لماذا الخَلقُ، وكيف؟ – الجزء الرابع

وجعل الظلمات والنور

إن الحديث عن “النور” لا يمكن أن يمر دون الحديث عن “الظلمات” وموقعها في الخلق عامة والقرآن خاصة.

يقول عز من قائل في سورة الأنعام: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ“. وقد ولد عن هذه الآية بشكل خاص أفكار كثيرة تميز فيها القول بأن الظلمات سبقت النور. ولا نتفق مع هذا القول كما سآتي عليه لاحقا. وهذا هو ما قال به علماء الطبيعة وان لم يكن نصا، حيث قالوا إن “الانفجار الكبير” وقع من نقطة، وسواء أكانت تلك النقطة مضيئة أم كانت مظلمة في كونها “ثقبا أسودا”، وهي الظاهرة التي تشكل ركنا من أركان نظريتهم في الكون، فإن ما كان خارج تلك النقطة كان ظلاما وإن لم يكن كذلك فقد كان هناك شيء آخر خارج نقطة “الانفجار الكبير” وهو ما ينقض نظرية الكون عندهم مما لا يمكن أن يكون.

لكني قبل أن أعطي رأيي في الآية الكريمة أعلاه لا بد لي أن أتوقف عند استعمال كلمة “الظلمات” التي جاءت في القرآن. ذلك لأن من تدبر القرآن كما أمره تعالى في قوله: “أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا”، لوجد أن كلمة “ظلمة” لم تأت مفردة في القرآن وإنما جاءت بالجمع في “ظلمات”. ولم يكن ذلك بطريق الصدفة فليس في القرآن صدفة فكل حرف فيه له علة وفي موضعه علة: “وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا”.

وبرغم حقيقة عدم مجيء “ظلمة” مفردة في القرآن إلا أننا نجد الكثيرين من الفقهاء والفلاسفة وأصحاب الحديث يتحدثون عن “الظلمة؟ ووجودها أمام “النور”. لكنه تعالى حين أراد أن يعلمنا الموازنة بين المتضادات في عالم الشهادة قال عز من قائل: “وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ، وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ، وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاء وَلا الأَمْوَاتُ”، فعقد الموازنة بين المفرد والمفرد في الظل والحرور وبين الجمع والجمع في الأحياء والأموات. لكنه تعالى عقد الموازنة بين المفرد في “النور” والجمع في “الظلمات”، فكيف غاب هذا عن الذين بحثوا في ما سموه تضادا بين “النور” و “الظلمات”؟

وعندي أن مجيء “الظلمات” في القرآن بالجمع وليس “الظلمة” له سببان، باطن وظاهر. أما الباطن فهو متعلق بعلم الحروف الذي فتح الله به على خاصته، وزين فواتح عدد من سور الكتاب به، والتي منع تعالى خاصته من نشره بين الناس كما منع تعريف الأعراب بحدود ما أنزل الله على رسوله: “الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ”، وأكتفي بهذا القدر في هذا الباب!

أما ظاهر استعمال كلمة “الظلمات” فهو لإبعاد الحضرة الإلهية الممثلة “بالنور” عن موازنة تقابلها بالنوع أو العدد. فلو قيل (ولا تستوي الطلمة والنور)، لكان ذلك انتقاصا من الإلوهية ذلك لأن مظهرها المشار إليه بالفردية في “النور” لا يمكن أن يوزن بفردية “الظلمة” حيث لا يوجد اسم أو صفة مما يمكن أن توزن به دون أن تكون ضده وهو ليس له ضد فلو كان له ضد لكان ذلك الضد ممكن الوجود بنفسه وهذا ممتنع كما أسلفنا. وقد أكد تعالى ذلك في قوله: “لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ” فنفى المثلية والضد في الغيب، “وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ” فشبه السمع والبصر في عالم الشهادة!

لكنه تعالى حين أراد أن يقرب من عقولنا أن “النور” الصادر عنه لا يوزن بشيء فجاء بالجمع في “الظلمات” ليقول لنا إنه لو اجتمعت كل “الظلمات” في مطلقها فإنها لن تساوي “النور”. ولا يغيب عن من يتدبر القرآن أنه تعالى لم يجمع “نور” على “أنوار” كما فعل عدد من المسلمين لأن النور واحد، وهو تعالى لم يجمع “روح” على “أرواح” كما فعل المسلون كافة لأنه ليس هناك سوى روح واحد، وهذا ما قد أعود له لاحقا إن شاء الله.

