النساء
تمتع النساء في العراق بحياة أفضل من النساء في العديد من بلدان الشرق الأوسط طوال القرن العشرين وحتى الغزو. ولا توجد وسيلة لإجراء مقارنة بين النساء في العراق والنساء في شبه الجزيرة العربية على سبيل المثال. فبينما يمكن للعراقيات الدراسة والعمل والسفر والتنقل كما يحلو لهن فإن مثيلاتهن في الجزيرة العربية لا يحظين بمثل هذا الحظ حيث ما يزال غير مسموح لهن قيادة سياراتهن. ومع ذلك يبدو أننا في الغرب مصرين على تغيير الأنظمة “الليبرالية” مثل تلك الموجودة في العراق وسورية بينما نذعن لأنظمة الطغاة الظالمة مثل تلك الموجودة في شبه الجزيرة العربية. وعندما يُسأل السياسيون الغربيون عن هذا فإنهم يردون بأن لدينا مصالح حيوية في شبه الجزيرة العربية. ألا يعني ذلك أنه لو كانت مصلحتنا محمية بالعراق وسورية لكنا سعداء للغاية بـ “صدام المستبد” أو “بشار المستبد”؟
تمتع النساء في العراق من نواحٍ عديدة بمساواة أفضل من النساء في بعض البلدان المتقدمة للغاية في أوروبا فقد كان لديهن الحق في التصويت قبل النساء في سويسرا وتمتعن تلقائياً بأجر متساوٍ مع الرجال عند أدائهن نفس الوظائف التي لا تتمتع بها النساء في بريطانيا أو فنلندا. نحن لا نحاول القول بأن النساء في العراق يتمتعن بحقوق وامتيازات كاملة لكننا نقول إنه مقارنة بالدول من حولهن وفي السياق التاريخي والاجتماعي للتطورات فقد تم تحريرهن. وفي الواقع حصل النساء في العراق على حق التصويت عام 1948 قبل تشيلي والهند وكندا واليونان والبرتغال وسويسرا. وكان للعراق في عام 1959 أول وزيرة في تاريخ العراق الحديث وأول وزيرة في العالم العربي في نزيهة الدليمي وزيرة للبلديات. وحاولت جميع الأنظمة منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى عام 1968 بشكل عام تحسين حياة المرأة في العراق وكانت هناك تقلبات تتماشى مع المناخ السياسي المتغير. وهكذا عندما عدل قاسم قانون الأحوال الشخصية العراقي بحيث يمكن للمرأة أن تتقاسم الميراث بالتساوي مع الرجل مقابل نصف نصيب الرجل عكس انقلاب عام 1963 ذلك بضغط من العناصر الإسلامية التي شاركت في الانقلاب .
عندما تولى حزب البعث السلطة عام 1968 وتماشياً مع خططهم الطموحة لتطوير العراق الحديث تم تبني عدد قليل من القوانين التشريعية من أجل تحسين وضع المرأة وتحقيق تنمية اقتصادية سريعة . حيث إن المادة 19 من الدستور العراقي المؤقت 1970 تعلن أن “المواطنون سواسية أمام القانون دون تفريق بسبب الجنس أو العرق أو اللغة أو المنشأ الاجتماعي أو الدين”. يمكن القول إن العديد من الدساتير لديها مثل هذا البند لكنه لم يتم تفعيله في الواقع. ومضى البعث ليسن عدة قوانين أخرى لفرض هذه المساواة فألزم قانون التعليم الإلزامي (118/1976) الأطفال من كلا الجنسين بالذهاب إلى المدرسة بين سن السادسة والعاشرة وسمح بعد ذلك للفتيات بترك المدرسة بموافقة والديهن أو أولياء أمورهن . وقد تم تطبيق هذا التشريع بالفعل وكان جميع الأطفال في العراق بحلول الثمانينيات في تلك الفئة العمرية مسجلين في المدارس والتحقوا بها. وتقلصت الفجوة في الوقت نفسه بين النوعين في محو الأمية بقانون “الحملة الوطنية الشاملة لمحو الأمية الإلزامي رقم 92/1978” والذي كان تشريعاً ثورياً بكل المقاييس. ودعت جميع العراقيين الأميين من الرجال والنساء الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والخامسة والأربعين إلى حضور فصول في “مراكز محو الأمية” المنشأة في جميع أنحاء البلاد. وقد قوبلت الحملة بمعارضة قوية لا سيما في المناطق الريفية المحافظة من البلاد ولكن يبدو أن “الاستبداد” الذي يمارس نيابة عن الأمة كان لديه القوة لفعل الخير. وحقق العراق بحلول عام 1982 نجاحاً لا مثيل له في أية دولة نامية أو حتى بعض الدول المتقدمة في القضاء على الأمية. ولا ينبغي التقليل من تأثير هذا الإجراء الثوري في التعليم فقد فتح آفاق الناس وزاد من احترام الذات لدى البالغين الذين لم يتخيلوا من قبل قدرتهم على القراءة والكتابة والمشاركة في تعليم أطفالهم.
