القتل والتعذيب والتهجير
أصبح العراق منذ العقد الأخير من القرن العشرين وحتى اليوم حقل القتل الجديد للصهيونية العالمية . فقد كان الأرض التي تجلى فيها الشر بأشكال متعددة – الخداع والحصار والعدوان والغارات الجوية العشوائية والغزو والاحتلال والتهجير والميليشيات السرية والحالمون الدينيون. ويبدو أنه لا نهاية للكارثة المستمرة التي بدأت بالهجوم الشامل على العراق في عام 1991 ظاهرياً لإخراج الجيش العراقي من الكويت لكنها في الواقع دمرت كل العراق ثم تبعها حصار الإبادة الجماعية الذي لم تكن له علاقة بالغرض المعلن للهجوم. ويبدو الأمر كما لو أن الهجوم الدولي بقيادة الولايات المتحدة عام 1991 سخر شر العالم بأسره الذي كان ينتظر إطلاق العنان له. وإلا كيف يمكن لمراقب موضوعي أن يصف ما كان يحدث في العراق منذ عام 1991؟ كيف يمكن لأي شخص أن يصف المعاملة غير الآنسانية المهينة للعراقيين على أيدي المحققين الأمريكيين في أبو غريب؟
تعاملنا في الجزء الأول من كتاب الإبادة الجماعية في العراق بشكل عرضي مع الدمار والقتل اللذين حدثا في سنوات الحصار بين عامي 1991 و2003 . وقد شعرنا بالذهول من حجم القتل لدرجة أننا لم نكد نشكك في الأسس الأخلاقية أو القانونية لمثل هذه المذبحة بل نجادل فيما إذا كان عدد القتلى حتى الآن نصف مليون فقط أو تجاوز المليون. وبينما يشير المعلقون الآخرون عادة إلى “الوفيات” فإننا نسميهم “القتلى” لأن هذا هو ما حدث عن قصد وعن إدراك تسبب فيه وأشرف عليه مسؤولون حكوميون ومسؤولون دوليون ونفذوا ما يسمى بـ “العقوبات” ضد العراق – وهي كلمة أخرى لا نستخدمها نحن لأنها قد تحمل سمة العمل الصحيح. ومن المفارقات أن الفظائع يجب أن تستدعي بالتأكيد درجة مختلفة من الاهتمام. سوف نراجع ما هو متاح من أرقام الخسائر البشرية ليس من أجل التشكيك في حقيقة الأرقام أو عدمها ولكن لفهم ما تعنيه وما هي الرسالة التي تحملها .
لم تنشر الحكومة العراقية تحت ضغط من الولايات المتحدة حتى الآن أرقاماً تقريبية للقتلى منذ عام 2003. وكان من السهل على الحكومة العراقية من خلال تجميع الأرقام من سجل وزارة الصحة والسجل المدني في كل مدينة عراقية التوصل إلى رقم تقريبي. كتبت صحيفة لندن جارديان في عام 2008 أنه لا يوجد نقص في تقديرات الخسائر التي تختلف بشكل كبير. ومضت لتصرح أنه على الرغم من أن وزارة الصحة العراقية حاولت الإبقاء على الإحصاء بالاعتماد على أرقام من مشرحة بغداد، وهي المتلقي الرئيسي للجثث، إلا أنها توقفت عن الإبلاغ عن الأرقام تحت ضغط من الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة في المنطقة الخضراء .
ترك التقدير لعدد قليل من الجهات غير الرسمية وعدد من الاحصاءات. وكانت المنظمة التي استشهد بها أولئك الذين يحاولون التقليل من حجم القتل هي منظمة”Iraq Body Count” (IBC) والتي يبدو أنها تعتمد على تقارير وسائل الإعلام في حساب أعداد الضحايا في العراق. كان رقمهم الحالي للعراقيين الذين قتلوا اعتباراً من 22 تموز 2013 هو 115503 – 126796 . وقد تم انتقاد أرقام IBC باعتبارها غير دقيقة لأن المنظمة اعتمدت على تقارير وسائل الإعلام العراقية التي هي إما غير مبالية بمسائل مثل عدد الضحايا و / أو هي بشكل أساس موالية للحكومة وليست لديها مصلحة في الاعتراف بالحجم المقلق للقتل. وكانت بعض العائلات في كثير من الحالات لا تقوم حتى بإبلاغ الوفيات إلى السلطات.
