مشروع مستقبل العراق
تبخرت بسرعة كل المحاولات لتسويغ تعليمات رامسفيلد لإيجاد صلة بين هجوم 11 أيلول وصدام حسين على أنها ليست السياسة الأمريكية الرسمية عندما بدأ مشروع مستقبل العراق (FIP ) . كان الغرض من المشروع كما يتضح من الوثيقة التي رفعت عنها السرية هو إعداد وبناء العراق بعد صدام حسين. وبالنظر إلى أن العراق في عام 2001 كان في وضع أفضل مما كان عليه في منتصف التسعينيات وأن الحكومة العراقية كانت قد بدأت في التغلب على عبء العقوبات من خلال اتفاقيات ثنائية مع دول مختلفة ونتج بعض التخفيف من سيطرة مجلس الأمن إلا أنه لا يمكن الجدل بأن الولايات المتحدة توقعت الانهيار الحتمي لنظام البعث. يجب أن يكون التفسير المنطقي الوحيد لإنشاء FIP هو أن قرار غزو العراق اتخذ أخيراً في عام 2001 اعتماداً على مزاج الجمهور الأمريكي والتعاطف العالمي بعد 11 أيلول. هكذا وصفت الوثائق غير السرية في أرشيف الأمن القومي مشروع مستقبل العراق:
بعد أقل من شهر على هجمات الحادي عشر من أيلول بدأت وزارة الخارجية في تشرين الأول 2001 بالتخطيط للمرحلة الانتقالية التي ستعقب حكم صدام حسين في العراق. ونظمت وزارة الخارجية باشراف الموظف السابق السابق توماس س. واريك أكثر تجمعاً من من 200 مهندس ومحام ورجل أعمال وطبيب وخبير عراقي في 17 مجموعة عمل لوضع خطط السوق لمواضيع تشمل ما يلي: الصحة العامة والاحتياجات الإنسانية والشفافية ومكافحة الفساد والنفط والطاقة وسياسة ومؤسسات الدفاع والعدالة الانتقالية والمبادئ والإجراءات الديمقراطية والحكومة المحلية وبناء قدرات المجتمع المدني والتعليم والإعلام الحر والمياه والزراعة والبيئة والاقتصاد والبنية التحتية …
كانت نتيجة المشروع عبارة عن تقرير مكون من 1200 صفحة من 13 مجلداً يحتوي على العديد من الحقائق والخطط الشاملة والتنبؤات والتحذيرات حول مجموعة متنوعة من القضايا المعقدة والتي يحتمل أن تكون قابلة للانفجار والتي تطور بعضها منذ ذلك الحين كما توقع واضعو التقرير وساهمت في انتهاء تجربة بناء الدولة التي تقودها الولايات المتحدة إلى كارثة …
جمع الاستكباريون قرابة مائتي عراقي بعضهم كان معروفاً وبعضهم لم يسمع به أحد من قبل ومعظمهم من سكان الولايات المتحدة أو يحملون الجنسية الأمريكية وقسموهم إلى مجموعات مختلفة لدراسة حال العراق أثناء حكم البعث وإعداد خطط نظام ما بعد البعث. وبالنظر إلى الأسماء التي تم الكشف عنها للعراقيين المعنيين فإننا نشك كثيراً فيما إذا شارك العديد منهم في الإعداد الفعلي للمشروع أو نتائجه. نحن نعرف عدداً منهم شخصياً ونعرف عن البعض الآخر ونستنتج أنه إذا كان الباقون من نفس المستوى فلن تكون هناك سوى فرصة ضئيلة جداً لأية مساهمة بناءة جادة من أولئك الذين تم اختيارهم. نعتقد أنه تم اختيار العراقيين لإضفاء نوع من الشرعية على الخطة وإقناع المثقفين الأمريكيين الساذجين بأنها كانت محاولة عراقية حقيقية لتغيير النظام. وغني عن القول انه حتى لو كان هؤلاء المائتا عراقي يبحثون بصدق عن تغيير النظام فما هو حقهم في أن يصمموا عراق المستقبل على أساس مُثلهم دون موافقة مسبقة من الجمهور العراقي لمثل هذا التغيير؟
نشك كثيراً إذا كان العديد من الأشخاص قد قرأوا بالفعل التقرير الكامل المكون من 1200 صفحة. إن دقة بعض المواد تستدعي التشكيك في الادعاء بأنها تحتوي على الكثير من الحقائق. ولكن عندما عدت الولايات المتحدة المعلومات المستقاة من عراقي واحد في مقهى في عمان، دون أي إثبات، على أنها حقائق فإنه يصبح ثانوياً ما إذا كانت بعض المواد في مثل هذا التقرير دقيقة أم لا .