أصدرت حكومة البعث في رغبة منها لتوسيع نطاق المعاملة المتساوية للنساء قانون العمل 151/1970 (الذي ألغي لاحقاً بموجب القانون 81/1987) الذي منح المرأة أجراً متساوياً مع الرجل وعدم التعرض للتحرش في مكان العمل. وسمح قانون إجازة الأمومة لعام 1987 للمرأة بالحصول على إجازة أمومة مدتها ستة أشهر مدفوعة الأجر مع ستة أشهر أخرى بنصف الأجر .
يمكن القول بالطبع إن حزب البعث كان يجب أن يفعل المزيد للنساء مثل إلغاء القانون الذي يمكّن الزوج من تأديب زوجته أو مساواة النساء بالرجال في حقوق الميراث. لكن هناك العديد من العوامل التي يجب مراعاتها عند تقويم احتمالات مثل هذه التوقعات. كانت القيم الثقافية السائدة والتي تستغرق وقتاً طويلاً للتغيير تعمل ضد هذه التغييرات. لكن العنصر الأكثر أهمية في مواجهة مثل هذه التغييرات الجذرية في اعتقادنا يرجع إلى التحريف الثقافي للتعاليم الإسلامية الذي استمر قرابة أربعة عشر قرناً وسيتطلب تغييراً أكثر من مجرد تشريعات.
لكن هذا الاتجاه المتمثل في تأمين معايير لائقة ومنصفة للمرأة في ما هو في الواقع ليس سوى مجتمع ذكوري تم عكسه بعد غزو عام 2003 بفترة وجيزة. وقد أدت الديمقراطية الموعودة لبريمر في الواقع إلى موجة من الاعتداءات على النساء العراقيات. فبعد فترة وجيزة من الغزو وتفكيك الدولة دون إيجاد بديل واجه النساء في العراق بشكل عام وفي بغداد بشكل خاص موجة من الخطف كان من الصعب فهمها. وثقت هيومن رايتس ووتش موجة من “العنف الجنسي والاختطاف ضد النساء في بغداد” . ويخبرنا تقرير آخر لهيومان رايتس ووتش أنه “بعد عام 2003 قامت المليشيات والمتمردون وقوات الأمن العراقية والقوات متعددة الجنسيات والمتعاقدون العسكريون الأجانب الخاصون باغتصاب وقتل النساء” . ويمضي التقرير ليشير إلى أنه لم يتم حتى الآن توجيه تهمة الاغتصاب إلى أي عراقي على الرغم من ذكر مثال واحد لجندي أمريكي اغتصب فتاة تبلغ من العمر 14 عاماً وقتلها هي وعائلتها. وتم إبعاد النساء والفتيات عن المدارس والعمل وذلك لتأمين الحفاظ على الذات .
