الصحة وأسلحة الدمار الشامل
تأثر وضع الخدمات الصحية في العراق بعاملين أولهما هو توفر الأطباء والمرافق لتقديم الخدمة وثانيهما هو آثار أسلحة الدمار الشامل التي استخدمتها الولايات المتحدة / المملكة المتحدة خلال 14 عاماً من الهجمات التي بدأت مع أول هجوم عام 1991 وحتى الهجوم على الفلوجة في عام 2004.
نصح تقرير المفتش العام الخاص بإعادة إعمار العراق (SIGIR) الكونغرس الأمريكي بما يلي:
“كان لدى العراق في السبعينيات أحد أفضل أنظمة الرعاية الصحية في الشرق الأوسط حيث كان الوصول إلى الخدمات الصحية متاحاً لـ 97٪ من سكان الحضر و79٪ من سكان الريف. ”
وتكمن أهمية هذا التصريح في أنه يتعارض أولاً مع كل الضجيج الإعلامي حول إخفاقات حكم البعث. وفي الواقع كانت خطط البعث التنموية الخمسية هي التي قادت إلى تقديم هذا النوع من الخدمات الصحية الجيدة مقارنة بأغنى الدول في المنطقة، وهو ثانياً يفرض السؤال عن سبب تدهور الخدمة بشكل سيء منذ زوال البعث. لقد تناولنا بالفعل إنجازات حكم البعث في توفير الخدمات الصحية من بين جوانب أخرى للتنمية في الجزء الأول من كتاب الإبادة الجماعية في العراق . سننظر الآن إلى ما حدث للخدمة الطبية الممتازة في السبعينيات.
بلغ متوسط ميزانية العراق للرعاية الصحية بين عامي 1980 و1991 مبلغ 450 مليون دولار سنوياً . وأفاد فريق من الباحثين الدوليين بعد خمس سنوات من حصار الإبادة الجماعية على العراق أن ثلث مستشفيات العراق قد أغلقت وأن ثلث المعدات التشخيصية والعلاجية لا تعمل بسبب نقص قطع الغيار والصيانة التي أوقفها الحظر الشامل . وانخفضت ميزانية الرعاية الصحية بحلول عام 2002 إلى ما لا يزيد عن 22 مليون دولار أو 5٪ مما كانت عليه في الثمانينيات و2.7٪ من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2003 عندما كانت سترتفع في الظروف العادية وبدون الحصار كما كان الحال منذ ذلك الحين في الستينيات. .
فهل تحسنت الرعاية الصحية في العراق منذ الغزو الذي كان من المفترض أن يجلب السلام والحرية والديمقراطية والتحسينات الاجتماعية، أم أن الدمار استمر؟
لا يمكن إنكار أن بعض الأطباء غادروا العراق خلال سنوات الحصار حيث تدهور دخلهم لدرجة أن الطبيب الذي لم تكن لديه عيادة خاصة كان عليه أن يعيش براتب يعادل 2 دولار شهرياً. لكن عدد الذين غادروا لا يعد شيئاً مقارنة بالنزوح الجماعي الذي أعقب غزو العراق واحتلاله عام 2003 كما سنرى.