دعونا نأخذ بعض الأمثلة من ذلك التقرير التي تظهر عدم الدقة أو التزوير للحقائق. فقد جاء في الصفحة 1 من تقرير مجموعة عمل التعليم ما يلي:
يجب الاعتراف بأنه قبل مجيء النظام البعثي لصدام حسين كان لدى العراق ما يُنظر إليه عموماً على أنه نظام تعليمي عالي الجودة على جميع المستويات….
الآن كل هذا تم تقويضه من قبل النهج البعثي للتعليم. لذلك هناك تحد مزدوج لنظام تعليم متجدد في العراق .
وبعد فقرتين من هذا فقط يقول التقرير:
…ما تزال المعاهد الفنية والجامعات العراقية في الغالب مقبولة دولياً لجودة وصرامة معايير التدريب الجامعية والفنية.
يمكن لأي شخص أن يرى التناقض بين هذين البيانين مما يدل على أن القضية ليست حقائق الأمر بل محاولة إنكار أية منجزات لحزب البعث وفي هذه الحالة في مجال التعليم .
أما فيما يتعلق بقضية الزراعة فإن التقرير يذكر:
يمتلك العراق إمكانات كبيرة لزيادة إنتاج الحبوب. ويرجع انخفاض الإنتاجية الحالية إلى عدة عوامل: نقص البذور المحسنة والأسمدة والمبيدات والجفاف ومرافق الإرواء الناقصة والمعدات غير الكافية والقديمة وتقنيات عفا عليها الزمن وعدم كفاية الموظفين .
ولم يذكر التقرير الدور الذي لعبته الولايات المتحدة في فرض نظام العقوبات والأثر الضار له وتوجيه أنشطة لجنة العقوبات التي منعت العراق من شراء مبيدات وأسمدة أو تحديث معداتها أو حتى استلام الكتب أو المجلات ذات الصلة بهذا المجال. وتظهر في جميع أنحاء التقرير أمثلة كثيرة على عدم دقة مماثلة و/ أو تحريفات متعمدة.
سمح لنا تحليل هذه الوثائق بالتوصل إلى ثلاثة استنتاجات. أولها هو أنه يبدو أن قرار غزو العراق في الوثائق التي تم الكشف عنها حتى الآن قد تم اتخاذه مباشرة بعد هجمات 11 أيلول باستخدام الهجمات كذريعة لتسويغ عمل الولايات المتحدة. وثانيها البحث في الفترة الانتقالية ما بعد صدام التي تشير الوثائق إليها والتي يمكن أن تعني فقط معرفة مسبقة بحدوث وشيك. وهي تشير إلى عملية تخطيط داخل دولة ذات سيادة بهدف إسقاط حكومة دولة أخرى في انتهاك واضح لمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة على النحو الذي تضمنه المادة 2.4 من ميثاق الأمم المتحدة وكما هو منصوص عليه في سياق تعريف العدوان في قرار الجمعية العامة رقم 3314 (XXIX) في عام 1974. وثالثها يشير بقوة إلى أن حكومة الولايات المتحدة خططت لتكون مهندس التغيير في المرحلة الانتقالية بعد صدام. وبعد النظر بإيجاز في بعض المغالطات والتحريفات حول العراق التي تظهر في الوثائق المنشورة توصلنا إلى استنتاج مفاده أن “مشروع مستقبل العراق” دليل على أن الولايات المتحدة كانت تخطط لإعادة تشكيل العراق بالكامل بعد احتلاله على الرغم من حقيقة أن ذلك لا علاقة له بأسباب الحرب أو أسلحة الدمار الشامل أو الوجود المزعوم للقاعدة.
القصف الجوي المنتظم
أقامت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا بين عامي 1991 و 2003 ما أطلقوا عليه من جانب واحد وبشكل غير شرعي “مناطق حظر الطيران” في شمال العراق وجنوبه خلافاً للعديد من المبادئ المنصوص عليها في القانون الدولي. ولم يُسمح للعراق وفقًا للاستكباريين بتحليق أية طائرة عسكرية أو مدنية فوق 80٪ من مجاله الجوي مما يعني في الواقع أنه لم يُسمح بأي رحلات جوية داخلية في العراق لأكثر من اثني عشر عاماً. وتم تصميم فرض هذه المناطق لتمكينها من تحرير المجال الجوي العراقي حتى تتمكن من مراقبة وتدمير أي هدف يختارونه كجزء من عملية التدهور المستمر.