أصدرت محكمة بروكسل (The BRussell Tribunal) التي كانت في طليعة حملة التحقيق وكشف الجرائم المرتكبة في العراق منذ الغزو أرقاماً مختلفة. درس ديرك أندريانسينس من محكمة بروكسل تقارير متعمقة عن الضحايا وجمع أرقامه عن الأعداد الحقيقية للقتلى والمشردين والأيتام منذ عام 2003. واعتمد على تقدير أجرته مجلة لانسيت التي خلصت إلى أنه حتى تموز 2006 قُتل ما يقدر بنحو 600000 شخص وتم تحديث هذا الرقم للوصول إلى الرقم الجديد حتى عام 2010. وإليكم أرقامه:
قتل 1،450،000 و 7،700،000 لاجئ و 5،000،000 يتيم و 3،000،000 أرملة و 1،000،000 مفقود … كلهم في بلد يقارب سكانه 30 مليون نسمة !
سننظر الآن في الأرقام التي قدمتها بعض الدراسات الاستقصائية. تم إجراء المسح الأول بواسطة The Lancet، وهي المجلة الطبية البريطانية العتبرة، وقدم التقرير الطريقة المستخدمة في المسح والتي تعتبر ذات أهمية كبيرة لمصداقية أي مسح على النحو التالي:
“قمنا بين أيار وتموز 2006 بإجراء مسح مقطعي وطني بالعينة العنقودية للوفيات في العراق. تم اختيار 50 مجموعة بشكل عشوائي من 16 محافظة وكانت كل مجموعة تتكون من 40 أسرة وتم جمع المعلومات عن الوفيات من هذه الأسر ” . وخلص الباحثون إلى أن عدد القتلى العراقيين بين آذار 20003 وتموز 2006 معظمهم من جراء إطلاق النار بلغ 601027 قتيلاً. وتجدر الإشارة إلى أن تقرير لانسيت كان معنيا بالفترة التي سبقت تصاعد العنف الطائفي.
وانتقدت الولايات المتحدة التي رفضت نشر أي أرقام عن الخسائر المدنية في العراق، على الرغم من ادعائها بأنها مسؤولة عن كل لولب يدخل في جهود الحرب، تقرير لانسيت ووصفته بأنه “فيه عيب كبير”. ومع ذلك قدم السير روي أندرسون كبير المستشارين العلميين في المملكة المتحدة لوزارة الدفاع (MOD) الدعم العلمي لتقرير لانسيت عندما ذكر أن “تصميم دراسة [لانسيت] قوي ويستخدم أساليب تعد قريبة من أفضل الممارسات في هذا المجال بالنظر إلى صعوبات جمع البيانات والتحقق منها في الظروف الحالية في العراق”.
تم إجراء استطلاع آخر في آب 2007 من قبل Opinion Research Business (ORB) الذي هو عضو في مجلس الاقتراع البريطاني. وتم وصف المنهجية المستخدمة في المسح على أنها تستخدم “أخذ عينات احتمالية عشوائية متعددة المراحل وتغطي خمس عشرة محافظة من أصل ثماني عشرة محافظة داخل العراق باستثناء كربلاء والأنبار اللتين استبعدتا لأسباب أمنية. كما تم استبعاد أربيل لأن السلطات رفضت منح تصريح لفريقنا الميداني “. وبعد جمع نتائج المقابلات وجهاً لوجه والتي أظهرت أن 22٪ من الأسر فقدت أحد أفرادها بسبب العنف، قام الباحثون بعكس هذه النتائج على ما يقدر بنحو 4 ملايين أسرة في العراق وخلصوا إلى أن عدد العراقيين الذين قتلوا بسبب العنف نتيجة الغزو والصراع الذي أعقبه بحلول آب 2007 كان حوالي 1.220.580.
