التهيئة للغزو
أرادت الولايات المتحدة قبل الشروع في أي عمل عسكري دعم دول المنطقة واتخذت إجراءات لضمان الدعم المفتوح من المملكة العربية السعودية والكويت والبحرين وعمان وقطر والإمارات العربية المتحدة والدعم “الهادئ” من الأردن . كان الهدف هو إعطاء الانطباع بوجود “تحالف” كبير يواجه العراق خاصة من الدول العربية. لقد حصلت الولايات المتحدة بالفعل على الدعم الكامل من المملكة المتحدة وأستراليا اللتين اتخذ رئيسا وزرائهما قراراتهما على الرغم من المعارضة القوية من الجمهور.
وقد ساعد هؤلاء “الحلفاء” العرب على مدى الفترة الممتدة من حزيران 2002 إلى شباط 2003 الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في حشد وإيصال إمداداتهم ومعدات القتال البرية الرئيسة عن طريق البحر . وقد حدث هذا في وقت مبكر جداً من أي حديث عن الحاجة إلى قرار جديد لمجلس الأمن! منحت هذه الدول العربية الشريكين الرئيسين في التحالف الوصول إلى القواعد الخليجية التي احتاجتاها للغزو المخطط له. وعندما رفضت تركيا السماح للولايات المتحدة باستخدام أرضها أو جوها بشكل علني تم تعديل الخطط للسماح بشن هجمات متزامنة من الشمال والجنوب. وتمكنت قوات العمليات الخاصة من وكالة المخابرات المركزية والجيش الأمريكي من إعداد وقيادة البيشمركة الكردية من الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى قوة فعالة للهجوم من الشمال الى جانب القواعد الأساس للغزو في دول الخليج والأردن.
كانت وكالة المخابرات المركزية تعمل بجد قبل أن تبدأ الحرب في رشوة الضباط العراقيين أو إقناعهم أو إجبارهم على عدم القتال. ودخل أكثر من 50 فريقا من القوات الخاصة من القوات الخاصة البريطانية والأسترالية الصحراء العراقية بهدف تحييد نقاط المراقبة العراقية على طول حدود العراق مع الأردن والكويت والمملكة العربية السعودية. وقد نجحوا بحسب ما ورد في الاستيلاء على 50 من هذه النقاط في الليلة الأولى من الحرب و50 أخرى في الليلة الثانية. وتم تكليف فرق القوات الخاصة الأخرى بمنع انتشار صواريخ سكود على الرغم من أن تفاصيل هذه العمليات ما تزال سرية .
كان التحالف قد أنشأ خلال العقد السابق مجموعة كاملة من القواعد العسكرية في العديد من دول الخليج التي نقل إليها المعدات والإمدادات لمدة ما يقرب من عام مع تحسين مرافقه الأمامية في قطر والكويت. لكن الحشد في المملكة العربية السعودية بدأ قبل ثلاثة عقود تقريباً مع خطة جيمي كارتر لقوات الانتشار السريع وبناء القواعد والمطارات في المملكة العربية السعودية التي لم تكن هناك حاجة لها .
كانت الحرب على العراق قد بدأت في الواقع في أيلول 1990 ولم تتوقف أبداً حيث تركزت الدوريات في مناطق حظر الطيران المفروض من جانب واحد طوال التسعينيات وبدأت بخاصة ابتداءً من عام 2002 بتدمير أنظمة الدفاع الجوي العراقية بأسلحة دقيقة التوجيه .