كان لدى العراق في التسعينيات 34000 طبيب مسجل لدى نقابة الأطباء العراقية وانخفض هذا الرقم بحلول عام 2008 بأكثر من النصف إلى حوالي 16000 . إلا أن رقماً أكثر وصفاً يكشف عن التأثير الحقيقي للغزو في تقرير حديث لمنظمة أوكسفام NCCI والذي يقدر “أن 40 بالمائة من الطبقة المهنية في البلاد قد غادروا منذ 2003. ” واعتمدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر على إحصاءات الحكومة العراقية للإبلاغ عن أنه منذ غزو عام 2003 “قُتل أكثر من 2200 طبيب وممرض واختطف أكثر من 250” . نحن نعلم أنه في عائلتنا المباشرة التي تغطي فقط الأشقاء والأبناء وأبناء وبنات الإخوة غادر العراق أحد عشر طبيباً على الأقل خمسة منهم استشاريون. وإذا قمنا بتضمين الأقارب فستكون القائمة أطول. يمكننا بالطبع القول إن هذا ليس نموذجياً لجميع العائلات لكنه ما يزال يشير إلى ما حدث في العراق منذ العقوبات والغزو. فقد ناشدت الحكومة العراقية في عام 2008 أفراد القطاع الطبي بالعودة ولكن دون جدوى. فقد كان الذين غادروا قد فعلوا ذلك فقط لأنهم أجبروا على ذلك ولم تزل أسباب فرارهم قائمة. وثانياً فإن من الصعب على المحترف المؤهل تأهيلاً عالياً الاستمرار في الحركة حول العالم مع أسرته وهو بمجرد الاستقرار سيتردد في الحركة والانتقال مرة أخرى.
وهكذا فإن العراق الذي كان فخر العالم العربي في السبعينيات – وكان الناس من مناطق بعيدة مثل اليمن أصبحوا يعالجون هناك – قد أصبح في قاع العالم الإسلامي كله في خدماته الطبية والرعاية الصحية. وبعد عشرين عاماً من فرض الحصار الشامل وثماني سنوات على الغزو والاحتلال أفادت منظمة الصحة العالمية بما يلي:
كان لدى العراق 7.8 طبيب لكل 10000 شخص – أي ما يعادل مرتين إن لم يكن ثلاث أو أربع مرات أقل من جيرانه الأردن ولبنان وسوريا وحتى الأراضي الفلسطينية المحتلة. أما في العالم الإسلامي فإن نسبة الأطباء والمرضى في العراق أعلى فقط من أفغانستان وجيبوتي والمغرب والصومال وجنوب السودان واليمن .
ولم يكن بناء وتأهيل المستشفيات والعيادات أفضل حالاً على الرغم من توفر الأموال والمقاولين. ويتضح هذا من سجل المحتل نفسه كما في تقرير SIGIR لعام 2013 إلى الكونغرس.
حصلت شركة بكتل في عام 2004 على عقد لبناء مستشفى البصرة للأطفال مقابل 50 مليون دولار والتي كان يفترض أن تكون “أحدث وحدة لعلاج أورام الأطفال” لخدمة جنوب العراق بأجمعه. وتم إنهاء العقد في عام 2008 وتم ضخ أموال جديدة بحيث تم الانتهاء من المبنى فقط في عام 2010 ولكن بكلفة 165 مليون دولار مقابل كلفته الأولية البالغة 50 مليون دولار؟ أين ذهبت كل الأموال ولماذا استغرق الأمر وقتاً طويلاً ولماذا تم إنهاء العقد كلها أسئلة تشير إلى نوع الفساد الذي يمكن العثور عليه في أكثر الدول النامية فساداً. وعلى الرغم من الادعاء بأن المستشفى افتتح في عام 2012 إلا أنه ما يزال جزئياً غير مؤثث وغير مجهز ولم يتم إجراء أي تدريب للموظفين حتى الآن . هذه أمور لم تكن لتحدث في العراق في أسوأ أيامه؟
أما المثال الثاني للفشل كما أفاد مكتب SIGIR فقد كان بناء مراكز الرعاية الأولية. فقد منحت سلطة الإئتلاف المؤقتة (CPA) في عام 2004 عقداً بقيمة 243 مليون دولار لبناء وتجهيز 150 مركزاً للصحة الأولية (PHC) في جميع أنحاء العراق ليتم الانتهاء منها بحلول نهاية عام 2005. ولم ينتج عن ذلك سوى قائمة بالفشل واختفاء الأموال. فقد أفاد مكتب المفتش العام الدولي في عام 2006 أنه على الرغم من إنفاق 186 مليون دولار فلم يتم إحصاء سوى ستة مراكز صحية أولية فقط (من أصل 150) قد اكتملت. وفي عام 2006 على غرار مستشفى البصرة تم إنهاء العقد وتقليص عدد مراكز الرعاية الصحية الأولية إلى 142 وتمت إضافة 57 مليون دولار أخرى إلى برنامج الرعاية الصحية الأولية ولكن لم يحدث شيء بعد. ثم تمت إضافة 102 مليون دولار أخرى إلى الكلفة وانخفض عدد مراكز الرعاية الصحية الأولية إلى 133. ولكن بحلول عام 2013 أبلغنا مكتب المفتش العام الدولي بما يلي:
لقد تم إنفاق عشرات الملايين الأخرى ولكن المراجعات التي أجراها مكتب المفتش العام الدولي (SIGIR) أشارت إلى أن بناء وتركيب المعدات والتدريب اللازم لم يتم بشكل كافٍ لعدد كبير من مراكز الرعاية الصحية الأولية.