صحيح أنه خلال السنوات الأخيرة من حقبة العقوبات تعرض النساء لتغييرات في وضعهن عندما وقع البعث تحت تأثير المتعصبين الدينيين من الرواد والمدافعين عن ما يسمى بـ “الحملة الإيمانية” . لكن انهيار الدولة في عام 2003 وانتفاء وجود آلية بديلة لحماية المرأة أطلق العنان لسلطات جديدة. فما تزال الممارسة الثقافية المتمثلة في “جرائم الشرف” قائمة في المجتمع العراقي. وقد سادت العادات القبلية والممارسات الأصولية الدينية والقيم العائلية الأبوية وأدت إلى آثار ضارة على حقوق المرأة. وأدى كل هذا إلى حالة انتهى فيها المطاف بالنساء في العراق اللواتي وعدت لورا بوش بإنقاذهن “بحقوق أقل ومزيد من العنف” مما واجهن خلال الثمانين سنة الماضية . أعطت منظمة هيومن رايتس ووتش، وهي مؤسسة محافظة عادة، نتيجة لدراستها الإيجاز التالي حول وضع المرأة في العراق في عام 2011:
كان لتدهور الوضع الأمني منذ عام 2003 إلى جانب تنامي النفوذ القبلي والتطرف السياسي المتأثر بالدين والأحزاب السياسية المحافظة المتشددة تأثير ضار على النساء والفتيات .
لاحظت زلا آيزنشتاين وهي ناشطة نسوية بحثت في وضع المرأة العراقية منذ الغزو والاحتلال أنه “من الصعب تحديد أيهما أسوأ: دولة شبه علمانية مع حاكم شمولي يُدعى صدام حسين أو متطرفون دينيون يمينيون يتنافسون من أجل رؤيتهم الذكورية للحياة ” . وأفادتنا آيزنشتاين بأن حماية حقوق المرأة لم تكن ضمن جوهر سياسات بوش أو أوباما في العراق على الرغم من أن هذا يشكل إحدى نقاط الحوار المحورية التي تسوغ سياساتهما. كما تبلغنا آيزنشتاين بنشاط مجموعة تُدعى “مادري” والتي كانت موجودة على أرض الواقع في العراق منذ ما يقرب من عقد من الزمان وهي تبحث وتصنف عمليات اغتصاب وإساءة معاملة النساء العراقيات من قبل القوات الأمريكية والعراقية. ونعتقد أن معظم النساء العراقيات اليوم يفضلن الأولى على الثانية إذا كان هذا هو الخيار الوحيد المتاح لهن.
لعل من أخطر التغيرات التي حدثت للمرأة في العراق كان الاتجار بالنساء الذي كان له آثار دائمة على نسيج المجتمع. إن من الصحيح القول إنه في الفترة الأخيرة من حقبة العقوبات عندما بدأت بعض العائلات تجد أنه من المستحيل إطعام أطفالها لجأ بعضهم في حالة يأس إلى تزويج بناتهم في زيجات مرتبة من أشخاص خارج العراق مما مكنهم من تقليص عدد الأفواه الواجب اطعامها بالإضافة إلى المهر الجيد للفتاة المتزوجة. لكن هذه الممارسة أصبحت منذ الغزو أكثر شراً. ولن نتطرق إلى سبب قيام العائلات ببيع أطفالها سواء كان ذلك بدافع الجشع أو الحاجة الحقيقية للمال أو آثار طريقة الحياة غير الشرعية التي جلبها الغزاة إلى العراق. ولكن مهما كان السبب فقد أصبح العراق للأسف أحد المصدرين الرئيسيين للبغايا في الشرق الأوسط في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
اهتز المجتمع العراقي المحافظ، الذي لم يكن يعرف الكثير من الهجرة حتى التسعينيات، فجأة وتحول بسبب الحرب وتأثيرها مع تغييرات جذرية في القيم الأخلاقية لا تختلف كثيراً عن تلك التغييرات التي حدثت في أوروبا بين الحربين العالميتين أو إلى درجة أكبر بعد الحرب العالمية الثانية. ويبدو أن الحروب تؤدي إلى مثل هذه النتائج. وقد أدى ذلك في العراق إلى استعباد النساء والفتيات اللائي يُجبرن على ممارسة الدعارة وهو ما “يتبع طلب السوق وفي حالات ما بعد الصراع غالباً ما تنشئ هذا الطلب قوات حفظ السلام الدولية” . وعلى الرغم من أنه من المقبول أن العنف الجنسي قد رافق الحرب عبر التاريخ إلا أن “ما يحدث في العراق اليوم يكشف إلى أي مدى تراجعت دولة تقدمت ذات مرة (مقارنة بجيرانها) فيما يتعلق بقضية حقوق المرأة ومدى شراسة التمزق في الوشائج في المجتمع العربي التقليدي الذي يقدر عذرية الإناث . ولا أحد يعرف حقاً مدى تأثير سوق الجنس هذا على قيم المرأة والأسرة والعراق بشكل عام.