نفذ الاستكباريون خلال اثني عشر عاماً من الحصار العديد من عمليات القصف الجوي على أهداف عسكرية ومدنية في العراق دون أي استفزاز. وشملت الأهداف مدافع مضادة للطائرات وطرق ومخازن طعام ومخزون محاصيل القمح وحضائر الأغنام . ولو كانت تقارير هذه الهجمات قد صدرت من العراق فقد يمتلك البعض أسباباً للشك في دقتها. لكن بما أن مثل هذه التقارير صدرت عن مصادر لا يمكن تصنيفها على أنها صديقة لصدام حسين فليس هناك من سبب يدعو للشك فيها. فقد قال ممثل الاتحاد الروسي في خطابه أمام مجلس الأمن:
لا يسعنا اليوم إلا أن نتعامل مع مشكلة أخرى تمت الإشارة إليها. يزداد الوضع الاجتماعي والاقتصادي والإنساني في العراق سوءًا لأن المنشآت المدنية في العراق أصبحت باستمرار أهدافاً للضربات الجوية من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى. وهذا يحدث فيما يسمى بمناطق حظر الطيران المنشأة من جانب واحد دون أن تتخذ الأمم المتحدة أي قرار والتي تشمل ما يقرب من 65 في المائة من أراضي العراق.
تظهر بياناتنا أن طائرات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة غزت المجال الجوي العراقي ما يقرب من 20000 مرة بين كانون الأول 1998 ومنتصف آذار 2000. نحن قلقون بشكل خاص بشأن التقارير عن الضربات ضد المنشآت التي يتم استخدامها في العمليات الإنسانية للأمم المتحدة ولا سيما ضد مستودعات توزيع الغذاء وضد محطات القياس على طول خطوط أنابيب النفط.
أسفرت 42 في المائة من هذه الضربات الجوية وفقاً لهذه التحليلات عن خسائر بشرية. وخلال العام الماضي لقي 144 مدنياً بريئاً حتفهم وأصيب 466 شخصاً بجروح نتيجة هذه الضربات الجوية. وتظهر معلوماتنا مقتل 57 شخصاً وجرح 133 في جنوب العراق و87 قتيلاً و313 جريحاً في الشمال. إن الادعاءات القائلة بأن هذه الضربات لم تكن موجهة ضد أهداف مدنية لا تصدق لأن الحقائق – بما في ذلك الحقائق من الخبراء الدوليين – تشهد على عكس ذلك. كما أن الفكرة القائلة بأن هذه الضربات الجوية كانت انتقاماً لأعمال الدفاعات العراقية المضادة للطائرات لا صحة لها: تُظهر بياناتنا أن منشآت لا علاقة لها بأنظمة الدفاع المضادة للطائرات تتعرض للقصف .
من الواضح أن الغارات الجوية المنتظمة على العراق خلال فترة العقوبات كانت تهدف إلى إضعاف العراق إلى المرحلة التي يصبح فيها غزوه مهمة سهلة وبتكلفة أقل للاستكباريين بغض النظر عن مقدار المعاناة والدمار والقتل الذي تسبب فيه ذلك للمدنيين .
اضبارة الأكاذيب والافتراءات
على الرغم من أنه تم الكشف عن أن قرار غزو العراق قد تم الاتفاق عليه بين جورج بوش وتوني بلير في بداية عام 2002 إلا أنه ما يزال هناك جهد منسق في بعض الدوائر لتقديم غزو العراق على أنه تم لإزالة أسلحة الدمار الشامل . فقد غطى مفتشو الأمم المتحدة كل شبر من العراق لأكثر من اثني عشر عاماً بحثاً عن أسلحة الدمار الشامل المزعومة ووسائل إيصالها لكنهم لم يجدوا شيئاً. ولعل أفضل وصف لعملية التفتيش هو ما قاله اللواء مايكل لوري في شهادته السرية للجنة تحقيق تشيلكوت . فقد قال في تقرير مكتوب إلى لجنة التحقيق: “ربما لم يكن هناك فحص تفصيلي أكبر من أي وقت مضى لكل قطعة أرض في أي بلد” .
ومع ذلك كان رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بحاجة إلى إقناع عدد من المتشككين في حزبه وعامة الناس بأن هناك خطراً حقيقياً من هجوم وشيك من العراق على بريطانيا.
وهكذا نشر رئيس الوزراء توني بلير في 24 أيلول
2002 اضبارته عن أسلحة الدمار الشامل العراقية وهو الملف الذي أصبح يعرف منذ ذلك الحين باسم “اضبارة المراوغة” لداونينج ستريت . وادعت الإضبارة أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل بما في ذلك أسلحة حيوية وكيميائية. وزعمت أيضاً أن الأدلة استندت إلى عمل لجنة المخابرات المشتركة لكن أصولها أبقيت سرية.