تم إجراء الاستطلاع الأخير الذي نُشر في 15 تشرين الأول 2013 بالتعاون بين باحثين أمريكيين وكنديين ووزارة الصحة العراقية. وعرض الباحثون أسباب المسح على النحو التالي:
قدر عدد من الدراسات السابقة عدد القتلى في العراق منذ بداية الحرب في آذار 2003. وغطت الدراسات السابقة فترات مختلفة من 2003 إلى 2006 واستخلصت معدلات مختلفة للوفيات الإجمالية والوفيات الزائدة التي تُعزى إلى الحرب والصراع. وكانت جميعها مثيرة للجدل وتم انتقاد مناهجها. أما بالنسبة لهذه الدراسة وبناءً على مسح الوفيات على أساس السكان فقد قام الباحثون بتعديل وتحسين منهجيتهم استجابة للانتقادات التي واجهتها الاستطلاعات السابقة. وتغطي الدراسة الفترة من بداية الحرب في آذار 2003 حتى حزيران 2011 بما في ذلك فترة العنف المرتفع من 2006 إلى 2008. وتقدم تقديرات سكانية للوفيات الزائدة في السنوات التي تلت عام 2006 وتغطي معظم فترة الحرب والاحتلال اللاحق . 24
خلص البحث إلى أن ما يقرب من نصف مليون حالة وفاة في العراق يمكن أن تعزى إلى الحرب.
ذكرت Global Research في عام 2011 أن “وزارة العمل والشؤون الاجتماعية تقدر أن حوالي 4.5 مليون من الأطفال هم يتامى وأن ما يقرب من 70 في المائة منهم فقدوا والديهم منذ الغزو والعنف الذي تلاه. ويعيش حوالي 600000 طفل من العدد الإجمالي في الشوارع دون منزل أو طعام للبقاء على قيد الحياة. يعيش 700 طفل فقط في 18 دار للأيتام موجودة في البلاد ويفتقرون إلى احتياجاتهم الأساسية ” . لكننا نستطيع بعملية حسابية بسيطة تقدير رقم جديد للقتلى وفقاً لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية. فإذا كانت الأسرة المتوسطة في العراق تتكون من 3 أطفال فإن عدد القتلى منذ الغزو سيكون حوالي مليون!
لم يتباطأ القتل منذ عام 2011 بل أنه إذا حدث أي شيء فإنه قد اشتد في عام 2013 وجميع المؤشرات تشير إلى أنه في طريقه إلى الارتفاع مع تدفق المزيد من الرجال والأموال والمعدات من المملكة العربية السعودية عقاباً لغالبية العراقيين (وليس الحكومة) للانحياز إلى جانب النظام السوري ضد الإسلاميين. وتُظهر أحدث الأرقام الصادرة في تشرين الثاني 2013 من قبل All Iraq News واستناداً إلى الخسائر التي تم الإبلاغ عنها شهرياً من قبل مساعد بعثة الأمم المتحدة في العراق (UNAMI) أنه في الأشهر الأربعة الماضية قُتل أو جُرح 12.210 في العراق من خلال العنف حيث قُتل 3819 شخصاً وجُرح 8391 شخصاً . وهذا يعني أن ما معدله 100 شخص يقتل أو يجلرح دون مسوغ كل يوم في العراق خلال الأشهر الأربعة الماضية. إن هذا الاتجاه المثير للقلق يبين حجم الكارثة التي حلت بالعراق بسبب الغزو والاحتلال وعواقبهما. لكن ذلك كان عام 2013 فقط ونحن الآن في عام 2014 [تأريخ كتابة الكتاب الأصلي!] نشهد تشكيل تحالف دولي يقوم بمهمة قصف العراق من أجل وقف ما يعرف الآن باسم الدولة الإسلامية والتي نشأت من التمرد ذاته الذي كان يتمتع في السابق بتمويل سعودي.