كان هناك في بداية الحرب في آذار 2003 قرابة 10000 جندي من الجيش الأمريكي مع 200 مقاتلة وناقلة وطائرة استطلاع في قاعدة الأمير سلطان في المملكة العربية السعودية. كانت الأسرة الحاكمة قد وافقت بالفعل في شباط 2003 على كل طلب أمريكي للدعم العسكري والتدبيري . “منحت” المملكة العربية السعودية حقوق التحليق للطائرات والصواريخ الأمريكية كما قدمت لقوات العمليات الخاصة الأمريكية قواعد انطلاق نحو العراق . وتم استخدام 36 قاعدة جوية سعودية على نطاق واسع لمهام “منطقة حظر الطيران” التي كانت مستمرة منذ عام 1991 وبالتالي ساعدت في إضعاف الدفاعات الجوية العراقية قبل وأثناء الحرب . وقام النظام السعودي بتزويد بعثات أواكس و E-8C على الأراضي السعودية بالوقود بأقل تكلفة. وقد وضع السعوديون إلى جانب السماح باستخدام مركز العمليات الجوية المشتركة (CAOC) لإدارة العمليات الجوية للتحالف مرافق في عرعر تحت تصرف مهام البحث والإنقاذ التابعة للقوات الخاصة. لكن أهم خطوة ربما كان قد اتخذها السعوديون هي ضمان التدفق الثابت لصادرات النفط لتعويض خسارة الصادرات العراقية والفنزويلية .
وأعطت مصر إلى جانب استخدام القواعد والمنشآت في دول الخليج حرية المرور عبر قناة السويس وفتحت مجالها الجوي لرحلات التحالف. ولم يسمح الأردن فقط باستخدام مجاله الجوي لعمليات التحليق والسماح لوحدات باتريوت وأنظمة الإنذار الصاروخي بالعمل من أراضيه ولكنه سمح أيضاً للقوات الأمريكية الخاصة بالعمل من قواعد في شرق الأردن كان هدفها الرئيس منع صواريخ سكود العراقية التي كان يتم إطلاقها على أهداف في إسرائيل. وحلقت طائرات F-16 التي تحمل قنابل موجهة بالليزر في أكثر من 700 طلعة جوية من الأردن إلى العراق.
تم تفصيل المساهمة البريطانية في التحالف من قبل وزارة الدفاع في تقرير العمليات في العراق: وهذه هي الإنطباعات الأولى:
كانت مساهمتنا البحرية في التحالف هي الأولى التي تم الإعلان عنها في 7 كانون الثاني 2003 وتم بناؤها على الوجود الدائم للبحرية الملكية في الخليج. مجموعة المهام البحرية 2003 … تم توسيعها إلى قوة أكبر بكثير يبلغ مجموعها قرابة 9000 فرد.
… في 20 كانون الثاني أعلن وزير الدفاع عن نشر قوة برية كبيرة … بلغ مجموعها في النهاية قرابة 28000.
… حافظت القوات الجوية الملكية بالفعل على وجود قرابة 25 طائرة و1000 فرد في الخليج تحلق في طلعات جوية فوق العراق لفرض مناطق حظر الطيران وتقييد تجديد قدرات الدفاع الجوي العراقي. أعلن وزير الدفاع في 6 شباط أنه سيتم زيادة مساهمة سلاح الجو الملكي البريطاني إلى قرابة 100 طائرة ثابتة الجناحين مأهولة ومدعومة من قبل 7000 فرد إضافي.
… تطلبت مساهمة المملكة المتحدة بشكل عام قرابة 46000 فرد من إجمالي قرابة 467000 من قوات التحالف.
… قدم العديد من الآخرين مساعدة حاسمة في مجالات الاستخبارات والتدبير ونشر الوحدات القتالية. وأكد الرئيس بوش في 18 مارس أن أكثر من 40 دولة تدعم التحالف .
وبالإضافة إلى تفوق القوة الضاربة لجيوش التحالف والتقنيات المتقدمة لأسلحتها والدفاع العراقي غير الموجود عملياً فإن إجمالي القوات التي استخدمها التحالف يفوق عدد القوات العراقية. فقد وصل العدد الإجمالي للأفراد الأمريكيين المنتشرين في مراحل مختلفة مما سمي “عملية حرية العراق” إلى 466،985 فرداً. ومن أفراد التحالف النشطين الآخرين: 40906 من بريطانيا و2050 من أستراليا و31 من كندا و 180 من بولندا .
