لماذا الخَلقُ، وكيف؟ – الجزء الخامس

1 / 4

لماذا الخَلقُ، وكيف؟ – الجزء الخامس 

ليس في اللغات التي أعرفها كلمة تطابق في معناها كلمة “نور” العربية. وأقرب كلمة في تلك اللغات تقابل كلمة “ضوء” العربية. لكن “نور” العربية تعني أكثر من الضوء بكثير، فالضوء بعض من مظاهر النور لكنه ليس كل النور. وعَرَّفَ علماء الطبيعة “الضوء” بأنه كمية من الفوتونات (واحدها فوتون) والذي أسميته بالعربية “ضويء”. ولو استطعنا إيجاد علاقة بين هذا “الضويء” وبين أي مكون لعالم الطبيعة المحسوس لتمكنا من فهم شيء من الطبيعة. 

والضويء هو حلقة الوصل بين تداخل الطبيعة بما وراء الطبيعة. وقد يقول قائل: كيف يكون الضويء ما وراء الطبيعة؟ وجواب ذلك هو أن كل ما تعجز قوانين الطبيعة المادية تفسيره هو ما وراءها فالفكر مثلا من عالم ما وراء الطبيعة. ولا بد أن تكون الطاقة من عالم ما وراء الطبيعة والا فما هو التفسير العلمي للطاقة! لقد نجح علماء الطبيعة في إثبات انتاج الطاقة من المادة بالنظرية وبالتجربة العملية. إن عدم مقدرة علماء الطبيعة عن إثبات إنتاج المادة من الطاقة ليس دليلا على امتناع ذلك. لأن القوانين القائلة بأن كلا من المادة والطاقة لا يفنى ولا يستحدث تقضي أن كلا منهما يجب أن ينتج عنه الآخر. فاذا كنا نستخرج الطاقة من المادة فلا بد أن بالإمكان استخراج المادة من الطاقة. وهذا عندي هو ما حدث عند الخلق كما سآتي عليه حين أكتب عن بداية الخلق. 

وحيث إن الضويء هو طاقة فهو من عالم ما وراء الطبيعة وهو لا بد أن يكون من عالم الطبيعة لأنه يظهر صفات الطبيعة الى جانب صفات ما وراء الطبيعة.  

فقد اتفق علماء الطبيعة منذ زمن على أن في الكون حقيقة محسوسة في العالم المادي الذي نعيش فيه من أرض وسماء والذي تتخلله طاقة موجودة بشكلها الحر أو من تحول المادة الى طاقة. واعتقد علماء الطبيعة قديما أن كل عنصر يتألف من مجموعة من “الذرات” واعتقدوا أول الأمر أن “الذرة” هي أصغر شيء ولا يمكن تجزئتها لذا اشتقوا لها من اليونانية كلمة ‘Atom’ والتي تعني ذلك.  وحين تقدموا في العلم تبين لهم أن هذه الذرة تتألف من نواة فيها جزء موجب أسموه “بروتون” وجزء بدون قطب كهربائي أسموه “نيوترون” ويحيط بهذه النواة 


2 / 4

طبقات من “الإلكترونات” السالبة. وظلت هذه النظرية سائدة لعقود. ثم تعمقوا في ذلك فاكتشفوا أن أجزاء الذرة تلك والتي اعتقدوها أصغر ما يمكن أن يوجد هي في حقيقة الحال تتكون من جزيئات أصغر فسموها بأسماء مختلفة ثم تعمقوا أكثر من ذلك فوجدوا أن تلك الجزيئات التي تتكون منها الذرة هي بدورها تتكون من جزيئات أصغر. وهكذا استمر الحال حسب ما يصلون إليه من كشف عن طريق استنباط النظريات التي تدرس الظواهر الطبيعية أو حسب ما تقدر الأجهزة المتطورة بشكل مستمر على كشفه وقياسه. وهكذا حتى تنتهي النظرية عندي بأن الأجزاء تستمر في الصغر حتى لا تعود شيئاً. أو بمعنى أدق تنتقل من مادة الى طاقة والخط الفاصل في هذا الانتقال ليس معروفا بعد وقد لا يعرف. 

وأجمع علماء الطبيعة على انه الى جانب المادة تلك وجدت الطاقة وهي بشكلها الحر منذ الانفجار الأول أو بعد تحررها عن المادة بأشكال متعددة منها الحرارية ومنها الكهرومغناطيسية ومنها الحركية والتي يمكن أن تتحول بعضها الى بعضها الآخر مما يدل على وحدة جوهرها. 

ولم يتوقف علماء الطبيعة عند هذا إذ أنهم أثناء ملاحظاتهم وقياسهم وجدوا أن المادة التي رصدوها في السموات تتعرض لتغيير في سلوكها عن القوانين التي تخضع لها دون وجود أي تفسير لذلك التغيير. فاستنتجوا وجود شيء لا يستطيعون رصده لكنهم متأكدون من وجوده لتأثيره على المادة التي يعرفونها فأسموا هذا الشيء بـ “المادة السوداء”.  

