لماذا الخَلقُ، وكيف؟ – الجزء الثاني

ما أول ما أوجده الله؟

يقول عز من قائل في سورة البقرة في ما يعرف بآية الكرسي والتي لم يأت اسمها اعتباطا بل لعلة:

“اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ” (255).

ولا شك أنه يمكن الوقوف عند هذه الآية وتسويد الصفحات عن محتواها. لكني سوف أتوقف عند قوله تعالى: “وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ” والذي نُسبت الآية اليه.

فما هو “كرسيه” وكيف وسع كرسيه السموات والأرض إن لم يكن أكبر منها ومحيطا بها! ثم كيف يمكن أن يسعها إذا لم يكن قد وجد قبلها؟ ذلك ان السموات في توسع مستمر حيث يقول تعالى: “وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) سورة الذاريات”، وهذه السعة في السموات غير محددة وليس في علمنا خلاف ذلك. فاذا كان الحال كذلك فقد وجب أن يكون الكرسي ليس فقط محيطا بالسموات، وهي تتسع، بل أن يكون قبلها ولا حدود له، أي يكون غير متناه.

فماذا يعني هذا؟ إنه يعني ولا شك ان الكرسي كان قبل الأرض والسماء حتى يمكن أن يحيط بها مهما اتسعت. فكيف يمكن هذا إذن؟ وماذا يعني؟ إن من السهل القول كما قال ابن عباس وغيره إن الكرسي هو علم الله المحيط بكل ما في السموات والأرض. لكن هذا لا يكفي. لأنه تعالى محيط بكل شيء وما احتاج للكرسي أن يقوم بذلك. فلو قال “علمه” و “وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ” بدل “كرسيه” لما برز السؤال حول المراد من “كرسيه”.

وقد يجد من يقرأ هذا لأول مرة غريبا ذلك لأن أول ما يتبادر لذهن السامع حين يسمع كلمة “كرسيه” أنه الكرسي الذي يُجلسُ عليه. لكن هذا ليس هو ما أراد تعالى أن يشير له في الآية الكريمة. فما هو أصل الكلمة عند العرب، والقرآن والخطاب كله بلغة العرب؟

أخبرنا ابن فارس في باب “كرس” في مقاييس اللغة: (الكاف والراء والسين أصل صحيح يدل على تلبد شيء فوق شيء. واشتقت الكُرَّاسَةُ من هذا لأنها ورق بعضه فوق بعض.)

ونقرأ في العباب الزاخر: (كَرِسَ الرَّجُل -بالكسر-: إذا ازْدَحَمَ عِلْمُه على قَلْبِه.)

أما ابن منظور فجمع ما استعملته العرب في باب “كَرَسَ” فكتب: (كل ما جعل بعضه فوق بعض فقد كُرّس وتكَرَّس هو. ابن الأعرابي كَرَس الرجل إذا ازدحم علمه على قلبه………. وقال قوم كُرْسيّه قُدْرَتُه التي بها يمسك السموات والأَرض. قالوا: وهذا كقولك اجعل لهذا الحائط كُرْسِيّاً أَي اجعل له ما يَعْمِدُه ويُمْسِكه.)

وهكذا يتضح أن العرب استعملت الكرسي والجذر “كرس” لتعني شيئا أوسع وأعم من موضع الجلوس والذي يبدو أنه، اي الإستعمال الأخير، جاء لاحقا كاشتقاق من المعنى الأصلي للجذر “كرس” الذي يعني تراكم شيء فوق شيء. وقد استوقفني ما كتبه ابن منظور في قوله: (اجعل لهذا الحائط كرسيا أي اجعل له ما يعمده ويسنده). وهذا عندي هو ما أراده تعالى في وصفه للمطلق الذي خرج عن إرادته بانه “كرسيه”، وهو الكرسي الذي يعمد ويمسك كل ما تراكم فيه من إرادته المطلقة.

هذا ما يتعلق بظاهر كلمة “كرسيه” أما باطنها فهو للخاصة وحدهم. ذلك أن الله قال عن نفسه: “هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) سورة الحديد “، فوجب أن يكون لقوله وفعله ظاهر وباطن. وباطن علمه ليس مشاعا لإنه تعالى أمر ألا يكون مشاعا فقال عز من قائل: “الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلمَواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) سورة التوبة”. ولا يمكن لهذه الحدود أن تكون حدود ظاهر الدين، فما الحكمة في دين مُنِعَت حدوده عن الناس؟ فلو مُنعت حدود ظاهر الدين عن أحد ما كان من العدل أن يحاسبه تعالى عما حجب عنه. أما مسؤولية “الخاصة” عن حدود باطن الدين وإيفائها حقها فهي عليهم لأنها كشفت لهم كل على قدر استعداده في التلقي والقبول.