أصبح الاتجار بالنساء في العراق تجارة كبيرة وتخبرنا هيومن رايتس ووتش أن الطلب على الفتيات الصغيرات بين سن 11 و12 مرتفع للغاية حيث يرغب كبار السن “المرضى” من الخليج في دفع ما يصل إلى 30 ألف دولار لكل طفل . أما الفتاة فوق سن العشرين فيعتبرها السوق أكبر من أن تجلب سعراً جيداً – قد يصل سعره الواحدة إلى 2000 دولار.
يبدو أن الكثير من الناس قد شاركوا في هذه الممارسة الجديدة لتصدير الدعارة. كان المُتاجِر يتزوج أربع فتيات ويأخذهن إلى سورية أو الأردن ويطلقهن بمجرد وصوله إلى هناك في سوق العبيد ويعود للزواج من أربعة آخريات وهكذا. ومن الطبيعي أن تثير ممارسته المتكررة بعض الأسئلة بين ضباط الهجرة حول مراقبة الحدود ولكن نظراً لأن الفساد أصبح هو القاعدة في العراق فإنهم سيظلون صامتين طالما تتم العناية بهم جيداً. أما العنصر الآخر الداعم في سوق الجنس فهو الممارسة الدينية بين رجال الدين السنة والشيعة على حد سواء حيث وافق كلاهما على قبول الزواج المؤقت والمعروف باسم المسيار للسنة والمتعه للشيعة . لذا فإن الإسلام الذي كان يهدف إلى حماية النساء المستضعفات قد تم تحويره في العراق الديمقراطي إلى أداة للتعذيب والقتل على خلفية الشرف والاستعباد الجنسي. وسجلت منظمة هيومن رايتس ووتش عدة حالات تعرض فيها النساء ولا سيما الأرامل المحتاجات إلى المساعدة لمضايقات من قبل رجال الدين للدخول في زواج مؤقت مقابل خدمات في تأمين عمل لهن .
وتشير التقديرات إلى أن “4000 امرأة عراقية خمسهن تقل أعمارهن عن 18 عاماً قد اختفين في وضح النهار منذ الغزو عام 2003 ويعتقد أن العديد قد تم الاتجار بهن .”
الاستيلاء على نفط العراق
عندما احتل الاستكباريون البريطانيون العراق في عام 1918 تأكدوا من أنه مهما كانت النتيجة السياسية لهذا الاحتلال فلن تكون هناك مفاوضات حول ملكيتهم الكاملة لاحتياطيات النفط الواعدة في العراق. وقد أجبروا الحكومة العميلة التي زرعوها في بغداد على منحهم حقوق التنقيب عن النفط في جميع أنحاء العراق لما يقرب من 90 عاماً . كانت الاتفاقية خبيثة للغاية وتمحورت حول خدمة مصالح شركات النفط العالمية العملاقة مع تجاهل تام لمصالح العراق. وهكذا تم تحديد الأسعار من قبل شركات النفط وتحديد مستوى الإنتاج من قبلهم دون أن يكون للعراق دور في أي منهما.
واستمر هذا الوضع حتى انقلاب عام 1958 بقيادة اللواء قاسم الذي بدأ مفاوضات مع شركات النفط لتغيير اتفاقية تأجير العراق كله لها. كانت مقاومة شركات النفط لأي تغيير قوية ومتلاعبة فقد ردت الشركات بدعم العديد من الحركات السياسية المعارضة لقاسم. وعندما فشلت هذه المفاوضات أصدر قاسم القانون الأكثر ثورية في تاريخ العراق في القرن العشرين مما فتح الطريق أمام العديد من الاضطرابات والتغييرات السياسية وتسبب من بين أمور أخرى في سقوط قاسم نفسه. سلب القانون رقم 80 لعام 1961 حقوق شركات النفط في كل العراق التي لم يتم استغلالها بعد من قبل هذه الشركات والتي بلغت حوالي 99٪ من أراضي العراق. وبعد انقلاب عام 1963 الذي أطاح باللواء قاسم كان هناك تقاعس عن النفط لبعض الوقت وهو ما كان جزئياً بسبب أن شركات النفط قد خططت له ونفذه حلفاؤها داخل النخبة السياسية في العراق في الستينيات وجزئياً بسبب الاقتتال الداخلي على السيادة السياسية في العراق .