لا يمكن الحديث عن أعداد القتلى دون التعليق على الجرحى. لكن الحكومة العراقية لم تنشر أرقاما عن الجرحى في السنوات العشر الماضية من العنف ومن المحتمل أنه لم يتم حتى جمع مثل هذه السجلات لأن المسؤولين العراقيين غير مبالين بمعاناة العراقيين. وعرض اقتراح باحتساب نسبة الجرحى إلى القتلى على أساس 4: 1 أو 6: 1 أو حتى 7: 1. إذا استقرينا على الرقم المتوسط وافترضنا أن عدد القتلى المذكور أعلاه في منتصف الطريق بين نصف مليون ومليون فإننا نتحدث عن ما يقرب من أربعة ملايين عراقي أصيبوا حتى الآن أصيب معظمهم بالمتفجرات عالية الكثافة التي يحملها مفجرون انتحاريون أو سيارات مفخخة أو عبوات ناسفة. ومن المرجح أن تؤدي الجروح الناتجة عن مثل هذه الانفجارات إلى بتر أو ضعف بعض الحواس الجسدية مثل السمع أو الرؤية. أي أنه باختصار يوجد في العراق اليوم بضعة ملايين من الأشخاص المعوقين بطريقة أو بأخرى بسبب العنف الذي اندلع منذ الغزو. وفي بلد كانت خدماته الاجتماعية محدودة بالفعل قبل الغزو وتم القضاء عليها منذ ذلك الحين فإن هؤلاء الملايين من الجرحى العراقيين ليس لديهم من يعتني بهم أو يوفر لهم الرعاية الطبية والاجتماعية التي يحتاجون إليها.
نعتقد أنه سيكون من المناسب إغلاق هذا القسم الخاص بالقتل بكلمات البروفيسور ريموند بيكر في خطابه أمام الندوة الدولية للدفاع عن الأكاديميات العراقية في غنت في 9-11 آذار 2011 كما نقلها ديرك أدريانسنس:
هناك شيء يعمي حول الدمار على هذا النطاق الرهيب للغاية. وهناك شيء مؤلم للغاية حول طرق المناقشة لحساب عدد الأبرياء المقتولين عندما تأخذنا الأرقام على الفور تقريباً إلى أبعد من مئات ومئات الآلاف من الأنفس البشرية. كم عدد صفحات وصفحات ويكيليكس التي تتحدث عن القتل عند نقاط التفتيش والتعذيب الذي لا يوصف والقتل العشوائي من قبل متعاقدين غير خاضعين للرقابة يمكن للمرء أن يقرأها باشمئزاز من المحتلين والتعاطف مع الضحايا الذين يستحقون. العقل يغلق أو هكذا يبدو. قد يكون ذلك من رحمة الله ولكنه يجب أن يقاوم.
ليست الكتابة عن التعذيب أقل إيلاماً. فبينما كان هناك دائماً تعذيب في العالم فإننا نود أن نعتقد أن البشرية تقلل بشكل تدريجي من المعاملة غير الإنسانية للبشر. لكن هل نحن كذلك؟ هل كان هناك تعذيب في عهد صدام حسين؟ الجواب بلا شك سيكون نعم وإن كان أكثر في العقود الأولى من العقود اللاحقة. لقد أعطى الوعد الأمريكي بالديمقراطية في العراق الناس الأمل في أن مثل هذه الممارسات كانت وراءهم لكن هذا المصير لم يكن ينتظر شعب العراق. فقد استمر التعذيب بعد حكم البعث أولاً على أيدي أفراد الولايات المتحدة مع كشف وصمة عار أبو غريب ليراها الجميع واستمرت خلال السنوات السوداء الرهيبة التي تلت ذلك. كان الاختلاف الأساس في ممارسة التعذيب في العراق بين ما قبل الغزو وما بعده هو حقيقة أنه بينما كان يمارس في السابق بواسطة أدوات معينة للدولة مع قنوات معينة لمتابعة المساءلة في فترة ما بعد الغزو إلا أنه في الفترة التي تلت الغزو مارسته الميليشيات في زنازين سرية بلا نظام أو عقوبات قضائية أو سجلات أو قنوات للمساءلة أو المسؤولية.
