مقدمة
لم ينل حدث منذ الحرب العالمية الثانية ما ناله العدوان الأخير على غزة من اهتمام عالمي تجلى في التغطية المستمرة لوسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. ولا بد أن يتوقف المراقب ليسال: ترى لماذا هذا الاهتمام برغم أن الحرب الروسية الأوكرانية تشكل خطراً أكبر على السلم والأمن العالمي من حيث مقدرتها على التحول الى حرب بين روسيا وحلف شمال الأطلسي؟وجواب هذا يأتي في كلمة واحدة: الصهيونية! ذلك لأن الحرب الروسية الأوكرانية هي حرب أجنحة داخل العالم الأوربي الصهيوني الكبير كما كانت الحرب العالمية الثانية، تقوم على وفق قواعد معروفة وتنتهي كما انتهت سوابقها من صراعات أوربا بإعادة رسم حدود الدولة الوطنية وتفاهم جديد يحفظ الهوية الصهيونية لأوربا. أما ما حدث في غزة فأمر مختلف تماما ذلك لأنها المرةُ الأولى التي قامت فيها مجموعة مسلحة ومنظمة من عالم الجنوب (سمه العالم الثالث أو العالم النامي أو ما شابه من المسميات) بمهاجمة الصهيونية في عقر دارها مما لم يحدث من قبل. فمنذ خمسة قرون كانت أوربا هي التي تهاجم خارج حدودها ولم يعتد أحد على أوربا من خارجها! فانتفضت الصهيونية بكل قواها، ليس لأن عددا من الإسرائيليين قد قتلوا وإنما لأن ما حدث ليس له سابقة. فكل التأريخ منذ خمسة قرون يتمثل في قيام الصهيونية بالتنقل والغزو والاحتلال والغصب والقتل والتدمير في العالم تحت عدد من الذرائع الواهية. ولم يحدث العكس، أي قيام مجموعة من عالم الجنوب بالهجوم على أرض أوربية، ومغتصبة فلسطين أرض أوربية، إلا مرتين: في 6 تشرين الأول عام 1973 وفي 7 تشرين الأول 2023 وبينهما خمسون عاما ويومً. إن ما حدث في تشرين الأول 2023 له أثر في تأريخ أوربا أجبرها أن تتوقف لتتأمل ما كانت تعده حقا مطلقاً في التصرف في أمور العالم كما تشاء!
لن أتحدث هنا عن حرب 1973 برغم أهميتها، لأن ذلك سوف يخرجني عما أريد قوله، ولأنه حرب دول وهو لا يختلف كثيرا في نتيجته عن الحديث عن حرب 2023. إنما سوف أتحدث عن الصهيونية.
إن البداية لفهم ما يواجهه العرب في العدوان الأوربي عليهم منذ مائتي عام هو في فهم أوربا: ما هي، كيف نشأت وتطورت صراعاتها الداخلية، كي يمكن فهم لماذا تعادينا وتعتدي علينا برغم كل ما فعله العرب ويفعلونه لإرضائها. لا تختلف أوربا عن بقية أهل الأرض في أنها خليط غير متحالف من قبائل شتى، وتأريخها في ذلك كما هو الحال في أماكن أخرى من العالم مجهول في قدمه أي قبل نشوء مرحلة التدوين. ويتفق الأوربيون قبل غيرهم على أن أوربا اليوم تتألف بشكل رئيس من مجموعتي قبائل متحاربة وهي القبائل الجرمانية في غرب أوربا والقبائل السلافية في شرقها، هذا إلى جانب عدد من القبائل المتعددة الأصغر والتي يصعب التحقق من أصولها ونشوئها.
