صفحات من ترجمة كتاب “الإبادة في حصار العراق” – 3 تأليف: د. عبد الحق العاني و د. طارق العاني ترجمة: د. طارق العاني

حرمة الحدود التي رسمها المستعمرون بعد الحرب العالمية الأولى

كانت السياسة الأساس التي تم عرضها علانية في عام 1961 وتم دعمها بوحشية من خلال تدمير العراق في عامي 1991 و2003 دائماً هي حرمة الحدود التي رسمتها القوى الاستعمارية؛ فلم يكن مسموحاً التساهل مع أي تصحيح للأخطاء أو تصحيح للظلم في أي جزء من التراث الاستعماري. ولهذا الأمر أهمية قصوى في الشرق الأوسط لأن أي تعويض للظلم قد يؤدي إلى سيطرة العرب على مواردهم الطبيعية وربما خلق كابوس” (لبريطانيا) من خلال مواجهة إسرائيل. إذ طالما عارضت بريطانيا أي شكل من أشكال الوحدة في العالم العربي بغض النظر عمن ينفذها حتى لو كانوا عملاءها الأكثر ثقة لأن عملية التوحيد لها زخمها الخاص. ولم يتم الترحيب في لندن حتى بـ الاتحاد الهاشميالذي تأسس في 14 شباط/ فبراير 1958 بين دولتي العراق والأردن وكلاهما في نطاق السيطرة البريطانية.

تبقى المصالح البريطانية في العراق والخليج ثابتة إلى حد ما. فقد أفادت صحيفة لندن تايمز في 19 كانون الثاني/ يناير 1949 أن وزير الخارجية البريطاني إرنست بيفن قال: 1

لم تتغير المصالح البريطانية في الشرق الأوسط إلا قليلاً خلال المائتي عام الماضية وهي صالحة اليوم كما كانت في عهد نابليون. وهي اليوم أيضاً إلى حد كبير مصالح العالم الغربي كله. فالشرق الأوسط هو جسر بين آسيا وأفريقيا وطريق بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي …. وقد أعطى النفط الشرق الأوسط قيمة جديدة وخطيرة لكن الجغرافيا ما تزال هي الأساس.

ما يزال تصريح بيفن بعد مرور ستين عاماً صحيحاً الآن كما كان في ذلك الوقت بالكامل. ولا جدال في أن الولايات المتحدة كانت تعزز نفوذها في الشرق الأوسط بينما كان النفوذ البريطاني في تراجع. ومن الضروري للاستكبار الأنجلو سكسوني أن يسيطر قدر الإمكان على إمدادات النفط لمنافسيه الاقتصاديين في ألمانيا والصين واليابان. ومن البديهي للعقيدة الاستكبارية في الشرق الأوسط أن تتمتع دولة إسرائيل التي تجسد الاستكبار الصهيوني بهيمنة لا يمكن تحديها أو أن تتآكل بأي شكل من الأشكال. كل هذه العوامل كانت فاعلة عندما دخل صدام حسين في الفخ المحدد له في الكويت حين كان يدعي أنه كان يعيد تأكيد حق العراق في سواحله.

تكمن المصالح البريطانية والأمريكية في الحد من القوة الاقتصادية للصين وألمانيا واليابان وتعزيز توسع دولة إسرائيل في الشرق الأوسط. ولهذا الأخير عدة أسباب: أولاً لأن إسرائيل من صنع بريطانيا. وثانياً كرادع لأية صحوة ووحدة عربية وثالثاً لأن الصهيونية تملك الأعمال والإعلام والسياسة في بريطانيا والولايات المتحدة.

كانت حملة الكراهية التي خاضتها وسائل الإعلام بمساعدة مباشرة من السياسيين والجامعيين والتطرف بين الجمهور البريطاني والأمريكي على مدى الأشهر التي أدت إلى تدمير العراق في عام 1991 مشهداً مثيراً للاهتمام للمراقب خارجي. فلم يكن لاستخدام اليورانيوم المنضب ودفن الجنود أحياء والمذبحة على طريق الكويت البصرة وتدمير شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي وتدمير جميع المصانع المدنية للأغذية والسلع الاستهلاكية وقطع الغيار والحصار التام من العراق لأكثر من 12 عاماً حيث كانت بريطانيا والولايات المتحدة جهات فاعلة رئيسة، لم يكن لهذا أي علاقة باستعادة الكويت ولا يمكن تصنيفها إلا على أنها العوامل المسببة للإبادة الجماعية. ولا يحتاج المرء إلى تذكير القارئ بأن جميع أعمال التدمير هذه والعقاب الجماعي للمدنيين تنتهك القانون الدولي نفسه الذي يزعم السياسيون في بريطانيا والولايات المتحدة أنهم ذهبوا إلى الحرب لدعمه 2.