ويعطي SIGIR بعض الأسباب لمثل هذا الفشل مشيراً إلى “ضعف الأداء من قبل المتعاقدين المتتالين إلى جانب ضعف الإشراف على برنامج الحكومة الأمريكية” .
ولكن مهما كانت الأسباب التي قدمها SIGIR فمن العدل أن نستنتج أنه بعد ما يقرب من عشر سنوات من منح العقد لمراكز الرعاية الصحية الأولية وبعد إنفاق مئات الملايين لا يعرف أحد حقاً ما الذي تم إنجازه أو أين ذهبت الأموال. وباختصار تظهر هذه الواقعة أنه بعد عشر سنوات من الغزو و”إعادة التصميم” لم يخرج العراق من الفوضى التي أعقبت الدمار.
أفاد البنك الدولي أن العراق كان ينفق 8.4٪ من ناتجه المحلي الإجمالي على الرعاية الصحية بحلول عام 2010 مقابل 2.7٪ من ناتجه المحلي الإجمالي الذي أنفق في عام 2003 مما يعني أن العراق كان ينفق حوالي 6 مليارات دولار سنوياً في عام 2010 مقارنة بـ 30 مليون دولار أنفقها في عام 2003 . ولكن لا يوجد الكثير لإظهاره من حيث نتائج مثل هذا الإنفاق عندما نتذكر أن العراق تمكن قبل الغزو وعلى الرغم من حصار الإبادة الجماعية من الحفاظ على خدمة معقولة مقابل 22 مليون دولار فقط أو نحو ذلك (ما تزال كبيرة إذا تم تعديلها للتضخم). وهكذا وجد مسح أجرته شبكة المعرفة العراقية (IKN) في عام 2011 أن: “40 بالمائة من السكان يرون أن جودة خدمات الرعاية الصحية في منطقتهم سيئة أو سيئة للغاية” . إنه لأمر سيء للغاية أن يسعى الناس إلى العلاج الطبي في الخارج ويبيعون منازلهم وسياراتهم وممتلكاتهم الثمينة لدفع ثمنه.
أما المؤشر الآخر الجدير بالذكر على فشل الرعاية الصحية بعد الغزو فهو حجم التلقيح. فقد تم بحلول نهاية السبعينيات تلقيح جميع أطفال العراق تقريباً. لكن التلقيح انخفض نتيجة للحصار وتدهور جميع الخدمات إلى 60.7٪ بحلول عام 2000. ومع ذلك فمنذ رفع العقوبات بعد الغزو والتي كانت قد تسببت في الانخفاض فقد كان من الطبيعي توقع ارتفاع في عدد الملقحين بحيث يعيد نسبتهم إلى أيام السبعينيات الذهبية. لكن هذا لم يحدث مع استمرار تدمير العراق. فوفقاً للمسوحات متعددة المؤشرات (MICS) التي أجرتها الحكومة العراقية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) انخفض التلقيح إلى 39 بالمائة في عام 2006 ثم ارتفع إلى 45.4 بالمائة بحلول عام 2011؛ أي أنه بعد تسع سنوات من الغزو ما يزال التلقيح أقل من مستويات ما قبل الغزو التي أدارها نظام البعث على الرغم من مشقة العقوبات .