ولا يمكن أن ينم الادعاء الغربي حول مشاركته النشطة في القضاء على التعذيب إلا عن نفاق. فقد تم القبض على الولايات المتحدة متلبسة في سجن أبو غريب حيث كانت تأمل ألا يتم الكشف عن مثل هذه الممارسات وإذا حدث ذلك فإنه يمكن التخلص منه على أنها دعاية من قبل البعثيين المخلوعين. لكن ما حدث في أبو غريب لم يكن حوادث منعزلة نفذتها عناصر مارقة في الجيش أو وكالة المخابرات المركزية وإنما ممارسات أقرتها أعلى سلطة في الإدارة والجيش والاستخبارات الأمريكية .
وحيث إن التشريعات المحلية تمنع التعذيب في الولايات المتحدة فقد ابتكرت براعة الولايات المتحدة أسلوبًا جديدًا يسمى “التسليم الاستثنائي” (ER) – وهو نقل المحتجز دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة إلى الاحتجاز في دولة أجنبية وليس غريباً إذا كانت قد تم تصنيفها على أنها دولة مارقة من قبل الولايات المتحدة نفسها لكي تقوم تلك الدولة باحتجاز واستجواب المعتقل بما يتماشى مع رغبات الولايات المتحدة. ومن المعروف أن العديد من الأشخاص قد تم إرسالهم عبر هذا الطريق حيث تم تعذيبهم من قبل الدولة المتلقية ثم تم نقل الاعترافات إلى الولايات المتحدة . وتجنبت الولايات المتحدة بهذه الطريقة اتهامها بالتعذيب بينما استمرت في تحقيق هدفها المتمثل في انتزاع الاعترافات. لكن تواطؤ الولايات المتحدة في كل جريمة عن طريق التسليم الاستثنائي أمر لا شك فيه بالإضافة إلى تواطؤ عدد كبير وبشكل مدهش من الدول مثل ألبانيا وأستراليا والنمسا وأذربيجان وبلجيكا والبوسنة والهرسك وكندا وكرواتيا وقبرص وجمهورية التشيك والدنمارك ومصر وفنلندا وجورجيا وألمانيا واليونان وأيسلندا وأيرلندا وإيطاليا ومقدونيا وليتوانيا وبولندا والبرتغال ورومانيا وإسبانيا والسويد وسورية والمملكة المتحدة.
لكنهم في العراق لم يكونوا بحاجة إلى “التسليم الاستثنائي” لأنهم كانوا قادرين على الإفلات من العقاب مهما فعلوا حيث لم يكن هناك إشراف ومساءلة مطلوبين من الغازي. كان بريمر قد فرض حاكماً للعراق وكان يتمتع بالسلطة المطلقة. ووجد أفراد من الجيش والاستخبارات وشركات الأمن الخاصة أنفسهم أحراراً في فعل ما يحلو لهم في العراق. وهناك العديد من المقاطع المصورة التي نشرها الجنود الأمريكيون والمتوفرة على شبكة المعلومات والتي يظهرون من خلالها وهم يستهدفون السيارات التي تقف خلفهم على الطرق في العراق. وعلى الرغم من فضيحة أبو غريب وحقيقة أن “العديد من قضايا القتل التي شملت معتقلين ماتوا أثناء استجوابهم من قبل وكالة المخابرات المركزية أحيلت إلى وزارة العدل للمحاكمة في عامي 2004 و2005 إلا أنه لم يتم حتى الآن اتهام أي عميل من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ” .
