ما هو النور؟
لا يغيب عن المتابع للقرآن أن يتنبه الى أنه تعالى، برغم قوله “الله نور السموات والأرض 1″، فانه تعالى جاء بكلمة “نور” في آيات عدة في الكتاب فقال، على سبيل المثال لا الحصر، “واتبعوا النو الذي اُنزل معه 2″، وقال عز من قائل “نورهم يسعى بين أيديهم”، وقال العليم العلام “ربنا أتمم لنا نورنا 3” ووصف قمره فقال تعالى “وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا 4”. وعند النظر الى هذه الآيات ومثلها يمكن الخروج باستنتاجين.
أولهما: أنه تعالى أخبرنا أنه برغم كونه مصدر كل نور في السموات والأرض لكنه ليس محددا في جوهره بذلك النور، أي أن النور صادر عنه لكنه، أي النور، ليس جوهره تعالى حيث لا يعلم ما هو إلا هو.
وثانيهما: أنه تعالى حين استعمل كلمة “نور” في عدة مظاهر فإنه سلب عن كلمة “نور” قدسها الإلهي وجعلها مشتركة مع مفاهيم أخرى مما منع إبليس، وهو في النظرة مسموح له، أن يدعيها لنفسه وحده فيفتن بها الناس “كما أخرج أبويكم من الجنة 5”. وذلك كما فعل تعالى حين قال عن نفسه “قل هو الله أحد 6” فَعَلَّمَنا أن الأحدية مظهر لذاته، لكنه حين قضى ألا يدعيها إبليس لنفسه نزع عن كلمة “أحد” مقام الألوهية فأطلق جواز استعمالها فقال عز من قائل “ولا يشرك بعبادة ربه أحدا”، فهي إلهية من حيث هو، وعامة من حيث نحن!
وحيث إننا استخلصنا أن إرادته أحدثت “كرسيه”، وهو الحيز الذي وسع السموات والأرض، وأنه لا يمكن أن يكون إلا غير متناه فإن وصفه تعالى بأنه نور السموات والأرض يقضي أنهما امتلأتا بذلك النور عند إرادته إيجاد “كرسيه”. إذ لو كان مع النور شيء آخر لكان في الإيجاد نقص في الحاجة الى أكثر من الواحد لتحقق الإرادة، وهذا النقص ممتنع على الكمال!
وقد لا نعرف جوهر النور لكننا يمكننا إدراك بعض من صفاته ومظاهره. فمن ذلك قوله تعالى: “والسماء ذات الحُبُك 7” وهي من الآيات التي قال فيها تعالى: “وكأيّن من آية في السموات… وهم معرضون 8”. فما هو “الحُبُك”؟
حَبَكَ فلان الثوب إذا أحكمَ نسجه. “والحبكُ تَكَسّر كل شيء كالرملة إذا مرت عليها الريح الساكنة والماء القائم إذا مرت به الريح والدرع من الحديد لها حبك أيضا قال والشعرة الجعدة تَكَسّرها حبك” (لسان العرب) وهكذا يخبرنا تعالى أن السماء نسيج محكم. فكان الشيء الذي امتد في “كرسيه” اللامتناه نسيجا متصلا متكاملا لا فراغ فيه. وهذا النسيج إذا مر عليه شيء كُسر كالرملة كما سيأتي ذكره لاحقاً. وهو كان منذ الإرادة هكذا وما زال وسيبقى كذلك. وهذه الحقيقة إذا أدركت أمكن لها أن تفسر ظواهر الخلق الطبيعي والغيبي على حد سواء أي أنها سوف تجيب على حيرة الفقهاء وبحث علماء الطبيعة.
وصفة هذا النسيج الممتد الى ما لا نهاية أنه واحد رغم عدم تناهيه، فأينما يحدث فيه حدث ما فإنه يؤثر على كليته كما لو أنه حدث في كليته. وهذا ليس صعب الفهم إذا تذكرنا أن الحيز خرج عن إرادته وان إرادته تلك لا تتجزأ فكل ما فيها هو واحد حتى إذا امتد الى ما لا نهاية له. وهذه الحقيقة عن جوهر واحدية الحيز قد تساعد في تفسير حقائق العالم الطبيعي المخلوق في داخل الحيز.
فهل في علم الطبيعة ما يقابل هذا؟
استنتج علماء الطبيعة الذين يبحثون في علم “الفيزياء الكمية” قبل زمن قصير جدا وجود ظاهرة أسموها “التشابك” مفادها أنه إذا وقع حدث لجزيء في مكان ما من الكون فإن الحدث نفسه سيصيب جزيئا قرينا له وإن كان في الطرف الآخر من الكون دون زمن أو انتقال. وهذه الظاهرة، والتي ثَبتتْ صحتها بالقياس، لا يمكن أن تتحقق إلا لكونها وقعت في الحيز الذي وصفته بأنه واحد برغم امتداده غير المتناه والذي يتصرف كل جزء منه كأنه الكل ويتصرف الكل فيه كأنه أي جزء منه دون انتقال أو حركة لأي جزء منه.