أما العنصر الثاني ذو التأثير المباشر وغير المباشر على الصحة فهو أسلحة الدمار الشامل. ونحن نختار نظراً لعدم وجود تعريف واحد مقبول لأسلحة الدمار الشامل تعريفنا على أنه يعني السلاح الذي يمكن أن يقتل عدداً كبيراً من الأشخاص دون تمييز. وهذا يعني أن أسلحة الدمار الشامل قد تكون سلاحاً تقليدياً مثل القنبلة العنقودية التي يمكن أن تقتل عدداً كبيراً من الأبرياء على مساحة كبيرة أو قد تكون سلاحاً غير تقليدي مثل اليورانيوم المنضب الذي ينبعث منه إشعاع منخفض الطاقة على مدى مليارات السنين. لا يلزم أن تكون عملية القتل عند استخدام أسلحة الدمار الشامل فورية كما هو الحال مع الرصاصة فقد يستغرق الأمر وقتاً ويظهر في أشكال مختلفة من تشوهات الولادة إلى الأمراض “المتدهورة” الخطيرة.
عندما يتم ذكر أسلحة الدمار الشامل للإشارة إلى استخدامها في العراق يفترض الناس على الفور أنها تشير إلى استخدام اليورانيوم المنضب (DU) من قبل الولايات المتحدة / المملكة المتحدة الذي تم قبول استخدامه في عام 1991 في ساحة المعركة وفي منطقة أوسع وبكميات أكبر في عام 2003 مع استخدام وسيط أثناء طلعات الطائرات الحربية الأمريكية في الفترة الواقعة بينهما. وقد تناول كتاب للمؤلفين المشاركين عبد الحق العاني وجوان بيكر استخدام اليورانيوم في العراق والذي غطى الأبحاث المحدودة التي أجراها العراقيون بعد عام 1991 والقياس الفعلي للإشعاع الذي أجراه المؤلفان في الميدان في العراق عام 2004- 2005 . لن نعيد إنتاج مادة ذلك الكتاب هنا لكننا نعتزم معالجة بعض القضايا الأخرى المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل.
فقد لاحظت مستشفيات البصرة بعد أربع إلى خمس سنوات من هجوم عام 1991 ارتفاعاً مفاجئاً في معدلات سرطان الأطفال وتشوهات الولادة المروعة وغير العادية. وتم الإبلاغ عن ما يلي:
تظهر الإحصاءات الرسمية للحكومة العراقية أنه قبل اندلاع حرب الخليج الأولى عام 1991 كان معدل حالات الإصابة بالسرطان في العراق 40 من أصل 100000 شخص. وكان الرقم قد ارتفع بحلول عام 1995 إلى 800 من أصل 100000 شخص وبحلول عام 2005 تضاعف إلى ما لا يقل عن 1600 من بين 100000 شخص. وتظهر التقديرات الحالية استمرار الاتجاه المتزايد .
سيشعر الناس بالقلق بمجرد مواجهة مثل هذا الواقع لإن مثل هذا الارتفاع الحاد في معدلات الإصابة بالسرطان لا يحدث بشكل عشوائي في الكون. وكان من الطبيعي جدا للأطباء والعلماء العراقيين وغير العراقيين التكهن حول سبب هذا الارتفاع. وبما أن الارتفاع الحاد في محافظة البصرة عام 1995 في أعقاب هجوم عام 1991 والارتفاع الحاد في عام 2008 في الفلوجة عقب هجوم 2004 عليها فقد كان من الطبيعي فقط ربط ارتفاع الأمراض والتشوهات باستخدام اليورانيوم المنضب في كلتا الحالتين. كان العراق ما بعد 1991 تحت الحصار الكامل ولم يكن لديه سوى القليل من الموارد لإجراء أبحاث جادة لأنه حتى المجلات الطبية والعلمية لم يُسمح لها بدخول البلاد فما بالك باستيراد معدات وخبرات خاصة لدراسة هذه القضية. فكان البحث الوحيد الذي قام به العلماء العراقيون هو إجراء قياسات في المناطق الملوثة بمقياس التلوث الإشعاعي وقد تم إعادة إنتاجها في كتاب اليورانيوم المشار إليه أعلاه .