وجاء في الحديث الذي نقله شيوخ الصوفية بشكل خاص أن رسولنا الأكرم (ص) سُئل: أين كان ربنا قبل خلق السموات والأرض؟ وقيل لنا إنه رد قائلاً: (كان الله ولا شيء معه). وقد يشك من يشك بصحة هذا الحديث ونسبته للرسول الأكرم (ص)، وله الحق في ذلك لأن “الحديث” دخله الكثير من العبث والتلفيق مما يخدم مصلحة العابث أو الملفق. فقد شاء تعالى ألا يحفظ سوى القرآن فقال عز من قائل: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) سورة الحجر”. لكن جوهر ذلك الحديث صحيح عندي مما يدفعني أن أصدق نسبته لنبينا (ص). إذ لا بد أن يكون للخلق بداية فلو لم يكن للخلق بداية لشارك الخلق الخالق في القدم، وهذا لا يستقيم إذ أن القديم لا يحتاج لعلة. فلو كان هناك قديمان، أي الله والخلق، لتساويا في العلم والقدرة، وكان كل منهما واجب الوجود بنفسه، لكن هذا ممتنع لقوله تعالى: “لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) سورة الأنبياء”. فلا بد والحال هذا أن يكون الله وحده قديما وأن يكون كل ما سواه محدثاً و معلولا.

وشاع بين المسلمين الحديث القدسي المخبر انه تعالى قال لأحد أنبيائه حين سأله عن سبب الخلق: “كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبه عرفوني”. ومن هذا عرفنا أن الخلق نتج عن “إرادته” في أن يُعرف. لذا فإن واجب الوجود بنفسه كان موجودا ولا شيء معه، وحين أراد أن يُعرف فان إرادته أوجدت “كرسيه”.

وذلك أنه حين أمتنع أن يتصل المخلوقُ بالخالق فإن إرادته أوجدت بينه وبين خلقه حجابا يجري فيه ذلك الخلق، وفيه وجد الخلق لاحقاً. وحيث إن إرادته تعالى، في أن يُعرف، كانت قبل الخلق فإن خطابا منه لم يقع بعد حين أحدث “كرسيه” إذ أن النطق كان بداية الخلق في خروج الحركة مع تكوين الزمان والمكان، لذا فإنه تعالى لم يُسم ذلك الحيز باسم حتى وقع النطق عند الخلق فسماه “كرسيه”، وهذه التسمية هي للتعريف لنا وليست له. فإرادته لا تحتاج لتعريف.

ولم يوجد هذا الحيز المطلق في زمن أو حركة بل كان انبثاقا آنيا كما وصف تعالى أمره من باب التقريب لعقولنا، وليس من باب التقرير عن مقدار ما يتخذه ذلك الأمر، حين قال عز من قائل “وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) سورة القمر”.

وحيث إن إرادته هي من سابق علمه بخلق السموات والأرض فقد وجب أن يكون “كرسيه” لا حدود له. فكان كرسيه حيزاً مطلقاً غير متناه وكان جوهره ممتنع المعرفة لنا حيث اختص تعالى تلك المعرفة لنفسه. فنحن لا نعرف عن “كرسيه” سوى ما أظهر لنا من إرادته أن يظهر لنا كما حدث في الخلق. ومن جوهر “كرسيه” ولدت جواهر المخلوقات والأعراض. فكل جوهر وكل عرض لا بد أن يكون صادراً عنه وموجوداً فيه لأنه محيط بالكل.

لكن جهلنا بمعرفة كنه جوهره لا يمنعنا من القول بان “كرسيه” نور لأنه تعالى يقول: “اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ”، فما دام كرسيه محيط بالسموات والأرض فلا بد أن يكون فيه نوراً إذ لا يمكن أن يسع النورَ إلا النور، وليس هناك ما هو أكبر من النور حتى يمكن أن يسع السموات والأرض.

فما هو النور؟

وللحديث صلة…..

عبد الحق العاني

دكتوراه في الهندسة الإلكترونية

دكتوراه في القانون الدولي

ماجستير آداب في الفلسفة

12 تموز 2025

اترك تعليقاً