كنت قد كتبت عن خشية روسيا من تجزئة سورية وما يترتب على ذلك من خطر على الأمن القومي الروسي مما يسهل فهمه وقبوله.
أما اليوم فإني أكتب عن أمر أكثر تعقيداً وقد لا يبدو واضحاً لكل ذي بصيرة، وهو يتعلق بأبعاد تطور قد يتسارع في معركة سورية مما لا تريده روسيا ومما يضعها أمام خيارات صعبة. لكني قبل ذلك لا بد لي من أن أذكر ببعض الحقائق مما يسهل فهم ما استخلصه من ذلك.
إعادة جريمة تدمير العراق
لا يمكن لأي متابع ألا يقيم موازنة بين ما يحدث في سورية اليوم وما حدث في العراق منذ عام 1990 ذلك لأن موازنة كهذه تكشف حقيقة مهمة ألا وهي ان كل ما جرى ويجري في العراق وما جرى ويجري في سورية هي حلقات من مسلسل مشروع متكامل للمنطقة يهدف لإنهاء المشروع القومي العربي وإستبدال مشروع مذهبي تقسيمي به ينتهي بإعلان الإنتصار الكامل للصهيونية بأقل كلفة لها.
وربما كان في إقامة هذه الموازنة ما ينفع في تلافي الإعادة الكاملة لمؤامرة تدمير العراق في سورية، ذلك لأني لا أؤمن بحتمية التأريخ وأعتقد أننا قادرون على صنعه أو تغييره!
ومن ذلك أن العراق حوصر رغم أنه أخرج من الكويت بالقوة، ولم يكن لذلك الحصار مسوغ سوى الرغبة المؤكدة في خرابه… ولعل من الوقاحة التي يمتلكها الصهيوني (الأوربي والأمريكي) بشكل متميز.. أن نسمع هذا الضجيج الذي يدعي الإهتمام بأطفال سورية وشيوخها ونسائها من قبل الناس أنفسهم الذي أصروا على حصار شعب العراق كله وبشكل تام لمدة تجاوزت الإثني عشر عاماً! فآموس واشتون اللتان تتباكيان على أطفال سورية اليوم كانتا في السلطة أثناء حصار العراق فهل يقدر أحد أن يجد لي تصريحاً واحداً لأي منهما حول الملايين الأربعة من أطفال العراق الذين قتلهم الحصار؟؟؟؟ ولعل من المحزن أن نقر بأن شعب سورية ساهم في حصار العراق كذلك.. وهذا موضوع يتطلب مصارحة وحساباً في يوم آخر ولا شك ليكون أمانة في تدوين تأريخ هذه الأمة التي لم يعد ينفعها أن تتصرف كالنعامة متى شاءت!
ويحاصر شعب سورية اليوم دون أن يرتكب حتى جريمة غزو بلد آخر كما زعم في حال العراق.. وليس لحصار سورية سوى سبب واحد وهو إذلال الشعب السوري وهدم البنى الأساس للدولة التي أستطاعت أن تقف على قدميها وتحقق استقلالاً اقتصادياً، يمكن أن يعد إلى حد ما خارج الهيمنة الراسمالية. فأضحت واحدة من الدول القليلة في العالم دون دين في رقبتها لأحد كما كان حال رومانيا يوم دمرت باسم “الديموقراطية”! ثم ينتهي ذلك الإنهاك المستمر للجيش بإنهائه بضربة قاضية كما حدث في العراق ثم يحل الجيش العربي السوري وتسلم سورية للصهوينة كما حدث في العراق.
وجمعوا كل وسائل إعلامهم لتلفيق الأكاذيب حول العراق واختصروا العراق كله بشخص صدام وسمموا أذهان البشرية حتى اصبحت “شيطنة” صدام حسين من القباحة بان الإنسان العادي في أي مكان من العالم اصبح غير مكترث لما يمكن أن يحدث للعراق.. واليوم يعيدون الكرة في تصوير سورية وقائدها بالصورة ذاتها التي صوروا بها العراق!
واستعملوا المذهبية في العرق بنجاح فسخروا المرجعية الشيعية لدعمهم في خراب العراق واليوم يستعملون المذهبية في سورية بشكل أكثر قباحة حيث استعانوا بالوهابية الصهيونية فجندوا السوريين وغير السوريين للهجمة المدمرة على سورية.