ومع ذلك عندما تولى البعث السلطة الكاملة على العراق في عام 1968 تم وضع نهج جديد للنفط، عده البعث النقطة المحورية في تطور العراق، موضع التنفيذ. وأجريت مفاوضات جادة جديدة بين شركات النفط وفريق عراقي طموح وثوري بقيادة صدام حسين. وعندما بدأت المفاوضات تطول مرة أخرى ضغطت شركات النفط على العراق من خلال خفض مستويات الإنتاج فأخذت حكومة البعث زمام المبادرة وشرعت في برنامج التأميم الذي وضع بحلول عام 1975 كل نفط العراق في أيدي العراقيين لأول مرة منذ اكتشافه.
تمكن العراقيون بين عامي 1975 و2003 من استغلال النفط وإنتاجه وتكريره وتصديره دون الحاجة إلى شركات النفط العالمية العملاقة التي كانت قد مارست السيطرة على نفط العراق لأكثر من أربعين عاماً. وعندما فُرض الحصار الشامل على العراق عام 1990 كان النفط ضحية فورية كما كان متوقعاً بالفعل. ولم يسمح في السنوات التي سبقت بدء العمل ببرنامج النفط مقابل الغذاء بدخول أي قطع غيار إلى العراق حتى بالنسبة لصناعة النفط الحيوية مما أجبر العراق على الاعتماد على السوق السوداء والتهريب للحفاظ على الخدمات الحيوية للاستغلال والضخ. ولكن حتى بعد إدخال برنامج النفط مقابل الغذاء فإن لجنة العقوبات المتجبرة، التي لا تحتاج قراراتها إلى تسويغ أو تفسير ولا يمكن استئنافها ويمكن أن يتخذها أي من أعضائها الخمسة عشر، منعت العديد من الطلبات لقطع غيار النفط رغم طلب الخبراء المعينين من قبل الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان. كانت الآثار رهيبة لدرجة أن أنان أبلغ مجلس الأمن بأن صناعة النفط في العراق على وشك الانهيار . وفي بيان أدلى به أمام نفس الجلسة قال الأمين العام للأمم المتححدة:
… ومع ذلك ، فإن صناعة النفط في العراق معرقلة بشكل خطير بسبب نقص الأجزاء والمعدات، وهذا يهدد بتقويض دخل البرنامج على المدى الطويل.
ولهذا السبب أوصيت مراراً وتكراراً بزيادة كبيرة في تخصيص الموارد في إطار البرنامج لشراء قطع غيار لصناعة النفط. إنني أفهم أن المجلس مستعد الآن للنظر في هذه التوصيات بشكل إيجابي وسأرحب كثيرا بذلك.
لكن يجب أن أذكر أيضا ً أن العديد من عمليات “التعليق” على طلبات العقود التي فرضها أعضاء لجنة 661 لها تأثير سلبي مباشر على البرنامج الإنساني وعلى جهود إعادة تأهيل البنية التحتية للعراق ومعظمها في حالة سيئة للغاية. نحن بحاجة إلى آلية لمراجعة هذه الحجوزات من أجل ضمان حسن سير البرنامج .