وقد استخدمت الولايات المتحدة، إلى جانب حرية الأمريكيين في العراق، الميليشيات العراقية القاتلة للقيام بعملها القذر. ولم تكن الولايات المتحدة جديدة على هذه الممارسة فهذا ما فعلت من قبل في أمريكا الوسطى. لكن الأمر كان أسهل في العراق بسبب عدم وجود مراقبين مستقلين وغياب أية معارضة منظمة لسياسات الولايات المتحدة. لعب رجلان – جون نيجروبونتي وجيمس ستيل – أدواراً مماثلة في العراق لتلك التي لعبوها سابقاً في أمريكا الوسطى. كان نيغروبونتي سفيراً للولايات المتحدة في العراق للفترة ما بين حزيران 2004 ونيسان 2005 بينما كان جيمس ستيل عقيداً متقاعداً قاتل في فيتنام وعمل مستشاراً عسكرياً في السلفادور “حيث قاد فرق الموت السلفادورية القاسية في الثمانينيات” . بدأ نيغروبونتي حياته المهنية بتورط وكالة المخابرات المركزية في فيتنام وأصبح في وقت لاحق في ثمانينيات القرن الماضي سفيراً للولايات المتحدة في هندوراس حيث شارك في إنشاء ما أصبح يُعرف باسم “فرق الموت” المسؤولة عن تعذيب وقتل الآلاف من الهندوراسيين. كان جيمس ستيل في الوقت نفسه “قائداً لمجموعة المستشارين العسكريين الأمريكيين في السلفادور كما قام بتهريب أسلحة إلى متمردي الكونترا في نيكاراغوا “. ظهر ستيل بعد الغزو في العراق كمستشار لقوات الأمن العراقية. لم يكن وجود الرجلين في بغداد عرضياً ويبدو أن نشاطهما المشترك جعل مجلة نيوزويك في كانون الثاني 2005 تسميه “خيار السلفادور” في العراق . إن من المؤسف ولكن الحقيقي هو أن المقاومة لغزو العراق واحتلاله كانت بشكل رئيس من بين السنة في العراق إذ يبدو أن معظم الشيعة في العراق كانوا سعداء بالغزو الذي مكّنهم لأول مرة في تاريخهم من تولي سلطة موهومة. وقد جعل مثل هذا الإدراك الأمريكيين يعتمدون على الشيعة لمقاومة التمرد السني. وتحقيقاً لهذه الغاية كان جهد نيغروبونتي- ستيل هو تدريب أعضاء فيلق بدر الذي تم تشكيله وتسليحه في الأصل من قبل إيران، وجيش المهدي أكبر مليشيات شيعية في العراق، لاستهداف قيادات وشبكات الدعم في المقاومة السنية في المقام الأول .
أجرت صحيفة The London Guardian وقناة BBC Arabic تحقيقاً استمر 15 شهراً بعد أن تلقت الأولى آلاف السجلات العسكرية الأمريكية السرية من موقع ويكيليكس. وتم إصدار الشريط الوثائقي بعنوان “جيمس ستيل: الرجل الغامض الأمريكي في العراق” في 6 آذار 2013 . وصفت الوثائق العسكرية الأمريكية السرية آلاف الحوادث حيث صادف الجنود الأمريكيون معتقلين يتعرضون للتعذيب في شبكة من مراكز الاعتقال التي تديرها قوات مغاوير الشرطة في جميع أنحاء العراق . ووفقاً للنتائج كانت لدى البنتاغون في البداية تحفظات على تبني متمردي بدر ربما لأنهم تم إنشاؤهم وتدريبهم في إيران لكنهم (البنتاغون) قرروا رفع الحظر المفروض على انضمام هذه الميليشيات الشيعية إلى قوات الأمن في العراق على الأرجح بعد أن أكد قادة المليشيات ولاءهم للغزاة. وبناءً على ذلك أرسل البنتاغون أحد المحاربين المخضرمين في “الحروب القذرة” في أمريكا الوسطى (جيمس ستيل) للإشراف على وحدات مغاويرالشرطة الطائفية في العراق التي أقامت مراكز اعتقال وتعذيب سرية للحصول على معلومات من المتمردين. كانت هذه الوحدات تسمى مغاوير الشرطة الخاصة (SPC) وبحلول نيسان 2005 كانت هناك ست كتائب منها كتيبة في بغداد قوامها 5000 رجل .
تم دعم ستيل في عمله من قبل العقيد جيمس كوفمان الذي أبلغ الجنرال ديفيد بترايوس الذي أظهر الشريط الوثائقي تورطه هو نفسه لعلمه بجميع الانتهاكات المرتكبة في المراكز. وتفاخر كوفمان بهذه العلاقة واصفا نفسه بأنه “عيون وآذان بترايوس على الأرض” في العراق. وبحسب ما ورد قال ضابط عراقي كبير عمل مع كل من ستيل وكوفمان:
لم أرهما مطلقاً منفصلين في الـ 40 أو الـ 50 مرة التي رأيتهما فيها داخل مراكز الاحتجاز. كانا يعرفان كل ما كان يجري هناك … التعذيب .. أبشع أنواع التعذيب .