خرجت أوربا من العصر الجليدي الأخير كما تدل الشواهد العلمية وهي لا تمتلك تراثاً أو امتداداً تأريخيا تستند إليه مما أدى الى أن القبائل التي استوطنتها غدت تعيش حياة بدائية في الغابات والكهوف معتمدة على الصيد دون المقدرة على الاستقرار وبناء مجتمعات ثابتة. وحين كانت أوربا في هذا الحال كان الى جنوبها واقع مختلف في حوض البحر الأبيض المتوسط وبلاد الشام ووادي الرافدين يعيش حالة مختلفة حيث لم يمر بعصر جليدي سلبه تراثه. وحيث إن سكانه بحكم السبق والتطور التاريخي قد استقروا واستصلحوا الأرض وزرعوها وأقاموا المدن وأتقنوا صناعة الأدوات ومارسوا المقايضة والتجارة.
وتمددت مدنية حوض المتوسط بحكم الطبيعة كلما أمكن ذلك ووصلت الى أطراف ما يعرف اليوم بأوربا وإن لم تكن تعرف كذلك يومها حيث كانت المناطق التي تسمى “آسيا الصغرى” تشمل بلاد اليونان بمفهومهماالسياسي اليوم. فظهرت في جزيرة “كريت” بحدود عام 1500 قبل الميلاد بدايات فكر ولد عنه لاحقا فكر وفلسفة اليونان. ولم يكن هذا الفكر قد ولد عن فراغ وإنما كان امتداداً لفكر حوض المتوسط الذي شمل مصر وبلاد الشام ووادي الرافدين. وقد يقول قائل: وماذا في هذا فالفكر البشري كله أخذ وعطاء، وهو كذلك. لكن هو ليس كذلك بالنسبة للأوربي حين يتعلق الأمر بفكر اليونان. فهو لا يرضى القول بأن الفكر اليوناني وليد تزاوج من فكر الأبيض المتوسط وأهل اليونان، بل يدعي ويصر على أن فكر اليونان، والذي اعتمده لاحقا أساس فكره السياسي والفلسفي هو نتاج أوربي خالص لا علاقة له بالشرق وإنما مناقض له. وهذا واحد من أسباب معاداة أوربا لنا كما سآتي عليه لاحقاً.
وحين بدأ الأوربي في الاستقرار بعد أن نزح عدد من سكان جنوب حوض المتوسط واستوطنوا أوربا وجلبوا معهم حياة الزراعة والإستقرار وتكوين المجتمعات الثابتة فإنه، أي الأوربي، بدأ يبحث عن شيء يؤمن به فهذه حاجة الإنسان الملحة فالذي لا يجد ربا يؤمن به يخترع واحدا كي يصبح مثالاً له يؤمن به ويتضرع إليه: أنفع ذلك أم لم ينفع! ذلك أن الحاجة للإيمان هي من أعرق وأرسخ الغرائز عند الإنسان. وبرغم أن روما أقامت دولة عظمى حكمت أغلب أوربا لعقود إلا أن البحث عن دين ظل حاجة ملحة. وحيث إن اليونانيين كانوا نقطة التماس بين حوض المتوسط وبين بقية أوربا فإنهم أسرع من آمن بالسيد المسيح (ص) فتسرب ذلك الإيمان إلى روما وبقية أوربا. وهكذا تنصرت أوربا.
لكن الأمر لم يتوقف عند هذا. فأوربا التي كانت تبحث عن دين قويم تؤمن به لم تكتف بأن أخذت دينها عن أهلنا في حوض المتوسط بل سرعان ما استحوذت عليه وصبغته بصبغتها وادعت أنها أعرف به من أهله، ثم وضعت له فقها كما تختار وشرَعت أن كل ما خالف ذلك كفر. واستندت في شرعية ذلك إلى الادعاء بان الرسول بطرس (شمعون الصفا) جاء الى روما وأقام فيها الكنيسة التي قال له السيد المسيح (ص) أنها هو، وإن كان لا يوجد أثر تأريخي واحد على أن بطرس وصل روما، لكن التأريخ كما تعودنا هو ليس ما حدث فعلا وإنما ما صدق الناس أنه حدث!