كتب بلير في مقدمته للإضبارة أنه يبين كيف:
…. استمر صدام في إنتاج أسلحة كيماوية وحيوية وواصل جهوده لتطوير أسلحة نووية وتمكن من توسيع مدى برنامجه للصواريخ الفضائية .
ومضى بلير ليقول:
… تكشف الوثيقة أن تخطيطه العسكري يسمح بأن تكون بعض أسلحة الدمار الشامل جاهزة في غضون 45 دقيقة من الأمر باستخدامها .
إن الممارسة المعتادة في أي دولة هي أن تعتمد الحكومة على أجهزتها الاستخباراتية عندما يتعلق الأمر بالمعلومات والمشورة قبل أن تصوغ سياستها الخارجية أو خططها العسكرية. لكن بلير قام بالأمر بشكل عكسي. فقد أخبر أجهزة المخابرات بما يريد أن تتضمنه إضبارة المخابرات وأعاد إرسالها أكثر من مرة إليهم حتى لبت مسودتها النهائية رغباته. وانتهى الأمر بوثيقة مرتبة ومنمقة . كتب لوري الذي كان المدير العام لهيئة أركان استخبارات الدفاع والمسؤول عن قيادة وتقديم المعلومات الاستخبارية الأولية والتحليلية إلى لجنة تشيلكوت للتحقيق:
كنا نعلم في ذلك الوقت أن الغرض من الإضبارة هو على وجه التحديد تقديم قضية للحرب بدلاً من تحديد المعلومات الاستخباراتية المتاحة وأنه لتحقيق أقصى استفادة من المعلومات الاستخبارية المبعثرة وغير الحاسمة تم تطوير الصياغة بعناية …
… أكتب إليكم للتعليق على الموقف الذي اتخذه أليستر كامبل أثناء تقديم شهادته لكم … عندما ذكر أن الغرض من الإضبارة لم يكن دعم قضية الحرب؛ لقد رأيناها أنا والمشتركين في إخراجها على هذا النحو تماماً وكان هذا هو الاتجاه الذي أعطي لنا .
زعمت إضبارة الاستخبارات الأخيرة أنها استند إلى معلومات استخبارية قوية في حين أن “الكثير من المعلومات الاستخباراتية الرئيسة التي استخدمها داونينج ستريت والبيت الأبيض كانت مبنية على الافتراء والتفكير بالتمني والأكاذيب” .
كانت جميع أجهزة المخابرات الغربية بحلول أيلول 2002 مقتنعة بأن العراق لا يمكن أن تكون لديه أية أسلحة دمار شامل. وكان محمد البرادعي رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية يعلم أن العراق لا يمكن أن يكون لديه أي برنامج نووي. كما كان هانز بليكس رئيس لجنة الأمم المتحدة للرصد والتحقق والتفتيش (أنموفيك) برغم كل مراوغاته على علم من أن العراق لا يمكن أن تكون لديه أي أسلحة كيميائية أو حيوية خاصة أن أنموفيك كشفت العديد من مواقع تدمير مخزونات العراق من أسلحة الدمار الشامل لمفتشي الأمم المتحدة .
إنه لمن المضلل لأي شخص أن يكتب أنه كان هناك “فشل استخباراتي” . لم يكن هناك مثل هذا الفشل وكانت كل من القيادة السياسية وأجهزة المخابرات على علم بذلك. وكان هناك جهد لجعل أجهزة المخابرات تعيد إنتاج تقارير فقدت مصداقيتها مستقاة من تقارير عدد قليل من العراقيين غير الراضين جنباً إلى جنب مع المقالات المنشورة على شبكة المعلومات بهدف إنتاج مجموعة من الأكاذيب التي أدت إلى غزو العراق وتدميره. واتضح بعد فترة وجيزة من نشرها أن “أجزاء كاملة تم رفعها كلمة كلمة – بزلاتها النحوية وكل ما تحويه – من أطروحة الطالب إبراهيم المرعشي وهو طالب دراسات عليا أمريكي من أصل عراقي عمل في معهد مونتيري للدراسات الدولية في كاليفورنيا. قال جلين رانجوالا المتخصص في شؤون العراق بجامعة كامبريدج والذي حلل ملف داونينج ستريت لرويترز إن 11 من صفحاته التسعة عشر “مأخوذة بالجملة من منشورات جامعية ” .