قد يكون صحيحاً أن ستيل وكوفمان لم يعذبا الناس بأنفسهما أبداً لكن القول بأنهما لم يكونا على علم بالانتهاكات التي تحدث هو أمر لا يمكن الدفاع عنه. وقد يكون من السخرية من أجهزة الاستخبارات الأمريكية الادعاء بأن أي شيء يتعلق بالأمن كان يمكن أن يحدث في العراق دون مشاركة القيادة الأمريكية العليا بشكل مباشر في ذلك أو الإذعان له أو على الأقل المعرفة به. ورداً على الإيحاء بأن الأمريكيين لم يكونوا على علم بما يحدث في المعتقلات قال اللواء عدنان ثابت قائد قوات المغاوير ما يلي:
كان الأمريكيون حتى مغادرتي يعرفون كل ما أفعله؛ كانوا يعرفون ما يجري في الاستجوابات وكانوا يعرفون المعتقلين. إن بعض المعلومات الاستخبارية عن المعتقلين جاءت إلينا منهم – إنهم يكذبون .
وبحسب التحقيق الخاص بالشريط الوثائقي يبدو أن تدريب قوات المغاوير أطلق العنان لميليشيات طائفية قاتلة استمرت فيما بعد لقتل مئات السنة في العراق. واعتاد الناس على الاستيقاظ ورؤية طرقهم ممتلئة بالجثث لدرجة أنه في أوجها تناثرت حوالي 3000 جثة شهرياً في شوارع بغداد – كما عانى أقاربنا.
قدمت صحيفة الغارديان الملاحظة التالية الجديرة بالذكر لتلخيص الأمر برمته ولتظهر بوضوح أن الولايات المتحدة كانت مسؤولة بشكل مباشر عن التعذيب والقتل في العراق كما كان الحال في أمريكا الوسطى:
يسير النمط السائد في العراق باتجاه مواز بشكل مخيف لانتهاكات حقوق الإنسان الموثقة جيداً التي ارتكبتها فرق شبه عسكرية نصحتها ومولتها الولايات المتحدة في أمريكا الوسطى في الثمانينيات. كان ستيل رئيس فريق أمريكي من المستشارين العسكريين الخاصين الذين دربوا وحدات من قوات أمن السلفادور على مكافحة التمرد. زار بتريوس السلفادور في عام 1986 بينما كان ستيل هناك وأصبح من كبار المدافعين عن أساليب مكافحة التمرد .
وفي تبادل بين اللواءل بيتر بيس ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد أشار الأخير إلى جهله بمسؤولية المحتل بموجب القانون الدولي الإنساني في التدخل ومنع المعاملة غير الإنسانية للسجناء أو المدنيين على حد سواء. وأشار أحد المعلقين إلى هذا على أنه دليل على “الفراغ الأخلاقي للقيادة الأمريكية أثناء حرب العراق”. نعتقد أن الأمر يتجاوز ذلك لإظهار الفراغ الأخلاقي للعالم بأسره كما يمثله مجلس الأمن الذي لم يمتنع فقط عن إدانة غزو عضو ذي سيادة في الأمم المتحدة بل كافأ العدوان بمنح الغزاة تفويضاً ليحكموا العراق كما يحلو لهم مما ادى الى كارثة مستمرة.