ولا بد أن يسأل من يسأل: وما هو دليلك على هذا؟ أي ما هو دليلك على أن هذا ما حدث في ظهور الكون بهذا الشكل المحدث عن إرادة الله ولا غير؟ وجوابي أني ليس عندي أكثر مما عند علماء الطبيعة من حيرة في تفسير هذا. فكلانا يقبل حقيقة عنده قد تكون غيبية بالنسبة للآخر مفادها أن الأمر هكذا كان دون معرفة كيف كان هذا الذي كان!
فالحال عند علماء الطبيعة الذين اتفقوا على نظرية “الانفجار الكبير”، والتي مرت هي نفسها بتعديلات كثيرة حتى كاد لم يبق من النظرية الأصلية سوى اسمها، اتفقوا على أن الانفجار وقع لنقطة مجهولة الأصل والتكوين. أي أن أصل الكون عندهم مجهول كما هو الحال في الاستنتاج الديني الذي أعتقد به. وكل النظريات التي جاؤوا بها تحاول أن تفسر ما حدث بعد الانفجار الكبير وليس ما كان قبله لأن ما كان قبله مجهول تماما. والحال عندنا لا يختلف عن ذلك كثيرا.
وهنا تبرز جدلية جديدة سواء في الدين أم في علم الطبيعة، ألا وهي هل هناك معنى للسؤال عن متى حدث هذا؟ أي متى أراد تعالى أن يُعرف فانبجس عن إرادته “كرسيه” الذي وسع السموات والأرض، أو متى وقع “الانفجار الكبير” ليولد الكون المشهود كما يقول علماء الطبيعة.
وعندي أن سؤالا كهذا لا معنى له ولا يصح أن يسأل. ولكي أبين سبب هذا أبدأ بما يقوله علماء الطبيعة عن عمر الكون. فقد اتفق علماء الطبيعة على وفق نظرياتهم وأرصادهم ولفترة ليست بالقصيرة على أن عمر الكون يقرب من 13 ألف ألف ألف سنة وهي، أي السنة، محسوبة بقياسنا للسنة الأرضية حيث لا معنى آخر لها في عالمنا المحسوس. لكن هذه النظرية عن عمر الكون تعرضت لعدة مراجعات بسبب رصد وحسابات جديدة، وكان آخرها أن الرصد الجديد اكتشف مجرات قديمة في النشأة بحجم أكبر مما تسمح به نظرية العمر القديمة وحين أدخلوا الحسابات الجديدة وجدوا أن عمر الكون ربما يقرب من 30 ألف ألف ألف سنة! وهذا لا بد أن يسجل نصرا موضوعيا في قبول علوم الطبيعة تعديل نظرياتها تبعاً لما تتوصل إليه. لكنه في الوقت ذاته يكشف لنا أن رصدا جديدا قد يغير هذا الاستنتاج الجديد كي يأتينا بعمر للكون يختلف عن هذا الأخير بأضعاف مضاعفة. وهذه الأرقام الفلكية لا تعني كثيرا للإنسان العادي بل وحتى لطالب العلم. فحين نتحدث عن ألف ألف ألف عام فما الفرق بين أن تكون المدة 13 أو تكون 30. إن النتيجة التي يطلع بها المتابع لهذا هو أن علم الطبيعة توصل إلى حقيقة مفادها أن هذا الكون سحيق في قدمه الى الحد الذي يعجز فيه العقل البشري عن استيعابه!
أما نحن فلنا في هذا رأي آخر.
ذلك أننا ابتدأنا بالقول إن الله تعالى وحده واجب الوجود وما سواه وجد لأنه أراد أن يُعرف فأوجده كي يُعرف به. وهو عندنا أعقل من القول بأن الكون ولد عن نقطة ما وجدت دون معرفة سبب وجودها ثم انفجرت! وقلنا إنه تعالى حين أحدث الحيز الذي أسماه “كرسيه” وجعله غير متناه لا بد أن يكون هو في نفسه مطلقا غير متناه! وهذا يعني أن هذا المطلق كان قبل إيجاد أي شيء، قبل الحركة وقبل الزمن وقبل الخلق. فإذا كان هذا هو الحال قبل إرادته في أن يُعرف فإن ذلك كان ولا زمن. فإذا كان ذلك ولا زمن فما معنى أن يسأل السائل متى حدث ذلك؟ فإذا لم يكن هناك زمن فلا معنى للسؤال عن شيء لم يكن موجودا. وهكذا فإننا نرى أن السؤال عن عمر الكون لا معنى له للعاقل الذي يدرك أن السؤال عن متى حدث هذا يتم بعد خلق الزمن لا قبله. وما دمنا لا نعرف متى وجد الزمن فلا معنى للسؤال عما حدث قبله.
وللحديث صلة…..
عبد الحق العاني
دكتوراه في الهندسة الإلكترونية
دكتوراه في القانون الدولي
ماجستير آداب في الفلسفة
www.haqalani.com
20 آب 2025
- اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) سورة النور
- الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) سورة الأعراف
- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) سورة التحريم
- وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) سورة نوح
- يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) سورة الأعراف
- قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) سورة الإخلاص
- قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) سورة الكهف
- وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) سورة يوسف