ويجب أن نتذكر أن وزارة الدفاع البريطانية ذكرت بوضوح في تقريرها الصادر في 18 آذار 2003 أن الهدف من الحملة على العراق هو “تخليص العراق من أسلحة الدمار الشامل والبرامج ووسائل إيصالها بما في ذلك الصواريخ التسيارية المحظورة على النحو المنصوص عليه في قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ذات الصلة ” . واستمر التقرير في بيان ما يلي:
إن المهام الرئيسية للتحالف هي:
- التغلب على مقاومة قوات الأمن العراقية.
- حرمان النظام العراقي من استخدام أسلحة الدمار الشامل الآن وفي المستقبل.
ج- إزالة النظام العراقي بالنظر إلى رفضه الواضح والثابت للانصياع لمطالب مجلس الأمن الدولي.
د- تحديد وتأمين المواقع التي توجد بها أسلحة الدمار الشامل ووسائل إيصالها.
ه- تأمين البنية التحتية الاقتصادية الأساسية بما في ذلك المرافق والنقل من التخريب والتدمير المتعمد من قبل العراق.
و- منع صراع أوسع داخل العراق وفي المنطقة .
ولا يمكن لهذا دحض الاستنتاج بأن هدف القوة لم يكن تدمير أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة بل غزو كامل للعراق وتدمير أي قوة متبقية لديه والإطاحة بالنظام لأن حجم الجيوش وأنواع الأسلحة التي كانوا يستخدمونها لا تدع مجالا للشك في هذه الأهداف. كان الوجود المزعوم لأسلحة الدمار الشامل مجرد ذريعة كما ثبت لاحقاً.
الغزو
أسقطت طائرتا شبح أمريكيتان قبل يوم واحد من انتهاء الموعد النهائي أربع قنابل خارقة للتحصينات وموجهة بالأقمار الصناعية تزن كل منها 2000 رطل على مخبأ في قصر سكني قليل الاستخدام في مزارع الدورة وهو حي في جنوب بغداد حيث ورد تقرير من المخابرات بوجود صدام حسين وابنيه فيه . وقد ثبت أن تلك المعلومات الاستخباراتية كانت خاطئة لأن صدام وأبناءه لم يكونوا بالقرب من هذا المجمع. لقد كان الاستكباريون ناجحين للغاية في تكييف تفكيرنا لدرجة أننا توصلنا إلى قبول أعمال الاغتيالات كأفعال مقبولة بشكل عام من قبل الدول. وتعد محاولات قتل قادة الدول مثل صدام حسين جرائم بموجب القانون الدولي بغض النظر عما إذا كانت الحرب مشروعة أم لا. يجب أن نتذكر: هذه هي مبادئ القانون والنظام التي تغلغلت في العلاقات الدولية لقرن من الزمان.
بدأ الغزو الفعلي في الساعات الأولى من يوم 20 آذار 2003 بعد أكثر من ساعة بقليل من انقضاء الموعد النهائي لصدام حسين بمغادرة العراق. بدأ شريط “الصدمة والرعب” بـ “50 ضربة في وابل من القذائف مدته 10 دقائق بقوة شبه توراتية أعقبت الانفجار الافتتاحي” .
“إن الصدمة والرعب” مصطلح عسكري يفسر مبدأ استخدام القوة الساحقة والعرض المفرط للقوة لتدمير إرادة العدو في القتال وبالتالي شلّه. صاغ هذا المبدأ كل من هارلان ك. أولمان وجيمس ب. ويد في عام 1996 وهو نتاج جامعة الدفاع الوطني في الولايات المتحدة ويجب أن يظل مرادفًا في ذهن الجمهور لمصطلح سابق من نذير مماثل: الحرب الخاطفة. لذلك خططت الولايات المتحدة وحلفاؤها منذ البداية لاستخدام أفظع أشكال الإرهاب ضد الشعب العراقي لإجباره على الخضوع لإرادتها وكان المتغير الذي صممت حملة “الصدمة والرعب” لتدميره هو إرادة القتال.
لكن “الصدمة والرعب” ليست أكثر من إرهاب دولة .