وبرغم أن هذا الإستحواذ الأوربي على النصرانية لم يمر دون اعتراض من اعترض من نصارى حوض المتوسط إلا أن هيمنة روما وامتداد سلطة “الإمبراطورية الرومانية المقدسة” كما سمت نفسها، في غياب أية قوة معارضة، مكن أوربا من جعل دين النصارى ليس فقط دين أوربا ولكن جعلها مصدرا ومرجعا له. وهذه أول حقيقة مهمة في فهم سبب عداء أوربا لنا. فقد أخذت دينها عنا ثم ادعت أنه دينها وتحكمت به ثم صدرته لنا! ألا ترون أنه لم يصل الى كرسي البابوية في روما رجل واحد من منطقتنا في خمسة عشر قرنا من تحكم الفاتيكان بالكنيسة الكاثوليكية. تخيلوا معي لو أن السيد المسيح (ص) ولد في روما وليس في بيت لحم على سبيل المثال، ما كان حال الدنيا اليوم!
ومرت قرون دخلت فيها أوربا عصورا مظلمة بسبب الكنيسة بشكل أساس ثم خرجت منها كما يقضي التأريخ، وهذا الصحو قضى بدوره الحاجة لولادة فكر سياسي واجتماعي بل وفلسفي يعطي معاني أكثر من صيغ الدين الجاهزة والطقوس القائمة على الإيمان بألوهية السيد المسيح (ص). فأخذ الأوربيون الفكر اليوناني فأصبح الحوار بين أفكار أرسطو وأفلاطون ومن أتبعهم من مفكري اليونان. فعلقوا عليه وتوسعوا في تفسيره. وليس في هذا خلل. لكنهم حين فعلوا ذلك أصروا على القول بأن فكر اليونان أوربي محظ لم يأخذ عن غيره ولم يتأثر بفكر حوض المتوسط بل إنه يختلف عنه في جوهره. كما أنهم أغفلوا عن قصد أو دون قصد الإشارة الى فضل العرب والمسلمين في حفظ الفكر اليوناني من الضياع، وكان قد ضاع لولاهم، عن طريق ترجمته للعربية والتعليق عليه والذي مكن أوربا في عهد النهضة من استعادة فكر اليونان من العربية. وهكذا ولدت الحقيقة الثانية في سبب معاداة أوربا لنا في أنهم أخذوا مبادئ أفكارهم عنا وادعوا أنهم ابتدعوها في أوربا من لا شيء!
وهنا نتوقف لنلقي نظرة على هاتين الحقيقتين واللتين نتج عنهما سببان لعداء أوربا لنا.
فأوربا التي اجتاحتها قبائل “الفاندال” الجرمانية والتي تجاوز توحشها الحدود حتى اشتق من اسمها فعل جديد هو “فاندلايز” ليعني التخريب بوحشية، أوربا هذه تقدمت في مدنيتها واخترعت الآلة وطورت علوم الطبيعةوسخرتها لبناء الصناعة وأعطتنا الطيارة والحاسوب والهاتف النقال على سبيل المثال ثم غزت كل قارات العالم وسرقت ثرواتها. ثم نظرت في ذاتها فوجدت أنها فعلت كل ذلك لكنها مع ذلك ما زالت تعلم علم اليقين أنها أخذت دينها منا وطورت فكرها الفلسفي من فكر حوض المتوسط وكلاهما لنا. إن شعور أوربا بالتفوق المادي إلى جانب الفقر الفكري والديني أنتج عقد نقص أوربية في الدين والفكر غطتها أوربا بالشعور بعقدة التفوق العسكري والعلمي والذي تمثل في الغزو والإحتلال والغصب. ذلك أن الأوربي لا يقدر أن يواجه نفسه حقا ويقر أنه أخذ دينه وفكره عنا فنحن في نظره أقوام متخلفة. لكن هذا التظاهر بالتفوق لم يمنع قيام عقد نقص في باطنه مفادها أنه أخذ دينه وفكره من القوم الذين يعدهم متخلفين. وكانت إحدى محاولات التستر على هذا الشعور بالنقص أنهم أرسلوا البعثات التبشيرية لإقناع النصارى في حوض المتوسط بقبول الدين الذين ولد عندهم، وهم يجهلون أو يتجاهلون أنه مازال حتى اليوم في سورية قوم يتكلمون اللغة التي تكلم بها السيد المسيح (ص).