إن مما لا شك فيه أن الجهل بالعربية سبب آخر في عدم فهم الآية الكريمة في سورة الأنعام. فهذا الجهل بالعربية بين العرب أساء كثيرا للإسلام وللغة العرب فكيف بك بجهل الأعاجم، الذين تصدوا للفقه والحديث، بلغة العرب! ذلك أن الإسلام كله في القرآن، والقرآن مبني على لغة العرب، “وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ”، ولا يفهم القرآن من يلحن في لسان العرب، “وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ”، ومن لا يفهم القرآن لا يمكن له أن يفهم الإسلام فكيف بمن يتصدر للتفقه في الدين دون أن يفهم العربية ويحس بها كمن فطر عليها! “وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ”. وزاد الحال سوءً حين تصدى للفقه وجمع الحديث أعاجم منهم من قضى عمره وهو يحاول أن يتعلم العربية دون أن يتمكن. وشاهد ذلك تميز سيبويه حيث أقبل كأقرانه على دراسة الفقه وحين اكتشف محدودية مقدرته على تعلمه لمحدودية فهمه للعربية انصرف عن الفقه تماما وأقبل على العربية وقضى عمره في ذلك فتعلمها وأتقنها، ولم يعد للفقه الذي خاض فيه كل من خاض بعد أن بز العرب والأعاجم في اللغة، وتوفي رحمه الله ونقل عنه أنه قال (أموت وفي نفسي شيء من حتى). لكن أمثال سيبويه في الفقه وجمع الحديث قليلون. فقد نسب لنبينا الأكرم (ص) سيد العرب والعربية “وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ”، والذي تربي في حضنه سيد البلاغة، أحاديث لغة عدد منها تُنكر حتى في زمننا الأمي هذا! فنتج عن ذلك أن دخل معاجم العربية كلمات لا أصل لها ومعان لم تعرفها العرب تخيلها الفقهاء أو جامعوا الحديث.

والجهل بالعربية لا ينحصر في المفردات ومعانيها بل هو أشد وأخطر حين يتعلق بقواعد العربية التي تشكل أسس فهم القول. وهذا يعيدنا الى الآية الكريمة في سورة الأنعام “وجعل الظلمات والنور”. فقد سبب من قال إن الآية تعني سبق الظلمات للنور في الوجود في أن “النور” عطف على “الظلمات” فجاء بعدها لفظاً فاقتضى ذلك تقدم الظلمات على النور في الوجود لتقدمها في اللفظ.

وهناك إشكالان في هذا القول:

أولهما أنه تعالى لم يقض في الكتاب، وهو حجتنا في الدين واللغة، بأن السبق اللفظي في النص يعني السبق في المقام وشواهد ذلك كثيرة في القرآن.

فمنها قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ”. فتقدم السرقة على الزنا لفظاً في هذه الآية لا يعني أن السرقة أكبر إثما من الزنا!

ومنها قوله تعالى: “آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ” فتقدم الملائكة والكتب لفظا على الرسل لا يعني تقدمهم مقاماً على الرسل بل اقتضى مجيء جملة “لا نفرق بين أحد من رسله” ذلك السياق. والأهم من ذلك أنه تعالى ثبت تقدم مقام رسوله في القرآن على كل شيء حين عطف اسم رسوله فردا على اسمه ولم يعطف الآخرين إلا بالجمع كي لا ينفرد أحد غير الرسول بهذا المقام العظيم، فقال عز من قائل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ” وقال عز من قائل: “إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ” وغيرهما كثير. وكل عطف آخر في القرآن على اسم الجلالة كان بصيغة الجمع.

والإشكال الثاني والذي لا يقل أهمية هو في جهل العرب بالعربية. ذلك لأن الواو في قوله (والنور) ليست واو العطف كما اعتقد القائلون بسبق الظلمات على النور قي غطف الثاني على الأول، وإنما هي (واو المعية)، أي جعل تعالى الظلمات مع النور وليس قبله. وهي كقولك (سرت والجبلَ) فهي لا تعني أني سبقت وجود الجبل في سيري وإنما تعني أني سرت والجبل موجود قبل سيري. وكذلك جعل تعالى الظلمات مع النور الذي كان قبل أن تكون! ولو لم يقم أي تفسير آخر لكفى هذا الشرح اللغوي للرد على خطل القول بتقدم “الظلمات” على “النور”.

ولا بد من ملاحظة أخيرة حول العلاقة بين “النور” و “الظلمات”. فقد أسلفت القول بأن النور لا يُعرَّف فهو من أمر الله وأمر الله لا يُعرَف لأنه كما وصفه نفسه: “وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ”، ووصف “النور” لا يختلف عن وصف “الروح” الذي امتنع فهمه على الإنسان واختصر ذلك تعالى في قوله لنبيه الأكرم: “وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً”. أما “الظلمات” فهي ليست مخلوقة من حيث كونها لا شيء، أي بمعنى أدق هي محاولة نفي “النور” فهي في جوهرها (لا شيء). فكيف والحال هذا يمكن الموازنة بين جوهر لا تعرف ماهيته وجوهر لا ماهية له؟

وللحديث صلة…..

عبد الحق العاني

دكتوراه في الهندسة الإلكترونية

دكتوراه في القانون الدولي

ماجستير آداب في الفلسفة

www.haqalani.com

1 أيلول 2025

اترك تعليقاً