أظهر الاستكباريون أربعة مبادئ مهمة في حملتهم لتدمير العراق:

1. يجب بشدة معاقبة العملاء الذين يظهرون العصيان أو يخرجون عن الخط أو يطورون الطموحات الشخصية على المستوى الإقليمي أو الدولي أو يتخيلوا أنفسهم شركاء في المخططات الاستكبارية، ثم التخلي عنهم بعد ذلك.

2. لا ينبغي أبداً مرة أخرى السماح لدولة في الشرق الأوسط باستثناء دولة إسرائيل بتسليح نفسها أو تطوير صناعة أسلحة أو الحصول على تقنية نووية أو أي تقنية متقدمة في هذا الشأن.

3. يجب أن تسيطر الولايات المتحدة على تدفق النفط من أكبر احتياطيات العالم في الشرق الأوسط مع دور ثانوي للقوى الاستعمارية القديمة بريطانيا وفرنسا. وهذا سيضمن السيطرة على إمدادات النفط إلى الدول الرأسمالية المتنافسة الأخرى في اليابان وألمانيا والصين.

4. يجب أن تظل الحدود التي تحددها السلطات الاستعمارية مصونة، وهو مبدأ يجب الالتزام به بأي ثمن. فليس سبب الحفاظ على هذه الحدود هو فقط لحماية مصالح الغرب ولكن أيضا ً لتترسخ في أذهان شعوب العالم الفلسفة الغربية في أن التاريخ يمكن كتابته فقط من قبل الغرب، والغرب وحده، بحيث عندما تنجز مهمته يمكنه الإعلان عن نهاية التاريخ كما فعل فرانسيس فوكوياما بالفعل في تأكيد هذه الأطروحة في 1989 3.

ومع ذلك يبدو أن مبدأ حرمة الحدود هذا ينطبق فقط على الدول خارج الغرب في حين يمكن للدول الغربية أو قواعدها الأمامية مثل دولة إسرائيل أن تغير الحدود حسب الرغبة بعد أن أنشأتها في المقام الأول.

والحقيقة هي أن التاريخ لا ينتهي أبداً وسيظل العراق موجوداً دائماً وستطالب كل حكومة في العراق بالمنفذ الطبيعي لساحلها الذي تمتعت به منذ العصور البابلية وبالتالي ستحاول استعادته. إنها مسألة بقاء للعراق ويجب على كل دولة أن تسعى من أجل البقاء. لقد أكدت النزاعات العسكرية هذه الحقيقة فقط بدلاً من تقليل أهميتها وسيتعين دمج الكويت في العراق إذا كان للسلام والعدل أن يسودا في المنطقة.

كيف أثر الانقسام الشيعي السني في الإسلام على العراق في وقت مبكر

نحتاج من أجل تقويم ميزة فريدة أخرى للعراق إلى تسليط بعض الضوء على الانقسام في الإسلام والذي كان له دور أساس في العراق أكثر منه في الدول الإسلامية الأخرى. فقد كان للإسلام مثل الديانات الأخرى نصيبه من الانقسام أيضاً. لكنه في حين أن الانشقاق في المسيحية على سبيل المثال تجسد بعد قرون إلا أن الانشقاق في الإسلام بدأ في رأينا، وخلافا للقناعة التقليدية، بعد ولادته بفترة وجيزة وقبل موت النبي بوقت طويل.

