكثير منا كلمة “تُعتَبرُ” وما تفرّع منها، في معنى كلمة “تُعَدُّ”، فيقولون مثلاً: تعتبر القراءة مصباح المؤمن في هذا الزمان المظلم، وهذا خطأٌ شائع جدّاً بين المتعلمين حتى إن كثيراً من معاجم اللغة تستعمل “تعتبر” مكان “تعد” وقد استعملها كثير من أرباب الأدب والشعر حتى ظن بعضهم أنها صحيحة فصيحة في معناها هذا.
وهي بعيدة عن ذلك كل البعد، فـ “تعتبر” تعني: تتخذ عبرة لمن يعتبر، يقول المولى عز وجل: “فاعتبروا يا أولي الأبصار” ومنه أخذت “العبرة” – بكسر العين – أي العِظَة، يقول جل وعلا: “إن في ذلك لعبرة لمن يخشى”.
فلماذا نخلط بين الكلمتين والفرق بينهما واضح جداً. فالصواب في عبارتنا السابقة أن نقول “تُعَدُّ القراءة مصباح طريق المؤمن في هذا الزمان المظلم”. أما نقرأ في كتب الله: “وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار” ولم يقل كنا نعتبرهم، وكفى بالقرآن شاهداً ودليلاً.
وقد استعملها العرب قديماً ونأوا عن استعمال “تعتبر” ومن ذلك قول عنترة بن شداد (من الكامل):
يا قيس أنت تَعُدُّ نفسك سيداً وأبوك أعرفه أجلَّ وأفضلا
فاتبع مكارمه ولا تُذري به إن كنت ممَّن عقله قد أُكملا
ويقول لبيد بن ربيعة العامري (من الوافر):
فإن بقية الأحساب منا وأصحاب الحمالة والطعان
جراثيم منعن بياض نجد وأنت تُعَدُّ في الزمع الدواني
وغير ذلك كثير فلينظر فيه.
عبد الحق العاني
4 تشرين الثاني 2014