أعلن جورج بوش عن بدء الحرب في العراق في خطاب موجه إلى الأمة في 20 آذذار 2003 [الساعة العاشرة من مساء يوم 19 آذار بتوقيت شرق الولايات المتحدة] حدد فيه الهدف المزعوم للحرب على أنه “نزع سلاح العراق وتحرير شعبها والدفاع عن العالم من خطر جسيم” . وأوضح بوش أن “قوات التحالف” من 35 دولة كانت بناء على أوامره في المراحل الافتتاحية لما يمكن أن يكون حملة واسعة ومنسقة وضرب أهداف مختارة ذات أهمية عسكرية لتقويض قدرة صدام حسين على شن الحرب . لقد بذل بوش جهودًا كبيرة ليؤكد لمستمعيه أن القوات المهاجمة ستظهر “روحاً شريفة ولائقة” وأنها “ستبذل قصارى جهدها لتجنيب المدنيين الأبرياء الأذى” وأن قواته قد أتت إلى العراق “احتراماً لمواطنيه ولحضارتهم العظيمة وللمعتقدات الدينية التي يمارسونها” دون أي دوافع خفية بل فقط لإزالة التهديد وإعادة السيطرة على هذا البلد إلى شعبه”. ولم يستغرق العالم وقتاً طويلاً ليرى كيف كانت هذه الكلمات مزيفة. فمن المضحك الاستماع إلى الرئيس الأمريكي وهو يقول للعالم إن العراق في عام 2003 أي بعد 13 عاماً من عقوبات الإبادة الجماعية وسنوات من عمليات التفتيش على الأسلحة كان من الممكن أن يشكل تهديدًا للولايات المتحدة. ولم يكن بوش يفعل أكثر مما قال لميكي هيرسكوفيتز إنه يريد: أن يدخل التاريخ منتصرًا في حرب رئيسة! . كان يجب أن يكون واضحاً منذ اليوم الأول للغزو عندما فشل العراق في الانتقام أنه لم يفعل ذلك لأنه لم يكن لديه وسيلة للقيام بذلك وأن الحملة برمتها كانت قائمة على الباطل وكان يجب أن تتوقف بعد الغزو في اليوم الأول. ولو كان لدى العراق أسلحة دمار شامل لكان استخدمها ضد الغازي.
ومع ذلك تآمرت وسائل الإعلام “الغربية” على تجاهل هذا الفشل الغريب في الانتقام وبعدم تأكيدها على حقيقة أن أونسكوم دمرت كل أسلحة الدمار الشامل العراقية في أوائل التسعينيات. كما تجاهلت “الأضرار الجانبية” أي قتل الأبرياء والتدمير غير المتناسب للبنية التحتية المدنية الأساسية. واستمرت في ما أصبح شيطنة منذ زمن طويل لكل زعيم يعارض سياساتها – في أن صدام كان “ديكتاتوراً شريراً” و “تهديداً للمنطقة” لتسويغ كل المعاناة الإنسانية الناتجة عن قوات التحالف.
خاطب في اليوم نفسه رئيس الوزراء الأسترالي جون هوارد شعبه مكرراً نفس الأكاذيب حول التهديد المزدوج لأسلحة الدمار الشامل والإرهاب – وهي محاولة سخيفة لتسويغ الغزو على أساس الحق المزعوم في الدفاع عن النفس لبلده البعيد:
نعتقد من مشاركتنا حتى الآن في العراق أن التهديد الإرهابي سيتوقف من خلال وقف انتشار الأسلحة الكيميائية والحيوية وستقلل من احتمال تنفيذ هجوم إرهابي مدمر ضد أستراليا .
تم جمع تفاصيل الأعمال العسكرية من العديد من المصادر المطبوعة والمنشورة والمتابعات الشخصية والتقارير الإعلامية وقد وضعناها كملخص للأحداث ولن يكون من الممكن دائماً إحالة كل حادث إلى مصدر واحد .
أطلق “التحالف” أكثر من 1100 صاروخ كروز استهدف قرابة 1000 هدف في جميع أنحاء العراق بما في ذلك منشآت القيادة والسيطرة والهياكل والمباني. وكانت الأهداف الأخرى مدن شمال كركوك والموصل وتكريت. واستخدم “التحالف” طائراته الأكثر تطوراً في هذه الهجمات بما في ذلك قاذفات B-52 وقاذفات B-2 Stealth والقاذفات المقاتلة من طراز F-117 Stealth بينما تم استخدام طائرات F-15 لتدمير أنظمة الدفاع الجوي العراقية.