هاجرت قريش وهي قبيلة الرسول (ص) من العراق واستقرت في مكة. وأعادت مع قبيلة جرهم بناء منزل إبراهيم المعروف باسم الكعبة وجعلته مركز عبادة للقبائل العربية وقامت بإدارته والسيطرة على جميع الأعمال التجارية داخله. وسجل الشاعر العربي إعادة بناء البيت في قوله:

فَأَقْسَمْتُ بِالْبَيْتِ الذِّي طَافَ حَوْلَهُ

رِجَـالٌ بَنَوْهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَجُرْهُـمِ

كانت قريش مقسمة مثل معظم القبائل إلى بطون ونشأت مشاكلهم في المعركة لتولي السيادة في مكة. وكانت أبرز البطون وأفرادها الذين لعبوا دوراً في الإسلام هي بنو هاشم (النبي محمد (ص) وعمه عباس وابن عمه علي) وبنو أمية (أبو سفيان وعثمان بن عفان) وبنو مخزوم (خالد بن الوليد) وبنو زهرة (سعد بن أبي وقاص) وبنو تيم (أبو بكر) وبنو عدي (عمر بن الخطاب). وكان انتصار محمد (ص) سيعني فقدان السيطرة والسلطة والثروة والهيبة لأي بطن آخر.

وسرعان ما تطور هذا الانقسام السياسي إلى عمل ضد محمد (ص) وجماعته الصغيرة من المؤمنين من بني هاشم وأتباعهم. وكان الأمر الإلهي في المراحل الأولى من المهمة: “وأنذر عشيرتك الأقربين” [الشعراء 26: 214]

وكان لهذا العداء أن يستمر على مر التاريخ. ففي عام 619 م أي بعد عشر سنوات من بدء البعثة النبوية وهي السنة المعروفة باسم عام الأحزان توفيت زوج محمد (ص) خديجة وعمه أبو طالب. وجاء الأمر الإلهي لمحمد (ص) بالهجرة إلى يثرب التي أصبحت تعرف بالمدينة المنورة لأن حماته في مكة قد رحلوا. وعندما وصل محمد (ص) وأتباعه إلى المدينة ولدت مرحلة جديدة من الإسلام. بدأ محمد (ص) في تأسيس وتنظيم أمته الإسلامية والتي تطورت لتغير وجه التاريخ. ومكنت الهجرة إلى المدينة المنورة محمد (ص) من الاتصال بالقبائل العربية الأخرى بحرية ودعوتهم إلى الإسلام وتوطدت قوته مما أثار غضب ويأس زعماء بطون قريش من أمية ومخزوم وزهرة الذين ظلوا أعداء للدين.

اختار محمد (ص) في عام 623 م أي بعد عام واحد من الهجرة إلى المدينة مواجهة قريش والأموي أبو سفيان على وجه الخصوص. كان أبو سفيان قد أعد جيشاً كبيراً من جميع قريش والقبائل المتحالفة وسار نحو المدينة المنورة. وكانت معركة بدر عام 624 م مهمة ليس فقط لانتصار الإسلام الحاسم بل لأنها زادت من العداء بين بيت محمد (ص) وأعدائه بين بطون قريش. وقتل خلال المعركة حمزة عم محمد (ص) وعلي بن أبي طالب، ابن عم محمد (ص) وصهره ووالد أسباط النبي الوحيد ووريثه، شيوخ قريش التاليين: عتبة بن ربيعة حمو أبي سفيان وابنه الوليد بن عتبة وشقيقه شيبة بن ربيعة وجميعهم من بني عبد شمس أبناء عمومة بني أمية والأسود بن عبد الأسد من بني مخزوم.

عانى الهاشميون من أسوأ انتقام عندما قام الخليفة الأموي الثاني يزيد بن معاوية بن أبي سفيان في 10 تشرين الأول/ 10 أكتوبر 680 م / 10 محرم 61 هـ بقتل الحسين بن علي سبط النبي الوحيد الحي مع أكثر من سبعين من أفراد عائلته وأصحابه بما في ذلك الأطفال والرضع. ربما كانت مأساة كربلاء على ضفاف نهر الفرات أكبر مذبحة عائلية في التاريخ الإسلامي المسجل وقد شوهت الإسلام بشكل يصعب معه إصلاحه.