وحين خرج الأوربي غازيا وهو يبحث عن خيرات الأرض خارج حدوده ليغتصبها أو يغتصب أرضها فإنه ادعى انه كان يفعل ذلك لنشر الدين أو المدنية أو العدالة أو “الديموقراطية”، متغاضيا عن حقيقة أن الغصب نقيض كل ذلك. فحين يفخر الأسباني أنه حول أمريكا الجنوبية الوثنية الى النصرانية فإنه أغفل أن يذكر انه حين فعل ذلك نقل كل ذهبها الى أسبانيا! وحين يفخر الأوربي أنه أنشأ الدولة المثالية “الديموقراطية” في شمال القارة الأمريكية فإنه أغفل أن يذكر أن ذلك تم بعد إبادة مائة ألف ألف إنسان لم يعتد أي منهم على أوربا!
وقد أفحش العرب في ترجمة العبارة اللاتينية فسموا ذلك “استعمارا” وهو في الحقيقة “إغتصاب”. ذلك أن الإستعمار مشتق من العمارة في قوله تعالى “وعمروها أكثر مما عمروها”. وهم أي المغتصبون الأوربيون لم يعمروا شيئا لا في آسيا ولا أفريقيا ولا أمريكا ولا في منطقتنا إلا إذا كانوا قد أبادوا أهلها واغتصبوا الأرض وسكنوها كما فعلوا في أمريكا وأستراليا. فبريطانيا حولت مصر الى مزارع للقطن الرخيص والجيد الذي كان يدير معامل مانشستر وفرنسا حولت الجزائر الى حقول للعنب لإنتاج النبيذ الرخيص لفرنسا، وحين تركت بريطانيا العراق لم تكن قد أنشأت مدرسة واحدة فيه. أما الولايات المتحدة وهي حصيلة قبح ووحشية أوربا فقد حولت دبي إلى أكبر مبغى في العالم!
وقد تميز تأريخ أوربا في القرون الماضية بنشوء عقائد متعددة هي في طبيعتها ونظرتها عقائد تعال وشعور بالإصطفاء وكلها تقوم على المادية فكانت الشيوعية والفاشية والنازية على سبيل المثال لا الحصر وتشترك كلها في أنها أوربية منبعها أوربي وهيمنتها أوربية، فحتى الحركة الشيوعية والتي ادعت أمميتها كانت في جوهرها أوربية في النشأة والسيطرة والتطلع. حتى أن كل الأحزاب الشيوعية في العالم كانت خاضعة لموسكو الأوربية.
وكان من أول علامات إثبات التفوق الأوربي علينا الحملات الصليبية التي شاركت فيها كل أوربا للاستحواذ على شرق الأبيض المتوسط بدعوى حماية الدين النصراني فأسست لها قاعدة هناك، كما حدث من جديد في القرن العشرين في إنشاء قاعدة في مغتصبة فلسطين. وحين زالت تلك القاعدة الصليبية من سواحلنا فإنها في جوهرها وأطماعها لم تختف، وإنما ضعفت لأسباب عدة منها دخول أوربا في مرحلة فكرية مظلمة بسبب الكنيسة، ومنها قوة وامتداد الدولة العثمانية الإسلامية والتي هددت قلب أوربا ووصلت الى أبواب فيينا.
وللحديث صلة
عبد الحق العاني