ثم لاحظ علماء الطبيعة ظاهرة أخرى مثيرة. فقد قضت القوانين التي استنبطوها أن الكون يجب أن يبرد ويبدأ في الانكماش بعد الانفجار الأول. لكن الذي لاحظوه هو أن الكون لم يكن فقط يتوسع في امتداده وإنما كان في ذلك التوسع تعجيل مما لا يمكن أن يفسر على وفق قوانين الطبيعة التي تشير الى طاقة محدودة. فكانت نتيجة تلك الملاحظة أنهم قضوا أن هناك طاقة مجهولة في الكون أسموها “الطاقة السوداء”. 

فاستنتجوا بعد كل ذلك أن الكون يتألف بشكل أساس من “المادة السوداء” و”الطاقة السوداء” حيث إنها تشكل ما يقرب من 90% من الكون بينما تشكل المادة، التي يعرفونها ويرصدونها، ما مقدراه 10% فقط من الكون. 


3 / 4

هكذا انتهى علماء الطبيعة أن في الكون مادة وطاقة نعرفها ونحس بها ونرصدها ونطبق عليها قوانين استنبطت من وجوده وحركتها. كما أن في الكون مادة لا نعرفها ولا نرصدها لأنها لا تمتص الموجة الكهرومغناطيسية أسموها “المادة السوداء” كما أن في الكون طاقة مجهولة تشرح لنا سبب التعجيل في توسع الكون أسموها “الطاقة السوداء”.

هذه نتائج ما توصل له علماء الطبيعة بشكل عام. أما فقهاء المسلمين فلم يكتبوا في ذلك شيئا يثير الاهتمام وإن كانوا قد أمروا في التفكر وفي التفقه وفي إنذار الناس حول كل ذلك.

ولا بد من وقفة قصيرة هنا تتعلق بسبب الإشكال الذي عانى منه فقهاء المسلمين، بل فقهاء كل الأديان بشكل أدق، في عجزهم عن فهم الطبيعة المحسوسة مما اضطر أغلبهم لنبذ الفلسفة وإحالة كل مجهول للغيب. حيث تبرز عدة ملاحظات لا بد منها. 

أولها: انه تعالى خلق العالم المحسوس وأراد أن يعرف به. وقد نص على ذلك في قوله: “الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ”. فأوجب التفكر في العالم المحسوس. وبرغم أني لا أدعي أني قرأت كل ما كتبه المسلمون الأولون حول هذا لكني لا أعتقد أن التفكر في خلق السموات والأرض قد حظي بجزء بسيط من الجهد الذي صرفه الفقهاء في الكتابة عن الطهارة والصلاة والبيوع. وقد أبلغهم تعالى بأن كل ما يخص الإنسان ليس إلا اليسير من أمره فقال عز من قائل: “لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.” 

ثانيتها: إن من لا يقدر على فهم العالم المخلوق لا يقدر على فهم الخلق ومن لا يفهم الخلق لا يقدر على التفقه: “وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ”. وحيث إني قد أسلفت القول بأن الفقهاء انصرفوا الى البحث في أمور محدودة تخص حياة الناس فهم قد تخلفوا عن أمره تعالى لهم بأن يتفقهوا في الدين لأن أمور الناس وخصوصا البسيطة منها ليست من أمور الدين التي أوصى تعالى 


4 / 4

التفكر فيها والتي تقرب الإنسان من معرفته تعالى وهو السبب الذي من أجله أوجد الكون وأوجده فيه. 

ثالثتها: إن أغلب فقهاء المسلمين من كل المذاهب والمدارس ليس لهم إحاطة بحقائق الطبيعة. 

وقد يزيد الأمر تعقيدا حقيقة أنه تعالى لم يقسم العلم بالكون الى أبواب بل فعلها الإنسان لتسهيل فهمه. فليس في علم الله باب للرياضيات وآخر للفيزياء وثالث للكيمياء على سبيل المثال. فالعلم عنده واحد والإحاطة بخلقه تأتي من إلمام الإنسان بها مجتمعة حيث يرتبط بعضها ببعض. والتفكر في خلق السموات والأرض الذي أمر تعالى الفقهاء أن يفعلوه، ولم يفعلوه، يقتضي فهمهم لعلوم الطبيعة تلك بأسمائها المختلفة. وقد تعذر على الفقهاء ذلك بسبب عدم معرفتهم بعلوم الطبيعة كما أوجدها تعالى حين خلق السموات والأرض وجعل لها قوانينها. أما الذين اعتنوا بدراسة الطبيعة واستنباط القوانين التي وضعها الله لها فإنهم لم يرغبوا في الخوض بالعلم بالله إما لأنهم لم يفهموه وإما لأن الفقهاء نفروهم منه. ولم يوفق أي منهما في مهمته. فلا الفقهاء تمكنوا من فهم الخلق وعلله، ولا علماء الطبيعة فهموا حقيقة الخلق المادي المحسوس. 

وللحديث صلة…..

عبد الحق العاني

دكتوراه في الهندسة الإلكترونية

دكتوراه في القانون الدولي

ماجستير آداب في الفلسفة 

www.haqalani.com 

17 أيلول 2025

اترك تعليقاً