كان هناك سبب آخر لعدم تأكيد حكومة البعث على الخطر الذي قد ينذر باستخدام اليورانيوم المنضب أو مواد كيميائية أخرى في العراق فلم تكن الحكومة ترغب في إضافة المزيد من الذعر إلى الجمهور المنهك بالفعل والمصاب بصدمة من خلال إخطاره بأنه من الممكن أن تكون بعض المناطق في العراق ملوثة وأن العيش بالقرب منهم يمكن أن يتسبب في تشوهات خلقية أو سرطانات في حين أن الحكومة لا تستطيع فعل الكثير للتخفيف من حدة الوضع. وربما كان هناك شعور بأن التدبير الحكيم هو إبقاؤه خافتاً وإبقاء الجمهور مضللاً.
والتفسيرالآخر لعدم الاعتراف والتحذير من آثار هذا السلاح الخبيث على البشر هو أن الحكومة العراقية كانت تحت الضغط بعدم انتقاد مضطهديها خوفا من مزيد من التشهير وزعزعة الاستقرار والانتقام والمعاناة.
تم خلال غزو عام 2003 والهجمات الضخمة المضاعفة على الفلوجة في عام 2004 استخدام المزيد من اليورانيوم المنضب والمواد الكيميائية. وظهرت على السطح موجة جديدة من السرطانات أو التشوهات الخلقية في الفلوجة وهناك تقارير عديدة عن هذه الحوادث. سننظر بالتفصيل في تقريرين عنها.
قادت (Mozhgan Savabieasfahani) وهي أختصاصية السموم الإنجابية التي كانت تعمل في كلية الصحة العامة بجامعة ميتشيغان فريقاً من الباحثين الذين درسوا حالات العيوب الخلقية في مستشفى الفلوجة العام في عام 2010 وشاركت في تأليف دراسات في عامي 2010 و 2012 . وجمعت عينات من 56 عائلة في الفلوجة بينما جمع المؤلف المشارك عينات من 28 عائلة في مستشفى الولادة بالبصرة. وعندما تم اختبار هذه العينات خلصوا إلى أن آباء الأطفال الذين يعانون من عيوب خلقية لديهم مستويات أعلى من الرصاص والزئبق واليورانيوم مقارنة بآباء الأطفال العاديين. وقالت لموقع ABCNews.com: “إنهم [الوالدان] يشعرون باليأس … إحدى المشكلات الرئيسة التي واجهتنا هو أنه لم يكن هناك عدد كافٍ من العائلات التي لديها أطفال عاديون وانتهى بنا الأمر بعدد أقل من الدراسات الأسرية العادية ” .
نُشر التقرير الثاني في المجلة الدولية لأبحاث البيئة والصحة العامة (IJERPH) في أيلول 2010 وأورد نتائج المسح الوبائي القائم على السكان في كانون الثاني/شباط 2010 لـ 711 منزلاً وأكثر من 4000 فرد في الفلوجة نظمته ملك حمدان وكريس باسبي . وخلص الباحثان إلى أن الفلوجة شهدت في السنوات الخمس التي أعقبت هجمات عام 2004 التي شنتها القوات التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية زيادة بمقدار أربعة أضعاف في جميع حالات السرطان وكذلك معدل وفيات الرضع.
وكانت هذه والاضطراب الذي لوحظ في النسبة الطبيعية لمعدل نسبة المواليد بين النوعين (الذكر/الأنثى) أكبر بكثير من تلك التي تم الإبلاغ عنها للناجين من القنبلة الذرية في هيروشيما وناغازاكي في عام 1945 .