يقع استشهاد الحسين في لب الفقه الشيعي وبشكل الحزن على وفاة الحسين جزء كبير من النفسية الجمعية الشيعية لدرجة أنه لا يمكن أن تنتهي مناسبة أو احتفال دون قول كلمات عن وفاة الحسين إن لم يكن على الأقل ذرف الدموع. وكان شيعة العالم على مدى القرون الثلاثة عشر الماضية يخصصون الأيام العشرة الأولى من السنة القمرية الإسلامية للحداد حيث تتم إعادة سرد أحداث المذبحة وأسماء الذين قتلوا حسين أو قبلوا بقتله من السنة. ومع أنه من الصحيح القول بأن معظم المسلمين السنة لا يقبلون بمقتل الحسين إلا أن هناك البعض مثل الوهابيين اليوم الذين يسوغون قتل الحسين على أساس معارضته للخلافة الشرعية في ذلك الوقت.

وعندما رحل محمد (ص) ظهر الانقسام بوضوح بين بيت محمد (ص) وأتباعهم من القبائل الأخرى وبقية قريش، وتركز الاختلاف على خلافة محمد (ص). فقد اختلف بيت محمد (ص) وأتباعهم وشيعتهم من جهة والسنة من جهة أخرى سياسياً على الرغم من أنهم زعموا أن الاختلاف ديني ويقوم على تفسير إرادة الله.

فقد اختلف المسلمون حول معنى كلمة الإمامالعربية. فلطالما جادل الشيعة بأن الإمامة خيار إلهي وليست مسألة تختارها الأمة وأن الإمامة مقدر لها من الله أن تكون بهذا الشكل وأن تكون وراثية في بيت محمد (ص) تبدأ بعلي وتنتهي بالإمام الثاني عشر محمد المهدي. وكل إمام عند الشيعة مثل كل نبي معصوم ويجب أن يطاع دون شك لأن أفعاله جزء من الإرادة الإلهية.

بينما جادل السنة بأن الإمامة هي أمر يجب أن تقرره الأمة ويمكن لأي شخص أن يصبح إماماً بمجرد ظهور الصفات المناسبة فيه.

وينبغي للمرء إنصافاً للتاريخ أن يشير إلى أن السنة الذين كانوا يسيطرون على الإسلام السياسي على مدى القرون الأربعة عشر الماضية لم يفوا في الواقع بجانبهم من الحجة أي الاختيار الحر للإمام. فقد قام أبو بكر الخليفة الأول، الذي تم اختياره في ظروف متنازع عليها إلى حد ما، بتعيين عمر بن الخطاب ليخلفه. وعين عمر بدوره ستة أشخاص جميعهم من قريش لاختيار خليفته من بينهم. واختارت العوائل الأموية والعباسية والعثمانية الخليفة على أسس وراثية. ويبدو أن ما قرره السنة هو أن اعتراضهم لم يكن على المبدأ الوراثي بل بالأحرى علاقته ببيت محمد (ص). واستفاد العباسيون بشكل كبير من التعاطف الذي كان لدى الناس العاديين مع الشيعة والذنب الذي شعر به الكثيرون في القبول باضطهاد سليل النبي. ووضعوا في عام 750 م / 132 هـ نهاية للحكم الأموي مؤسسين في ذلك بداية الإمبراطورية الإسلامية الأكثر ازدهاراً. إلا أن العباسيين ما إن استقروا في سلطتهم الجديدة المكتسبة حتى انقلبوا ضد الأئمة وذرية علي والمتعاطفين معهم. واتخذ اضطهاد الأئمة وأتباعهم من الشيعة أشكالاً عديدة ومر بفترات شدة مختلفة. ويكفي أن نقول إن أياً من الأئمة الأحد عشر المنحدرين من علي باستثناء الإمام الأخير المهدي، الذي لم يأت بعد، لم يمت ميتة طبيعية. وهذا يشير إلى الانقسام الرئيس الثاني في الإسلام السياسي بين العباسيين وذرية عم النبي العباس وأتباعهم وبين العلويين ونسل الرسول وعلي والذين أطلق عليهم منذ ذلك الحين شيعة علي أو الشيعة باختصار.

تم تطوير مفهوم التقية خلال الحكم العباسي 4. وأدت بعض ممارسات التقية على مر القرون من الذين يدعون أنهم شيعة إلى استخدامها بشكل مسوغ من خصومهم لتشويه سمعة الشيعة. فما أراد الأئمة أن يفعله أتباعهم هو التخلي عن أي مصلحة في اكتساب السلطة أو الانخراط مباشرة في اللعبة السياسية. ويعتقد الإمام جعفر الصادق أن المؤمن الحقيقي يجب ألا يكون لديه اهتمام كبير بالأمور الدنيوية لأن هذه هي مملكة الشيطان الذي أعطاه الله الحرية لإغراء الناس. إن ملكوت الرب بحسب الأئمة لن يتحقق إلا مع مجيء المخلص المهدي لجميع المسلمين والمجيء الثاني للمسيح للنصارى والمجيء الأول للمسيح لليهود المتدينين. ويؤمن جميع المسلمين بالمهدي لكنهم يختلفون حول ما إذا كان من نسل محمد (ص) أم لا: أي الشيعة مقابل السنة.