لكن الأخطر من ذلك هو أنهم ما أن تأكدوا من نزع العراق لأسلحته الكيميائية والحيوية وأنهكوا جيشه بالحصار والجوع وإنعدام التسليح إلا وغزوه واحتلوه وأذلوه وتركوا فيه مائة ألف مرتزق يسرح ويمرح تحت غطاء شركات الأمن الخاصة وهو في واقع الحال جيش صهيوني كامل في أرض العراق!
فهل وقعت سورية في الفخ نفسه؟ أي هل إن نزع السلاح الكيميائي الذي دفع الشعب السوري كلفته من جوعه تم دون ضمانة بعدم العدوان؟
لقد إعتقدت، ربما خطأً، أن سورية لم توافق على تسليم سلاحها الكيميائي بالمجان إلا بعد أن حصلت على تعهد أمريكي مباشر أو عن طريق روسيا بعدم قيام عدوان أمريكي أو أوربي عليها…فإذا كان تعهد كهذا قد أعطي وضمنته روسيا فقد يكون لسورية تفسير في هذا التخلي عن سلاح الردع الوحيد لديها أمام ترسانة الصهيونية الجبارة..
أما إذا كانت سورية قد تخلت عن سلاحها الرادع دون تعهد أو ضمان كهذا فإن سورية تكون قد انتحرت… ومعذرة لأني لا أجد كلمة غير هذه!
فهذا هو ما حدث في العراق… فما الذي سيمنع الصهيونية أن تهاجم سورية بعد أن يتم نزع سلاحها الكيميائي بالكامل في منتصف هذا العام؟
ما الذي يعد اليوم؟
وكنت قد كتبت أكثر من مرة عن عبثية جنيف والمشاركة فيه..وانبرى عدد من المعلقين ليردوا على ما كتبت بحجة أني أجهل دخائل الأمور.. لكنه تبين أن ما كتبته كان دقيقاً في أن جنيف فشل كما توقعت لأنه كان يحمل عوامل فشله في بنيته وتركيبته وأهدافه الحقيقية… ذلك لأن الهدف الأول والأخير هو تغيير النظام في المفاوضات بعد أن فشل مشروع تغييره بالقوة… وهو تماماً ما طالبت به الولايات المتحدة عشية غزو العراق حين أعلنت أنها مستعدة لإيقاف الغزو إذا رحل نظام البعث عن العراق، وإن كانت عادت وقالت أنها ستحتل العراق حتى لو رحل صدام…لكني لست في سوق المزايدات ولا يهمني كثيراً إذا أصبت أو أخطأت في تحليل ما إذا كانت النتيجة سلامة هذه الأمة…
فما الذي يعد له الآن في الدوائر الصيهونية في أرض العرب وخارجها ..أي ما هي خطط ما بعد فشل جنيف؟
وهنا نعود مرة أخرى لما حدث في العراق لنستعيد الأحداث… فنذكر أنه ما أن انتهى غزو 1991 حتى قررت دول العدوان الصهيوني (أمريكا وبريطانيا وفرنسا) فرض مناطق حظر طيران في شمال العراق ثم أتبعت ذلك بمناطق حظر في جنوب العراق مما جعل كل العراق باستثناء شريط صغير في الوسط خارج الهيمنة الجوية للصهيوينة وذلك بحجة “حماية المدنيين العراقيين” من حكومة بغداد! والحقيقة أن مناطق الحظر تلك أصبحت مظلة للتآمر على الدولة العراقية بخلق إنفصال عملي لشمال العراق وقصف منتظم ومتكرر لكل مواقع الدفاع الجوي العراقي وتغلغل أجنبي من كل حدود العراق مما مهد للغزو النهائي في عام 2003.
واليوم نشهد تخطيطاً لخلق منطقة حظر طيران في جنوب سورية على غرار ما حدث في العراق… وهذه الخطط ليست وليدة اليوم فقد جرى الإعداد لها منذ زمن وبشكل علني وليس سرياً… فأول شاهد على ذلك أن الولايات المتحدة وضعت صواريخ “باتريوت” في الأردن منذ مدة. فما حاجة الأردن لها؟ أتخشى الأردن عدواناً سورياً عليها؟ أم أن الأردن يريد إستعمال سلاح صهيوني ضد أسياده الصهاينة؟ ويجري هذا في الوقت نفسه الذي يؤكد فيه المسؤولون الأردنيون أنهم لا يتدخلون في الشأن السوري، وهو تأكيد يذكرنا بتأكيد مشابه عام 2002 مع أن الأحداث أظهرت أن طلائع القوات المهاجمة للعراق قد دخلت من الأردن!