يمكن توضيح أهمية نتيجة نسبة النوع [الذكور والإناث] على النحو التالي:
تعد نسبة المواليد بين النوعين مؤشراً معروفاً للضرر الجيني حيث يرجع الانخفاض في ولادات الذكور إلى حقيقة أن الفتيات لديهن كروموسوم X زائد عن الحاجة وبالتالي يمكن أن يفقدن واحدًا من خلال الضرر الجيني أما الأولاد فإنهم لا يحتلمون ذلك. كما انخفضت النسبة بين النوعين بالمثل في أطفال الناجين من هيروشيما. قال الدكتور بزبي: “هذه نتيجة غير عادية ومثيرة للقلق” مضيفاً: “لإحداث مثل هذا التأثير يجب أن يكون هناك تعرض كبير للطفرات الجينية في عام 2004 عندما وقعت الهجمات. نحن بحاجة ماسة إلى معرفة ما هو العامل المساعد. وعلى الرغم من أن الكثيرين يشتبهون في وجود اليورانيوم إلا أننا لا نستطيع أن نكون متأكدين بدون إجراء مزيد من البحث والتحليل المستقل لعينات من المنطقة “. وقالت ملك حمدان التي نظمت المشروع: “أنا سعيدة للغاية لأننا تمكنا من الحصول على تأكيد علمي مناسب لجميع الأدلة القصصية عن السرطان والتشوهات الخلقية. ربما يستيقظ المجتمع الدولي الآن ” .
بينما كان التوجه الفكري بقيادة الدكتور كريس بزبي، الذي يعتمد على الدراسات الوبائية، يعتمد على وجود صلة بين ارتفاع العيوب الخلقية والسرطان واستخدام اليورانيوم في العراق كان هناك رفض مستمر من قبل الولايات المتحدة/ المملكة المتحدة لوجود أي ارتباط من هذا القبيل. ومن المؤسف أنهم تلقوا بعض الدعم من بعض الدوائر العلمية وربما يعكس هذا حقيقة أن النزاهة العلمية قد تعرضت للخطر منذ خصخصة البحث العلمي إذ يتطلع العلماء اليوم إلى المؤسسات متعددة الجنسيات للحصول على الدعم ومن أجل الحصول على الدعم المالي للبحوث يحتاجون إلى إرضاء هذه الشركات. وبهذه الوسيلة قدمت كل من منظمة الصحة العالمية والجمعية الملكية بعض الدعم للادعاء المضاد للقناعة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بأنه لا توجد صلة بين إشعاع اليورانيوم المنضب وتزايد الإصابة بالسرطان والعيوب الخلقية . إن سبب دعم منظمة الصحة العالمية أكثر سهولة للفهم وأكثر وضوحاً من دعم الجمعية الملكية.
لكن الأهم من حقيقة أن منظمة الصحة العالمية هي الأقل استقلالية عن هيئات الأمم المتحدة هو أن هناك صلة بين منظمة الصحة العالمية والوكالة الدولية للطاقة الذرية والتي لا يعرفها الجمهور. فقد وقعت منظمة الصحة العالمية في 28 أيار 1959 اتفاقية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية للابتعاد عن أي بحث له صلة بالإشعاع أو النشاط الإشعاعي . ولم يكن تقرير الجمعية الملكية حول الارتباط بين اليورانيوم المنضب والسرطان دحضاً مباشراً لادعاء الولايات المتحدة / المملكة المتحدة . ولكن يمكن لأي مراقب أن يرى أن كلتا الدولتين أقرتا عدداً كبيراً من التشريعات المتعلقة بالتعامل مع اليورانيوم المنضب وتخزينه ونقله والتخلص منه. ونظراً لعدم وجود مثل هذا التشريع للتعامل مع الفولاذ على سبيل المثال فإن السؤال يجب أن يكون: لماذا توجد حاجة لمثل هذا التشريع إذا كان تشتت وتناثر اليورانيوم المنضب آمناً كما يُزعم؟
يفيد تقرير الجمعية الملكية الذي لم يستند إلى بحث علمي حول اليورانيوم المنضب أو آثاره أو استخدامه المحدد في العراق بل اعتمد على مقالات علمية ثانوية بما يلي:
اليورانيوم المنضب مادة مشعة وسامة وقد يُتوقع أن يؤدي التعرض لمستويات عالية بما فيه الكفاية إلى زيادة الإصابة ببعض أنواع السرطان لا سيما سرطان الرئة وربما سرطان الدم وقد يؤدي إلى تلف الكلى. السؤال الرئيس هو ما إذا كان التعرض لليورانيوم المنضب في ساحة المعركة من الدرجة التي تزيد فيها الإصابة بالسرطان أو احتمال تلف الكلى بشكل كبير أو مرتفع بما يكفي لإثارة القلق .