لماذا يجب التفكير في أن العراق بحاجة إلى شركات نفط أجنبية لتولي صناعته النفطية اليوم بينما أدارها بنجاح بمفرده لمدة أربعين عاماً حتى عام 2003؟
إن من المفهوم جيداً أن النفط عامل مهم في الخريطة الجيوسياسية للشرق الأوسط وكان النفط وسيظل حيوياً لاقتصاد العالم حتى يتوفر مصدر بديل رخيص ووفير للطاقة مثل الهيدروجين أو الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح. وكما هو متوقع فإن الاستكباريين الرأسماليين لا يريدون السيطرة على استغلال النفط فحسب بل على تسويقه أيضاً. إن السيطرة على النفط أداة قوية للغاية لتخويف الدول التي ليس لديها مصادر للطاقة بأنفسها ولا ينبغي الاستهانة بالنفوذ الذي ستتمتع به الولايات المتحدة على اليابان وألمانيا بمجرد سيطرتها على جميع مصادر الطاقة العالمية وإنتاجها وتوزيعها. وقد قدر العراق في أحدث دراسة أجراها مركز دراسات الطاقة العالمية وشركة بترولوج وشركاه باحتياطي معروف قدره 300 مليار برميل(bbl) مما يعني أنه عند معدل الإنتاج الحالي الذي يقارب 3 ملايين برميل / يوم فإنه سوف يستطيع أن يضخ النفط بهذا المعدل على مدى 300 عام قادمة مما يجعله مرشحاً رئيساً بين الدول التي يجب أن يكون نفطها كما شعروا تحت سيطرة استكباريي العالم الحاليين . وكان هناك سبب آخر للرغبة في السيطرة على نفط العراق إذ أن نفط العراق هو الأرخص في العالم من حيث الإنتاج حيث تكون كلفة البرميل الواحد أقل من دولار، وبعائد 15٪، بما في ذلك جميع عمليات الاستكشاف وتطوير حقول النفط وتكاليف الإنتاج !
بدأ إحياء الاهتمام بتأمين نفط العراق في وقت مبكر من العراق في التسعينيات بعد العقوبات المشددة عام 1991.
في وقت سابق وفي عام 1993 رعت ومولت ست شركات نفطية عملاقة هي رويال داتش شل وبريتيش بتروليوم وكونوكو فيليبس وإكسون موبيل وهاليبيرتون وشيفرون المركز الدولي للضرائب والاستثمار (ITIC) الذي ضم في النهاية 110 شركة. وتكشف الوثائق التي تم الحصول عليها من خلال قانون حرية المعلومات أنه في أواخر التسعينيات تم تقديم احتجاجات أنجلو أمريكية نيابة عن شركات النفط لتأمين عقود النفط العراقية. تم الطلب من المركز الدولي للضرائب والاستثمار بكتابة تقرير يؤكد على اتفاقيات المشاركة في الإنتاج لضمان نجاح السيطرة طويلة المدى على النفط .
وهكذا كان من الواضح منذ المراحل الأولى من الحصار أن عمالقة النفط كانوا مهتمين بتأمين أكبر حصة ممكنة من نفط العراق عندما تم إخطارهم، مثلهم مثل الأفراد العراقيين، بأن الولايات المتحدة لن تخفف العقوبات على العراق حتى يتغير النظام أو ينهار.
حدد مشروع مستقبل العراق (FIP)المشار إليه في الفصل 3 الاستعدادات الأمريكية لغزو العراق والذي أعلنه رامسفيلد في 11 أيلول 2001. وقد جمع حوالي 200 عراقي صهيوني وقسمهم إلى 17 مجموعة عمل بقيادة وإدارة خبراء ورجال مخابرات أمريكيين من أجل إعداد سياسات ما بعد البعث في العراق. وتناولت إحدى مجموعات العمل “النفط والطاقة” كما كان متوقعاً. وليس من المستغرب أن المجموعة خلصت إلى أن صناعة النفط العراقية يجب أن تكون مفتوحة أمام الاستثمار الخاص ودعت إلى إنشاء اتفاقيات تقاسم الإنتاج (PSA) بين العراق وشركات النفط متعددة الجنسيات والتي من شأنها أن تمكن من عودة السيطرة الأجنبية على نفط العراق. كان الاستنتاج الذي توصلت إليه مجموعة “النفط والطاقة” مرة أخرى مما لا يثير الدهشة هو بالضبط ما أوصت به ITIC لمستقبل النفط العراقي في وقت سابق من التسعينيات . وكان أحد أعضاء مجموعة “النفط والطاقة” إبراهيم بحر العلوم الذي عينه بريمر في أيلول 2003 وزيراً للنفط في العراق بعد الغزو.