كانت الولايات المتحدة قد أصرت طوال وجودها في العراق أنه يسمح للمواطنين الأمريكيين فقط باستجواب السجناء في سجن أبو غريب ومراكز الاعتقال الأخرى. لكن روبرت فيسك أشار إلى أن تقرير الجنرال الأمريكي أنطونيو تاغوبا حول التعذيب في أبو غريب أشار إلى تورط رعايا دول ثالثة في إساءة معاملة السجناء في العراق . وبالنظر إلى الخوف الإسرائيلي من البعثيين الذين تعهدوا باستعادة فلسطين من الاحتلال الصهيوني فإن السؤال الذي لا مفر منه والذي يخطر بالذهن بعد هذا الكشف هو: هل كان أي عضو في الموساد الإسرائيلي يحمل جنسية أمريكية مزدوجة متورطًا في هذه الاستجوابات؟
بدأت دوامة القتل بغزو “الصدمة والرعب” وطرد عشرات الآلاف من البعثيين من وظائفهم والعنف الطائفي الذي أعقب التسليح الأمريكي المخطط للميليشيات الشيعية والسنية. وقد أدى ذلك إلى أكبر تهجير للناس في الشرق الأوسط منذ طرد الفلسطينيين في عام 1948. وبما أن الحكومة العراقية ليست لديها سجلات وإذا كانت لديها فقد لا تنشرها فإن معظم الأرقام هي تقديرات باستخدام أية مؤشرات متاحة. قدر الهلال الأحمر العراقي في عام 2007 أنه في بغداد المدينة التي يبلغ عدد سكانها حوالي 6 ملايين نسمة فإن واحداً من كل أربعة سكان قد نزح من منزله . وقدر آخر عدد العراقيين النازحين داخل العراق بـ 2.7 مليون مع إجبار حوالي مليوني شخص على الانتقال إلى سوريا أو الأردن . وصاغتها منظمة هيومن رايتس ووتش الخبر على النحو التالي:
العراق هو موطن لحوالي مليوني نازح داخلي نزح حوالي 1.5 مليون منهم منذ عام 2006… .. يعيش حوالي 500.000 من هؤلاء الـ 1.5 مليون كمساكنين في الأحياء الفقيرة بدون خدمات أساسية بما في ذلك جمع القمامة والمياه والكهرباء . 48
ولكن سواء أكان عدد النازحين العراقيين 2 مليون أم 2.7 مليون فما زلنا نتحدث عن ما يعادل 50 مليون نازحاً داخلياً في الولايات المتحدة! مشكلة أولئك الذين أجبروا على البحث عن ملاذ خارج العراق هي أكثر خطورة بالنسبة لهم وعلى مستقبل العراق فقد كان عليهم أن يعانوا من مصاعب هائلة وفقد العراق جيلاً من المهنيين المؤهلين تأهيلاً عالياً بسبب رحيلهم.
لكن تهجير العراقيين يتجاوز البؤس الذي تسبب لهؤلاء الملايين. إنه يتعلق بالضرر الذي لا رجعة فيه للمجتمع الذي نتج. يوجد في بغداد حوالي 200 منطقة مختلطة في الطوائف والأديان ونحن نشأنا في منطقة واحدة حيث عاش اليهود والمسيحيون والمسلمون من كلا الطائفتين في وئام لقرون. ولكن خلال عام 2007 نجت 25 منطقة فقط في بغداد من أن تصبح ذات لون واحد وعانت سائر الاحياء من التطهير الذي ادى الى ان تكون اغلبية احياء بغداد اليوم من طائفة واحدة . وهذه عملية لا رجوع عنها أضرّت بنسيج بغداد الذي كان قائماً منذ ألف عام.
إن مؤامرة الصمت التي حددناها في الجزء الأول من كتابنا الإبادة الجماعية في العراق الذي ضمن تغطية وسائل الإعلام الغربية للعراق بالحد الأدنى قد استمرت بعد الغزو ومنذ ذلك الحين. هناك الكثير من الأدلة حتى الآن لكن التغطية لبؤس النزوح الذي لا يوصف قليلة. دع الأمم المتحدة تحكي القصة على حد تعبير جون هولمز وكيل الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة:
ما قد يفاجئ البعض منكم هو أن عدد النازحين في دارفور يمكن مقارنته بعدد النازحين داخلياً في العراق. وفي الوقت الذي يدرك فيه الكثيرون معاناة المدنيين في دارفور فإنه يحزنني أن أرى التهديدات اليومية التي يواجهها العراقيون والتي تفاقمت بالطبع بسبب العنف المستمر ما زال يتم الإبلاغ عنها بأقل من قيمتها وتقليلها .