نعتقد أنه على الرغم من إشارة الخطر الواضحة في تقرير الجمعية الملكية فقد نجحت الولايات المتحدة / المملكة المتحدة في تحويل الانتباه عن الآثار السامة لليورانيوم المنضب وتركيز الجدل حول تأثير إشعاعاته. ونظراً لأنه كان من الصعب إثبات وجود صلة بين الإشعاع منخفض الطاقة من اليورانيوم المنضب والسرطان لأن إثبات هذا الارتباط يتطلب بحثاً علمياً مكثفاً فقد تم التغاضي عن آثار سمية اليورانيوم المنضب. وفي الواقع حتى لو ثبت لاحقاً أن إشعاع اليورانيوم المنضب لا يسبب أي ضرر للأنسجة (وهو ما لا نعتقده) فعندئذ يكفي القبول بأن استخدام المواد السامة هو جريمة حرب. وتؤكد الجمعية الملكية ما هو مقبول علمياً: أن اليورانيوم المنضب مادة سامة. وهكذا عندما تجادل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بعدم وجود صلة بين اليورانيوم المنضب والأمراض فإنهما تشيران إلى أن الارتباط الإشعاعي لم يتم إثباته ولكن لا توجد طريقة يمكن أن يجادلوا بها في أن التأثير السام لم يتم إثباته.
لقد أوضحنا بالفعل سبب تصرف العراق كما فعل خلال فترة الحصار فيما يتعلق باستخدام اليورانيوم المنضب والمواد الكيميائية الأخرى. ولكن منذ وصول الحكومات الجديدة إلى السلطة كان هناك قلق عام بشأن انتشار السرطان والتشوهات الخلقية التي لم يكن الأطباء العراقيون قد رأوها من قبل. ومن المتوقع أن تمارس الولايات المتحدة / المملكة المتحدة ضغوطاً كبيرة على السلطات العراقية لعدم التحقيق في استخدام اليورانيوم المنضب أو مواد كيميائية أخرى في العراق. لقد تم فرض حظر مباشر على تقارير الدكتور دوغ روك والجندي الأمريكي الذين عانوا نتيجة استعادة ذخائر اليورانيوم المنضب في العراق. وسبب الخوف في الولايات المتحدة / المملكة المتحدة هو أن أي بحث من هذا القبيل يمكن أن يجد رابطاً واضحاً. وليس الأمر فقط أنهم لا يهتمون بالعراق وتلوثه بل إن القضية أيضا مالية وسياسية. فإذا ثبت أن جنود الولايات المتحدة / المملكة المتحدة قد تعرضوا لمستويات عالية بشكل غير طبيعي من اليورانيوم المنضب والمعادن الثقيلة والديوكسين والفوسفور الأبيض فإن التسويات المالية الناتجة عن الدعاوى القضائية التي يحتمل أن يرفعها هؤلاء الجنود ضد حكوماتهم وخاصة الولايات المتحدة ستكون فلكية.