كما أصابت الطائرات “مواقع اتصالات قرب الشعيبة والمديسيس والرويشد والمدفعية بعيدة المدى بالقرب من الزبير والرادار المتنقل للإنذار المبكر ومركز قيادة الدفاع الجوي في غرب العراق ومدفعية بعيدة المدى في شبه جزيرة الفاو والنظام الصاروخي أرض-أرض ورادار لمراقبة الحركة الجوية بالقرب من البصرة . كما استهدفت الضربات الجوية في أوائل آذار 2003 شبكة اتصالات الألياف الضوئية الآمنة في العراق والتي كانت حيوية لاتصالاته مما أجبر السلطات على استخدام أنظمة اتصالات لاسلكية عالية التردد يسهل تتبعها . دمرت غارات التحالف سراً الدفاعات الجوية العراقية وأنظمة الإنذار المبكر في العراق في منطقتي حظر الطيران في الشمال والجنوب منذ عام 1991 تحت ستار كاذب وهو منع صدام حسين من مهاجمة شعبه. فقد كان الهدف بوضوح إضعاف العراق إلى الحد الذي لا يضطر فيه الهجوم إلى تحمل أي رد من دفاعات العراق.
كما تم إطلاق صواريخ توماهوك من 30 سفينة أمريكية والسفن الحربية التابعة للبحرية والتحالف وكذلك صواريخ ستورم شادو الجديدة التابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني والتي تم استخدامها بنجاح لأول مرة في العمليات. وتشير التقديرات إلى أنه تم إسقاط 2500 صاروخ وقنبلة في أول 72 ساعة. وبناءً على المعلومات المتاحة من البنتاغون والأمم المتحدة قدر الخبراء أن القوات العسكرية بقيادة الولايات المتحدة استخدمت ما بين 1100 و2200 طن من اليورانيوم المنضب أثناء غزو العراق يبدو أن معظمها كان في المناطق الحضرية أو بالقرب منها حيث يعيش العراقيون ويعملون ويسحبون المياه ويزرعون ويبيعون الطعام.
وسرعان ما أدركت القوات الأمريكية مدى زيف الصورة التي أعطيت لها عن مستوى الدعم العراقي لهجومها. شرح الفريق أول ويليام والاس قائد الفيلق الخامس الوضع فيما بعد على النحو التالي:
… كان علينا التكيف مع (قواته) شبه العسكرية التي كانت أكثر تعصباً وأكثر عدوانية مما توقعنا. كان التعديل الذي أجريناه هو القتال فعلياً وأن نكون في بعض هذه المناطق الحضرية التي لم نخطط للقيام بها حقاً بل خططنا لتجاوزها. لكننا وجدنا أنه من الضروري إقامة وجود لمنع هذه الجماعات شبه العسكرية من التأثير على عملياتنا.
كان العراقيون قد ابتكروا خططاً تقوم على استدراج المهاجمين إلى عمق المدن ثم نصب الشراك والكمائن لهم حيث يمكنهم بعد ذلك استخدام قذائف آر بي جي والبنادق وقذائف الهاون والأسلحة الصغيرة لتدمير وحدات العدو. ويمكن لهذا أن تظل الوحدات المدافعة صغيرة ومستقلة تقريباً عن بعضها البعض وتعمل في مناطق مأهولة حيث تقل الحاجة إلى الاتصالات بشكل كبير لأنه سيتم إبلاغها مسبقاً بالدفاع من منطقة معينة .