ثم أعلنت الولايات المتحدة أنها أبقت على عدد من الطائرات المقاتلة في الأردن… فما حاجة الأردن لطائرات مقاتلة أمريكية على أرضه؟
واليوم نقرأ أخباراً من مصادر متعددة أن طرقاً جديدة قد عبدت على الحدود الأردنية السورية وأن مخازن اسلحة عديدة بنيت في شمال الأردن…. كما أن جيشاً جديداً تم تشكيله من شذاذ الأرض الحاقدين على كل شيء من أكلة القلوب وقاطعي الرؤوس الذين شربوا الفكر الوهابي الصهيوني فخرجوا من حدود الآدمية….
إن كل ما يجري يشير إلى أن هناك نية واضحة في إعلان منطقة حظر جوي في جنوب سورية بحجة حماية المدنيين سوف يروج لها الإعلام العربي الأجير قبل الغربي … وهذا يعني أن المسلحين سوف يتحركون في شريط حدودي جنوب سورية بحرية بغطاء أمريكي صهيوني ويعجز الطيران السوري عن التصدي لهم لأنه سوف يكون عرضة للطائرات الأمريكية أما الصواريخ السورية فسوف تعترضها “باتريوت”!
ولا بد من أن يتذكر القارئ بأن دمشق تبعد مرمى صواريخ عن الحدود الأردنية واي منطقة قتال في شريط حدودي جنوبها سوف يعني أن دمشق نفسها ستكون في خط النار وما لهذا من خطر مباشر على مستقبل المعركة.. إن منطقة حظر طيران في شمال حلب قد تنفع الإرهابيين في إنتزاع شريط حدودي لكنها لا تهدد أمن سورية كما تفعل منطقة حظر جوي جنوب دمشق.
فما الذي تخشاه روسيا؟
إن ما تخشاه روسيا حقاً هو أن يتم فرض هذه المنطقة وينشأ إحتمال مواجهة بين سورية وأمريكا مباشرة..ذلك لأن روسيا تعلم جيداً أن سورية اليوم ليست العراق عام 1991 وهي لن تسكت على هذا العدوان.
فما الذي ستفعله روسيا في هذه الحالة؟
إذا سكتت وتركت الأمور تسير على وفق المشروع الصهيوني فإنها سوف تجد نفسها آخر الطريق وهي تتعامل مع سورية لا تختلف كثيراً عن العراق الممزق اليوم.
فإذا أرادت أن تتحرك لإيقاف هذا التجاوز على القانون الدولي والذي تؤكد كل يوم أنها تريد أن يلتزم به الجميع، فأمامها خيار واحد لا ثاني له..ألا وهو إمداد سورية بالسلاح الفتاك الذي يمكن سورية من تعطيل التفوق الجوي الأمريكي .. وروسيا الدولة الوحيدة في العالم التي تمتلك سلاحاً يعطل فاعلية الطيران الأمريكي وصواريخ تعطل قيمة “باتريوت”…
لكن هذا خيار عسير تود روسيا أن لا تضطر للتعامل معه..
ذلك لأن تجهيز سورية بسلاح كهذا سوف يجعل روسيا تواجه الولايات المتحدة في وقت تحرص فيه على فتح السبل لتحسين علاقتها بشكل عام مع الغرب…فتعطيل فاعلية السلاح الأمريكي سوف تعده الصهيونية عملاً عدوانياً يتطلب رداً مناسباً…
وهنا لا بد أن ندرك حقيقة مهمة في فهم الفرق بين روسيا والولايات المتحدة… وهذا الفرق لم يعد إقتصادياً أو فلسفياً كما كان الحال أيام الإتحاد السوفيتي. لكن هناك فرقاً جوهرياً بين الشعبين يتعلق بقيمة الإنسان في كل منهما.. وهذا الفرق في قيمة الإسنان ليس مرتبطاً بالنظام السياسي السائد في أي منهما بل له علاقة جدلية مع تأريخ كل منهما ونشأة الأمة… فالأمريكي لا يعد قيمة للحياة كما يعدها الروسي.. وشواهد ذلك عديدة من التجارب النووية والكيميائية التي أجرتها الولايات المتحدة وعرضت فيها جنودها وسكانها عمداً لنتائجها الى غزوها دول العالم بشكل منتظم ومستمر مما كلفها مئات الآلاف من القتلى والجرحى. إلا أن أياً من تلك السياسات لم تسقط حكومة أمريكية بل على العكس فإن شعبية بوش إزدادت بعد غزو العراق عما كانت قبله رغم الخسائر البشرية والمادية التي عانت منها أمريكا..