استسلمت الحكومة العراقية للضغط الشعبي وقررت إجراء دراسة لسرطان الأطفال والتشوهات الخلقية. ومن غير المستغرب أن تلجأ وزارة الصحة العراقية إلى منظمة الصحة العالمية لإجراء الدراسة. بدأت الدراسة في أيار 2012 واكتملت في تشرين الأول 2012 ولكن تم نشرها فقط في أواخر عام 2013. وصف كريس بزبي التقرير بأنه “ليس أقل من وصمة عار. ” ومضى في إدانة المسؤولين عن تسييس العلم حيث كتب:
لقد كتبت وقدمت عروضاً عن عدم الأمانة العلمية ويمكن للعلم أن يثبت الحقيقة لكن ليس إذا كان غير شريف وسياسي. ويبدو أن هذا التقرير والأحداث والقرارات التي سبقته ولا سيما اجتماع مراجعة النظراء في مدرسة لندن للصحة وطب المناطق الحارة هي مثال تقليدي على عدم الأمانة العلمية. يذكرني استخدام مدرسة لندن للصحة والطب الاستوائي باستخدام الجمعية الملكية لإنتاج تقرير مشين عن اليورانيوم المنضب في عام 2001. وبما أن النتيجة تهدف إلى تبرئة الجيش الأمريكي والمملكة المتحدة مما يعد جرائم حرب فعلية وبما أن النتيجة ستستخدم للدفاع عن استمرار استخدام أسلحة اليورانيوم فيجب تقديم جميع المعنيين بهذه الخدعة أمام محكمة جنائية ومحاكمتهم على ما فعلوه لأن أفعالهم هي المسؤولة عن المعاناة البشرية والموت ولا يمكن أن نغفرلهم . هذه قضية من قضايا حقوق الإنسان”
وتم، في خضم خداع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في استخدام الأسلحة الإشعاعية والكيميائية في العراق، تم إغفال قضية قانونية واحدة أو تم تنحيتها جانباً عمداً. يجب الإشارة إلى عنصر حيوي للمسؤولية على النحو المنصوص عليه في الملحق الأول لاتفاقيات جنيف. إذ تنص المادة 36 من الملحق 1 على ما يلي:
المــادة 36: الأسلحة الجديدة
يلتزم أي طرف سام متعاقد، عند دراسة أو تطوير أو اقتناء سلاح جديد أو أداة للحرب أو اتباع أسلوب للحرب، بأن يتحقق مما إذا كان ذلك محظوراً في جميع الأحوال أو في بعضها بمقتضى هذا الملحق ” البروتوكول ” أو أية قاعدة أخرى من قواعد القانون الدولي التي يلتزم بها الطرف السامي المتعاقد .
إن التزام الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بإظهار أن استخدام أسلحة اليورانيوم المنضب آمن بموجب القانون الدولي لا خلاف عليه وبالتالي فليس متاحاً للولايات المتحدة / المملكة المتحدة أن تجادل بأنه لا يوجد دليل لربط استخدام هذه الأسلحة بالموت أو الأمراض دون الحاجة إلى نشر نتائج أبحاثهم التي ستظهر مثل هذا الاستنتاج. ومن الواضح تماماً مدى حصافة واضعي الملحق الذين لقد أدركوا سببين أساسين لضرورة هذه المادة لحماية المدنيين. أولاً إنه يتجاوز قدرة أي فرد على إثبات أن مرضه أو وفاة أحد أقاربه كان بسبب سلاح جديد. وثانيًا سيكون الأوان قد فات لعكس الضرر أو تصحيح الوضع بمجرد حدوث الضرر وبالتالي يجب تقديم دليل على سلامة هذه الأسلحة الجديدة على المدنيين قبل قبولها للاستخدام.
فشلت كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة حتى الآن في التوصل إلى دليل يفي بالتزاماتهما بموجب المادة 36. وهكذا يستمر التدمير.