اعتمدت الولايات المتحدة إما على معلومات مزورة قدمها أعضاء من المعارضة العراقية ومعظمهم لم تكن لديهم معرفة حقيقية بالشعب العراقي ولا يحترمون الوطنية العراقية والتماسك القومي أو انها اعتمدت مرة أخرى على “خبراء” لم يكن لديهم فهم للعقلية العربية. لم تفهم الولايات المتحدة أن العراقيين ألقوا باللوم على (الكابيتول هيل) في معاناتهم من العقوبات التي فرضتها وحافظت عليها، وعلى دعم الولايات المتحدة غير المشروط لإسرائيل ولحقيقة أن الولايات المتحدة كانت قادمة للاستيلاء على نفطهم ولعلمهم أن أمريكا لا تهتم كثيراً بحياة البشر كما أظهرت خلال العقد الماضي من المجاعة والمعاناة في ظل الحظر الشامل.
عبر عدد من أعضاء العمليات الخاصة للتحالف الحدود الأردنية إلى العراق قبل وقت من بدء الهجمات الرسمية وعُهد إليهم بمهاجمة الوحدات العراقية المعزولة ومحطات المراقبة في مناطق الحدود الغربية
تبرز بعض المعارك على أنها شرسة للغاية ومفاجأة للقوات المهاجمة وجرت هذه في البصرة والناصرية والنجف وبغداد.
تم تنفيذ أول هجوم جوي وبرمائي في جنوب العراق من خلال عملية مشتركة لقوات كوماندوز من الجيش البريطاني ومشاة البحرية الملكية بدعم من السفن الحربية التابعة للبحرية الملكية والبحرية البولندية والبحرية الملكية الأسترالية وذلك للاستيلاء على شبه جزيرة الفاو .
شهد اليوم الثاني تصعيداً في الهجمات وخاصة الحملة الجوية حيث نفذت طائرات التحالف قرابة 3000 طلعة جوية. واستهدفت هذه الهجمات وصواريخ كروز منشآت القيادة والسيطرة العسكرية والمنشآت والمباني في أنحاء مختلفة من العراق. وكانت مدينة أم قصر العراقية هي العقبة الأولى في وجه القوات المهاجمة. دخلت فرقة مسلحة بريطانية العراق من الكويت متجهة نحو البصرة وهاجمت الوحدات البريطانية والأمريكية والبولندية ميناء أم قصر لكنها فوجئت بالمقاومة الشديدة التي واجهتها. وبعد أيام من المعارك الشرسة التي تكبدت فيها القوات المهاجمة خسائر فادحة قاموا بتأمين الميناء وآبار النفط القريبة. وحدث ذلك في نفس الوقت الذي أطلقت فيه السفن الحربية الأمريكية وغواصات البحرية البريطانية صواريخ على أهداف في جميع أنحاء العراق.
نجحت قوة مشتركة من القوات البحرية الأمريكية والبريطانية في نفس اليوم في تأمين حقول النفط في الرميلة والتي تشمل محطات فصل زيت الغاز ومنشآت تصدير النفط الخام وآبار النفط. ووصف الفريق الأول جيمس كونواي القائد العام لقوة المشاة البحرية الأولى هذه المنشأة النفطية المهمة قائلاً: “تم تأمين أكثر من نصف إنتاج النفط العراقي أي قرابة 1.6 مليون برميل يومياً من إنتاج 1074 بئر نفط في الرميلة لصالح الشعب العراقي” . ونحن نعلم أنهم في الحقيقة لم يكونوا “مؤمنين بصالح للشعب العراقي” بل بالعكس تماماً: لصالح الغزاة. وكان الشعب العراقي قد استفاد بالفعل من عوائد هذا النفط حتى جاءت العقوبات التي فُرضت في التسعينيات. كما تم الاستيلاء على مرفق تصدير ميناء البكر وكذلك محطة الضخ في الزبير ومحطة القياس في شبه جزيرة الفاو ومنشآت تصدير النفط الخام البحرية. ولا يمكن للمرء إلا أن يلاحظ أن أولى المنشآت التي تم تأمينها في جنوب العراق كانت المنشآت النفطية الأمر الذي يزيد من تعزيز الآراء القائلة بأن تأمين نفط العراق كان هدفاً رئيساً للقوات المهاجمة.
استمرت حملة القصف الجوي في الأيام التالية بمزيد من آلاف طلعات القصف وصواريخ كروز التي استهدفت مئات الأهداف المختلفة في جميع أنحاء العراق مع التركيز على عُقَدِ الاتصالات. وكان هناك بحلول 24 آذار أكثر من 170 ألف جندي أمريكي ومشاة البحرية الأمريكية وقوات برية متحالفة في العراق.