كان من الطبيعي للولايات المتحدة / المملكة المتحدة أثناء التخطيط لغزو العراق واحتلاله أن تنكرا أنه كان جزئياً بسبب النفط. ولكن متى أعلن الغازي في التاريخ الأسباب الحقيقية لعدوانه؟ ومع ذلك كان لا مفر من أن تعلن بعض البيانات صراحة أن النفط يتصدر بالفعل قائمة أسباب غزو العراق. وفيما يلي عينة من هذه العبارات:
• في عام 1999 أثناء عمله كرئيس تنفيذي لشركة Halliburton ، قال ديك تشيني: “… في حين أن العديد من مناطق العالم تقدم فرصاً نفطية رائعة فإن الشرق الأوسط بثلثي نفط العالم وبأقل تكلفة ما يزال هو المكان الذي تكمن فيه الجائزة في نهاية المطاف. ”
• قال الجنرال جون أبي زيد القائد السابق للقيادة المركزية الأمريكية والمسؤول عن العراق: “بالطبع الأمر يتعلق بالنفط. لا يمكننا أن ننكر ذلك حقاً ” .
• قال تشاك هاجل وزير الدفاع الأمريكي الذي تم استبداله مؤخراً في عام 2007: “يقول الناس إننا لا نكافح من أجل النفط. بالطبع نحن نفعل ذلك. يتحدثون عن المصلحة الوطنية الأمريكية. ما الذي تعتقد أنهم يتحدثون عنه بحق الجحيم؟ لسنا هناك من أجل التين . ”
• كتب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي السابق ألان جرينسبان في عام 2007: “أشعر بالحزن لأنه من غير الملائم سياسياً الاعتراف بما يعرفه الجميع:” حرب العراق تدور إلى حد كبير حول النفط “. ما هي الأدلة الأخرى التي يحتاجها المنكرون قبل قبول هذه الحقيقة الواضحة؟ “
أنشأ ديك تشيني في الأسبوع الأول من ولاية بوش الأولى وفي متابعة بيانه لعام 1999 “مجموعة تطوير سياسة الطاقة الوطنية” التي جمعت الإدارة وشركات النفط معاً لرسم مستقبل الطاقة الجماعي. “وراجع فريق العمل في آذار القوائم والخرائط التي تحدد الطاقة الإنتاجية النفطية الكاملة للعراق” . وكان هذا دليلاً إضافياً على أن غزو العراق كان مخططاً له حتى قبل هجوم الحادي عشر من أيلول. وإلا فلماذا تدرس المجموعة التي يرأسها تشيني خريطة مواقع النفط العراقية في آذار 2000؟ وقد نُقل عن بول أونيل أول وزير خزانة لبوش قوله إنه “بحلول شباط [2001] كان الحديث في الغالب يدور حول الأمور التدبيرية وليس السبب [غزو العراق] ولكن كيف وبأية سرعة. ”
أما في المملكة المتحدة فقد كانت شركات النفط نشطة في السعي لتأمين نفط العراق. كانت الاتفاقيات بين شركة النفط البريطانية (BP) وغيرها من الشركات العالمية للعمل في العراق موجودة قبل الغزو مما يدل على أن الغزو لم يكن مخططًا للبحث عن أسلحة الدمار الشامل كما زعمت حكومتا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وعلى الرغم من الجدل بأن النفط لم يكن الدافع الرئيسي للحرب فقد علقت صحيفة إندبندنت البريطانية على هذه الاتفاقيات وتأثيراتها على التحقيق في العراق على النحو التالي:
… لقد أوضحوا أنه على عكس النفي الوزاري كان النفط أمراً كان الوزراء يفكرون فيه في تلك الأشهر التي سبقت الغزو.
ويبدو أن لجنة تحقيق تشيلكوت المكلفة بالتحقيق في تورط بريطانيا في غزو العراق لم تراجع هذه الوثائق ومن الواضح أن هذا غير مرض. فلا يمكن استكمال أي تحقيق مستقل في الوضع المعقد في العراق دون الأخذ في الحسبان تأثيرعمالة النفط. فمن الصعب أن نرى كيف يمكن أن تكون استنتاجاته ذات مصداقية ما لم يأخذ التقرير هذه الأدلة الجديدة في الحسبان.
كانت هناك ضغوط من شركات النفط على بريمر لتبني قانون نفط جديد في العراق يسمح بالاستيلاء على النفط العراقي من قبل هذه الشركات. لكن الإدارة قررت أن تكون أكثر حكمة لأنه كان من الصعب للغاية تمرير مثل هذا القانون مع الحفاظ على حجتها القائلة بأن العراق لم يتم غزوه بسبب الرغبة في الاستيلاء على نفطه. وتحقيقا لهذه الغاية تم تعيين إبراهيم بحر العلوم وزيرا للنفط في أيلول 2003 على أمل أن يحقق تبني مثل هذا القانون لهم.