بناء بغداد عاصمة إمبراطورية

في عام 762 م / 145 هـ اختار الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور قرية صغيرة على ضفاف نهر دجلة لبناء مدينته المستديرة دار السلام وأطلق عليها اسم بغدادعلى اسم القرية التي حلت محلها. وكانت بغداد بين اكتمالها عام 766 م / 149 هـ وتدميرها عام 1258 عاصمة إمبراطورية قوية ومزدهرة. فقد كانت خلال أيام مجدها مركز المعرفة والتعلم للعالم كله توافد اليها الناس من جميع أنحاء العالم للدراسة والتطوير والمشاركة. وأصبحت بوطة انصهرت فيها مختلف الأعراق والثقافات ولم تكن هناك حواجز من أي نوع فيما يتعلق بمن سمح له بالإقامة هناك.

لا يوجد عنصر في التراث الإسلامي أو العربي اليوم ليس له جذر في إمبراطورية بغداد. وبما أن هذا ليس كتاباً عن تاريخ بغداد فإننا سنشير فقط إلى دورها في اللغة والفقه. كانت الحاجة إلى كتابة قواعد اللغة العربية ذات شقين. فقد أصبح من الطبيعي أولاً أن يؤدي تدفق غير العرب إلى الإسلام إلى إضعاف اللغة العربية التي كان يتحدث بها حتى الآن فقط المتحدثون العرب الأصليون. وثانياً أدت الحاجة إلى دراسة القرآن والحديث من أجل تطوير الفقه الإسلامي إلى حاجة جديدة لفهم واضح لقواعد النحو والدلالات. وولد هذا في حوالي 785 م / 170 هـ في شكل كتاب العينوهو أول قاموس معروف في العربية إن لم يكن في أية لغة. وقد جمع الكتاب عبقري النحو العربي الخليل وتلاه مباشرة الكتاب وهو أول كتاب شامل عن القواعد كتبه تلميذه سيبويه. ونشأت بالتزامن مع ترسيخ القواعد والمفردات مهمة تجميع أقوال النبي (ص) وقصة حياته وممارساته (السيرة). وتطلبت حاجات الدولة والحياة اليومية تطوير الفقه الإسلامي. وغني عن القول إن هذا كله حدث في بغداد أو بالقرب منها. فتطور الفقه الشيعي كله في العراق. وعلى الرغم من أن بعض الفقه السني نشأ في مكان آخر إلا أنه تم تطويره أيضاً في العراق. ويستطيع الإباضيون، وهم طائفة من طوائف الإسلام الصغيرة الأخرى التي تعيش بشكل رئيس في عمان اليوم، أن يشيروا بفخر إلى العراق باعتباره مسقط رأسهم في الفقه. كما تطورت في العراق أيضاً مدارس فكرية مثل الصوفية والمعتزلة إلى جانب التيار السائد. وأصبح العراق بفلاسفة مثل ابن سينا ​​والفارابي والكندي وعلماء مثل الخوارزمي وابن الهيثم (الفيزيائي الذي وصف الفوتونات قبل 1000 عام من أي عالم أوروبي) مهداً لجميع التراث العربي في الوقت الحاضر.