قاتلت فرقة بحرية أمريكية تتقدم من الجنوب عبر حقول نفط الرميلة بينما كانت تتحرك شمالًا نحو مدينة الناصرية وهي مدينة تقع على تقاطع طريق مهم مع جسور ذات أهمية سوقية على نهر الفرات وتضم أيضاً قاعدة علي بن أبي طالب الجوية الرئيسة. وقد قوبلت القوات الغازية بمقاومة شرسة من القوات العراقية – وكانوا مزيجاً من وحدات الجيش النظامي ومن موالين للبعث والفدائيين – وفقد الغزاة 26 جندياً في يوم واح مما أجبرهم على التوقف. كما تعرضت طائرات التحالف لنيران كثيفة مضادة للطائرات.
تجاوزت وحدات الجيش الأمريكي مدينة الناصرية إلى الغرب واتجهت شمالًا لتجنب الانجرار إلى مواجهة مع الوحدات العراقية. لكن هذا لم يمنع وحدات الجيش الأمريكي من التعرض لكمين عندما دخلوا المدينة عن طريق الخطأ في 23 آذار مما أسفر عن مقتل 12 جندياً وأسر ستة منهم بما في ذلك الجندية جيسيكا لينش التي اشتهرت فيما بعد باشمئزازها من خلال حملة دعائية بدعوى بطولتها وسوء معاملتها . وتكبد مشاة البحرية الأمريكية في نفس اليوم خسائر فادحة عندما حاولوا دخول المدينة بالقوة في مواجهة مقاومة حازمة من الفدائيين. ولا بد أن ذلك كان مفاجأة للأمريكيين الذين اعتقدوا أن العراقيين سيستقبلونهم “بالورود” كمحررين.
نجح الأمريكيون أخيراً في 24 آذار في اجتياز الناصرية وإنشاء سياج حاجز بطول 15 كيلومتراً شمال المدينة. قام العراقيون بعدة هجمات مضادة مع تعزيزات من الكوت لكن الأمريكيين صدوهم بمساعدة القوة الجوية المتفوقة. وتم الاستيلاء على المدينة أخيراً وتأمين جسرين رئيسين مهمين لتحركات القوات. تم إعلان الناصرية آمنة على الرغم من استمرار الهجمات غير المنسقة من قبل الفدائيين العراقيين. وأنشأ الأمريكيون مركزهم التدبيري المهم وقاعدة العمليات الأمامية الأولى في جنوب العراق خارج الناصرية.
تجنبت القوات البرية التي تقدمت باتجاه بغداد في نهاية آذار المدن العراقية الكبرى ونجحت التشكيلات العسكرية في كسب الأرض لكنها واجهت بعد ذلك مقاومة شرسة بالقرب من السماوة والفيصلية من القوات العراقية مستخدمة أية أسلحة صغيرة وأقل شأناً كانت متاحة لها بشكل بطولي وحاولت إعاقة تقدم الولايات المتحدة. اعتمدت الولايات المتحدة على الدعم الجوي لتدمير المقاومة العراقية التي استمرت بالقرب من الناصرية والنجف مما تسبب في سقوط عدد لا يحصى من القتلى والجرحى من المدنيين. وقتلت القوات الأمريكية حتى عند المطاردة بالطائرات العمودية أشخاصاً أبرياء من مسافة قريبة كما يتضح من مقطع فيديو لحادث نشره برادلي مانينغ . واستمر الأمريكيون والبريطانيون في الوقت نفسه في مواجهة هجمات الوحدات شبه العسكرية العراقية في منطقتي الفاو والبصرة. ويبدو أن جميع مزاعم التحالف بتأمين أم قصر والبصرة في الأيام الأولى للهجمات كانت دعاية كاذبة لأن المقاومة استمرت حتى أوائل نيسان ولم يتم تأمين أبو الخصيب إلا في 31 آذار بعد هجوم عنيف وفقاً لادعاءات التحالف.