تمكنت الولايات المتحدة بين عامي 2004 و2008 باستخدام كل نفوذها الحصول على دعم لقانون النفط والغاز العراقي المقترح والذي كان سيضمن نجاح خطة تشيني لاتفاقيات تقاسم الإنتاج (PSAs) لكنها واجهت مقاومة شديدة حتى بين بعض عملائها العراقيين مثل رئيس مجلس النواب أسامة النجيفي. لكن المعارضة الرئيسة جاءت من عامة الناس بقيادة اتحاد نقابات النفط العراقي الذي يمثل نصف عمال النفط في جنوب العراق . وعند الفشل في تمرير القانون المقترح من خلال مجلس النواب العراقي ابتكرت الولايات المتحدة نهجاً جديداً حيث صممت عقوداً جديدة طويلة الأجل بين وزارة النفط العراقية وشركات النفط منحت الشركات كل ما طالبت به تقريباً باستثناء خصخصة صناعة النفط وبالتالي إبقاء الصناعة تحت سيطرة الحكومة اسمياً. ولا تلزم هذه العقود شركات النفط بالاحتفاظ بالنفط المنتج في العراق لاستثمار أي من العوائد في البلاد أو توظيف غالبية من العراقيين في الصناعة . تبقى تفاصيل العقود الموقعة بين وزارة النفط وشركات النفط غير متاحة للجمهور ويتم تجميع هذه المعلومات من التقارير الإعلامية والبيانات المتفرقة التي أدلى بها بعض المسؤولين.
علق الدكتور عبد الحي يحيى زلوم وهو مستشار دولي في النفط بخبرة أربعين عاما بأن شركات النفط الغربية نجحت في الحصول على حصة الأسود من نفط العراق لكنها أعطت قطعة صغيرة من الكعكة للصين وبعض الدول والشركات الأخرى – لإبقائهم صامتين – ومن المرجح أن تحجب مساهمتهم الصغيرة هيمنة الكبار على نفط العراق. تعطي المعلومات المتاحة اليوم الخريطة التالية:
• مُنحت شركتا BP و CNPC [شركة البترول الوطنية الصينية] أحد أكبر حقول النفط في البلاد وهو حقل الرميلة العملاق البالغ 17 مليار برميل.
• فازت شركة إكسون موبيل مع الشريك الصغير رويال داتش شل بمشروع غرب القرنة المرحلة الأولى بقيمة 8.7 مليار برميل متفوقة على شركة لوك أويل الروسية.
• حصلت شركة Eni SpA الإيطالية ، مع شركة أوكسيدنتال بتروليوم في كاليفورنيا وشركة كوريا جاس كورب على حقل الزبير النفطي العراقي باحتياطيات تقدر بنحو 4.4 مليار برميل.
• كانت شل الشريك الرئيسي مع شركة Petroliam Nasional Bhd الماليزية حيث منحت عقد حقل مجنون العملاق أحد أكبر الحقول في العالم باحتياطيات تقدر بما يصل إلى 25 مليار برميل .
وهكذا وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة وشركات النفط الغربية الأخرى لم تنجح في تأمين تمرير قانون النفط العراقي الجديد الذي كان سيؤمن الخصخصة باستخدام اتفاقيات تقاسم الإنتاج (PSAs) فقد تمكنت من خلال عقود منفصلة من الحصول على موطئ قدم في الباب مما سيمكنها من جني أرباح ضخمة من دولة يقدر احتياطيها بحوالي 300 مليار برميل وليس فيها سوى قرابة 2000 بئر ولم يستغل من أرضيها سوى 10٪ حتى الآن.
وهكذا فبعد أربعين عاماً من تأميم العراق لصناعة النفط وإدارتها بنجاح أعاد الغزو شركات النفط الأجنبية متعددة الجنسيات للسيطرة على نفط العراق تحت ستار حاجة العراق إلى الدعم الفني والمالي وتم منح العقود الجديدة لنفس الشركات التي تم تأميم مصالحها في السبعينيات. وهذا هو جزء من التدمير المستمر للعراق.