وهكذا عندما تحدثت اضبارة بلير عن امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل مع القدرة على إيصالها في غضون 45 دقيقة والتي أصبحت في اليوم التالي عناوين الأخبار في صحيفة (الصن) و (ستار) تدعو الجمهور البريطاني للاعتقاد بوجود تهديد خطير كان الأمر مجرد أكذوبة. وبشكل لا يصدق لم يعرض عضو واحد في مجلس النواب البريطاني السؤال المنطقي حول كيف كان بإمكان العراق حتى لو كانت لديه بعض أسلحة الدمار الشامل مخبأة تحت الأرض إطلاق أي من أسلحة الدمار الشامل هذه لتصل إلى قبرص أو في أي مكان خارج حدوده إذا علمنا أن كل صاروخ يتجاوز مداه 150 كيلومتراً كان قد تم احتسابه وتدميره من قبل مفتشي الأمم المتحدة؟
لم يكن الاستعداد في الولايات المتحدة أقل مسرحية على الرغم من أن الرئيس لم يتعرض لنفس الضغوط التي واجهها توني بلير.
بعد عام واحد ويوم من هجمات الحادي عشر من أيلول ألقى الرئيس بوش خطاباً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مطالباً دول العالم بمواجهة “الخطر الجسيم والمتزايد” من العراق وأشار إلى أن الولايات المتحدة ستتصرف:
سيتم تنفيذ قرارات مجلس الأمن – سيتم تلبية المطالب العادلة للسلام والأمن – أو سيكون العمل لا مفر منه .
كان حول بوش قليل من المتشككين وكان الجمهور في الولايات المتحدة في ذلك الوقت على استعداد لخوض الحرب في أي مكان. ولكن كان على الولايات المتحدة أن تظهر لبقية العالم أنها تتصرف كلاعب دولي مسؤول. وتحقيقا لهذه الغاية قدم وزير الخارجية آنذاك كولن باول في 5 شباط 2003 عرضا فكاهياً إلى حد ما أمام مجلس الأمن. فقد قدم الى مجلس الأمن إلى جانب اسناد تأكيداته حول امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل “على العديد من المصادر البشرية”، عرضاً عن ما زعم أنها منشآت إنتاج متنقلة للعوامل الحيوية في العراق. ولا بد أن يجد أي خريج جامعي في علم الأحياء مثل هذا الادعاء غير معقول. وفي ظل عدم وجود أي عالم أمريكي ذي مصداقية يتحدى إمكانية وجود مثل هذه المنشآت في العراق فلن يهم حقاً ما إذا كان باول أو مساعده الكولونيل لورانس ويلكرسون الذي أعد خطاب الأمم المتحدة لديه أية مهارات علمية لتقييم معقولية ما تم تقديمه. وهكذا تم اختراع القصة بالكامل .
وعلى الرغم من حقيقة أنه قام في 27 أيار 2003 خبراء من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بفحص المقطورات وأعلنوا أنه لا علاقة لهم بالأسلحة البيولوجية ” إلا أن مدير وكالة المخابرات المركزية آنذاك جورج ج. تينيت استمر حتى أواخر شباط 2004 في التأكيد على أن نظرية المختبرات المنقولة ظلت معقولة. وعلى الرغم من “عدم وجود إجماع” بين مسؤولي المخابرات إلا أن المقطورات “يمكن تشغيلها” كمختبرات أسلحة كما قال في خطاب ألقاه في 5 شباط.”
وبعد عقد من الزمان وبعد مقتل أكثر من مليون عراقي وتشريد أكثر من أربعة ملايين وفساد غير مسبوق في بلد مقسم يفتقر الآن إلى كل وسائل الراحة الأساسية قال الكولونيل لورانس ويلكرسون حول الزعم حول المقطورات:
لا أعتقد أن الضجة حول هذا العرض التقديمي على أساس أنه كان العرض النهائي … هو الذي قادنا إلى الحرب مع العراق … كان جورج دبليو بوش وديك تشيني وآخرون قد قرروا خوض الحرب مع العراق قبل وقت طويل من تقديم كولن باول هذا العرض. تمت إضافته إلى زخم الحرب….. بصراحة، كلنا كنا مخطئين. هل تم تسييس المعلومات الاستخبارية إلى جانب كونها خاطئة من جذورها؟ قطعاً تم ذلك.
… لم تكن اللحظة الحاسمة هي التي دفعتنا إلى الحرب؛ كانت مجرد واحدة من تلك اللحظات. وكواحدة من تلك اللحظات كما قلت من قبل وكما نُقل عني أشعر أنها كانت أدنى نقطة في حياتي المهنية والشخصية التي كان لي يد في إدارتها .