وكانت هذه الميزة الفريدة للعراق باعتباره ينبوع الفقه الإسلامي للسنة والشيعة والإباضية مشكلته الرئيسة في الوقت نفسه. فالعراق يعود إلى السنة مثلما يعود إلى الشيعة وذلك ببساطة لأن جذور الطرفين هناك بغض النظر عن النسبة المئوية للسكان. وقد أدت ثلاثة عشر قرناً من السيطرة السياسية الحصرية تقريباً من قبل السنة إلى ظهور حقيقتين شعور بالظلم بين الشيعة وتوقع بين السنة بالحفاظ على الوضع الراهن. ومعنى ذلك أن السنة يريدون العراق تحت سيطرتهم ويرفضون قبول أن الحكم الذاتي للجنوب الذي تقطنه أغلبية شيعية قد يكون حلاً. وهم يخشون أن يؤدي ذلك إلى تمزيق العراق أو حتى لأسوأ من ذلك في ضم العراق إلى إيران التي تطمح لقيادة العالم الإسلامي. أما الشيعة من الناحية الأخرى فإنهم يريدون بغداد ولكن بدون تاريخها السياسي الذي يذكرهم باضطهاد الأئمة. فكيف يمكن للشيعة أن يرثوا بغداد وهم يحتفلون بتفجير تمثال مؤسسها أبو جعفر المنصور في 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2005؟ 5

لقد تأصل هذا الشعور بالظلم في الثقافة والنفسية بين غالبية الشيعة في العراق لدرجة أنه عندما يتعلق الأمر بقضايا المبادئ يبدو أنه يؤثر بشكل لا شعوري حتى على الشيعة المتعلمين ويعمي بصيرتهم. وأصبح هذا الشعور بالاضطهاد يتخلل ببطء جميع طبقات الشيعة في العراق وقد تم تعزيزه والتأكيد عليه من خلال ميزة أخرى للإسلام الشيعي وهي المرجعية. وتعد المرجعية المركز الذي يلجأ إليه السكان عندما يحتاجون إلى التوجيه والمشورة بشأن المسائل الدينية. ويجب على كل شيعي ملتزم من الناحية الفعلية أن يتبع سلطة دينية واحدة في شؤونه الروحية وحتى الاعتيادية. وتتمتع المرجعية التي مركزها في النجف بوزن أكبر وسلطة أكبر من أي حزب سياسي في العراق. وإذا نشرت المرجعية نفسها معلومات حول الظلم الذي تعرض له الشيعة فستكون قادرة على تحريك الجماهير.

استنتج الأمريكيون كما فعل البريطانيون، بالاعتماد على جيش من المستشرقين ومئات من مراكز الفكر والعديد من الخبراء العراقيين المزعومين وعدد كبير من التقارير الاستخباراتية، أنهم سيكونون قادرين من خلال استخدامهم الشعور بالظلم بين الشيعة في العراق الى غزو العراق واحتلاله وتهدئته من خلال تثبيت حكومة دمية شيعية بشكل رئيس تعمل تحت سيطرتهم. لكنهم ما زالوا بعد هذه السنوات يكافحون لمعرفة سبب فشلهم على الرغم من تسليحهم لأول مرة للمجموعات الشيعية المسلحة ضد السنة ثم الانتقال لتسليح ما يسمى بالصحوة (عندما كان الأمر في الواقع أشبه بالنوم) للحد من تجاوزات المجموعات الشيعية المسلحة. ويكمن السبب في حقيقة أنه يمكن حكم العراق بطريقة واحدة فقط من خلال دولة علمانية لأنه على الرغم من الأحداث السيئة فقد نجحت الدولة العلمانية في العراق خلال الثمانين سنة التي سبقت الاحتلال حين فشلت الدولة الدينية التي جاء بها الاحتلال.

وللحديث صلة….

1 كما نقله زكي صالح

2 وثقت العديد من الكتب والمقالات تدمير العراق في عام 1991 وما بعده. وعلى الرغم من أننا سنناقش هذا التدمير بالتفصيل في فصل لاحق إلا أنه يمكن للقارئ مراجعة ما يلي:

Clark, Ramsay, The Fire This Time, Thunder’s Mouth Press, March 1994;Center for Economic and Social Rights, The Human Cost of War in Iraq, New York; Ismael, Tareq Y. and Haddad, William W., Iraq The Human Cost Of History, Pluto Press, 2004

3 The End of History, Francis Fukuyama, http://www.wesjones.com/eoh.htm

4 عبد الحق العاني، محاكمة صدام حسين – غزو العراق وبداية الربيع الصهيوني للعرب، دار أمجد للتوزيع، عمان، ص 57

5 Hazran, Yusri, ‘The Rise of Politicized Shi’ite Religiosity and the Territorial State in Iraq and Lebanon’, The Middle East Journal, 10/01/10. See also: <http://www. mareeb.net/vb/showthread.php?t=6324>

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image