أما في روسيا فقد أنهت خسائر حرب أفغانستان على محدوديتها النظام الشيوعي بالكامل…وقد يقول قائل إن في هذا مبالغة لكن من يدرس المجتمع الروسي سوف يجد ان حرب أفغانستان كانت شرخاً كبيراً في النظام سارع في سقوط الشيوعية… ذلك لأن الروسي يعطي قيمة لحياة مواطنيه تفوق تلك التي يعطيها الأمريكي لمواطنيه..فالدولة الأمريكية بنيت على هذه القاعدة منذ التطهير العرقي للسكان الأصليين.. ولم يعش الروس في كل تأريخهم شيئاً يمكن أن يقودهم لهذا الإستخفاف بالحياة.
لذا فإن روسيا حريصة على أن لا تضطر لمواجهة أية دولة توضع فيها قواتها في مواجهة ساخنة … ولا أقصد بهذا أن روسيا سوف تدخل في مواجهة مسلحة ما الولايات المتحدة إذا أمدت سورية بسلاح يعطل فاعلية الطيران والصواريخ الأمريكية التي تستعمل في منطقة الحظر الجوي.. لكن الصهيونية قادرة على خلق المتاعب لروسيا في مناطق حدودها الجغرافية داخل روسيا كما في الشيشان وفي جمهوريات آسيا الوسطى وأوكرانيا وبولنده وما يترتب على ذلك من إنهاك مستمر للروس في وقت هم في أمس الحاجة للإستقرار لبناء الدولة الجديدة…
وهناك سبب آخر يدفع روسيا للتردد في تزويد سورية بأسلحة مضادة للطيران ذلك ان أي سلاح بيد سورية يسلب إسرائيل تفوقها الجوي المطلق قد يشجع سورية على القيام بعمل عسكري قد يستفز إسرئيل مما يؤدي إلى مواجهة بين الإثنين… وهذا أمر لا تريد روسيا حتى التفكير بحدوثه لأنه إلى جانب أنه قد يقود لمواجهة بين سورية والولايات الماحدة فإن روسيا لا تريد حرباً بين إسرائيل وسورية خوفاً من أن يقتل فيها أي من المليون روسي الذين يعيشون في إسرائيل… وهذا أمر كما سبق وبينت له ثقل كبير في موقف روسيا من اي صراع مع إسرائيل في المستقبل…
هذا ما تخشى روسيا حدوثه وهي تسعى بجدية بكل ما لديها من علاقات وضغوط لمنع إضطرارها لهذا الخيار وذلك بإقناع الأمريكيين بخطورة فرض منطقة حظر جوي جنوب سورية.
ما على سورية أن تفعله؟
إذا كانت سورية لم تحصل على تعهد أمريكي بعدم العوان عليها إذا نزعت سلاحها الكيميائي كما كان يجب أن يحدث فإن عليها الآن أن تعلم الروس والأمريكيين أنها الآن، وفي ضوء التهديد الأمريكي المعلن والاستعدادات التي تجري على الأرض، تجد أنها ملزمة بعدم المضي في نزع سلاحها الكيميائي ما لم تقدم الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي تعهداً بعدم القيام بعدوان أو أي عمل عسكري ضد سورية، فإن لم يأت هذا التعهد فإن سورية لا خيار لها سوى أن تحتفظ بسلاح رادع يمنع وقوع العدوان عليها كما وقع في العراق… وهذا قرار لا تلام سورية عليه لأن اية دولة في العالم كانت ستفعل ذلك!
وإذا كان الرد بأن سورية لا تحتاج سلاحها الكيميائي فإن من يؤمن بهذا عليه أن يدعمه بالتعهد بعدم العدوان وهو السبب الذي دفع سورية في المقام الأول لامتلاك هذا السلاح.
عبد الحق العاني
18 شباط 2014