أبدا من حيث انتهيت في الجزء الأول حين وعدت أن آتي بمثالين لمسايرة بوتن للصهيونية.
حصار اليمن
شهد العالم منذ الحرب العالمية الثانية عددا من الصراعات داخل الدول، وعلى الأخص منها تلك التي استقلت أو تشكلت حديثا، وشهد حروبا أهلية وانقلابات. وكانت النتيجة الطبيعية في كل حالة هو قبول العالم للسلطة الوطنية التي تتمكن من عاصمة البلد ومساحة معقولة من أرضه. ولا تختلف اليمن في كونها شهدت نصيبا من الصراعات الداخلية والتي كان آخرها تمكن الحوثيين من السيطرة على العاصمة والميناء الرئيس ومساحة كبيرة من أرض اليمن. ولا شك أن هذا لاقى معارضة من قسم من اليمنيين وهو طبيعي بسبب تأريخ اليمن المعقد وانقسامها المذهبي. واختارت الصهيونية العالمية رفض حكومة العاصمة صنعاء وأصرت على الإعتراف بحكومة عينتها السعودية وجعلت مقرها في الرياض ثم سارعت لتشكيل جيش من أبنائها ومن اليمن والسودان والإمارات والمرتزقة لمحاربة حكومة صنعاء. ولم تكتف بذلك بل فرضت عليها حصارا بريا وبحريا وجويا مما قاد لمجاعات وموت وخراب وثقته منظمات الأمم المتحدة ثم أرسلت طائراتها لتقصف كل ما تقدر عليه من الناس والأرض. وكان طبيعيا أن تلجأ الصهيونية لمجلس الأمن لإضفاء شرعية على هذه الجرائم كما فعلت في حصار العراق عام 1991 وادّعت أن الحكومة الشرعية في اليمن هي تلك التي تجلس في الرياض وليست حكومة العاصمة صنعاء كما هو الحال المتعارف عليه منذ الحرب العالمية الثانية. ولم تقبل روسيا ذلك في حال فنزويلا برغم أن الغرب الصهيوني كان في أغلبه غير معترف بحكومة مادورو حتى إن بنك إنكلتره رفض تحويل أموال الدولة لها بحجة عدم شرعيتها. وسبب عدم إتباع روسيا الموقف ذاته في حال اليمن فهو لأن إسرائيل لها مصلحة في أن يكون مضيق “باب المندب” بيد اصدقائها لا أعدائها.
ومضت ثماني سنوات على حصار اليمن والقصف اليومي والقتل والدمار في عدوان واضح ومعلن ودون اي إنكار، فقد كانت الطائرات السعودية والإماراتية تغير على أرض اليمن خلافا للقانون الدولي ولميثاق الأمم المتحدة، كما شارك الجنود السعوديون والإمارتيون ومن معهم من المرتزقة في القتال الأرضي داخل أرض اليمن مما شكل خرقا للقانون الدولي. ولم نسمع يوما طلبا من روسيا، وهي العضو الدائم في مجلس الأمن والذي يقع عليه واجب حماية الأمن والسلم الدولي، لإيقاف العدوان أو لبحث قتل وتجويع الأبرياء خلافا لكل القواعد والقوانين الإنسانية.
وحيث إن روسيا اليوم، وهي تصارع حلف شمال الأطلسي مجتمعا في أوكرنيا مما يجعلها بحاجة لنصف صديق، فهي لا يمكن أن تجاهر بموقف معاد للسعودية في اليمن اي إن المتوقع أن تكون أكثر التصاقا بالموقف السابق في دعم إرهاب وعدوان الصهيونيي المتمثل في الغزو السعودي الإماراتي لليمن. فأين سيتحقق مطلب روسيا الذي تنادي به اليوم في تطبيق قواعد القانون الدولي؟
قاعدتي حميميم وطرطوس
إن أي دارس للسياسة والتأريخ يعرف أن حلم قياصرة روسيا كان دائما الوصول الى المياه الدافئة. ولم يتحقق هذا الحلم في عهد اي منهم حيث إن أقرب ما وصلوا إليه كان في البحر الأسود في قاعدة “سواستيبول”، ولكنها لم تكن حقا مما يعد المياه الدافئة إذ هذه الأخيرة كانت، وما زالت، تعني حوض البحر الأبيض المتوسط وما دونه من مياه. وحَكم الشيوعيون روسيا ومن معها من الإتحاد السوفييتي وأقاموا علاقات جيدة مع عدد من دول حوض البحر الأبيض المتوسط لكنهم لم يحصلوا على موضع قادم عند المياه الدافئة.
وجاءت أزمة سورية والحرب البربرية التي شنتها عليها الصهيونية، بعد تغيير قواعد العدوان من حرب وغزو مباشر الى حرب بالوكالة، بدعم من مال الأعراب الذين حذر الله منهم في كتابه الكريم. فوجدت سورية أن لا خيار لها سوى منح الروس ما يحلمون به منذ قرون في قاعدتين جوية وبحرية على شاطئ الأبيض المتوسط. وقد لعبت روسيا دورا فاعلاً في منع الإرهاب الصهيوني المتمثل في منظمات القاعدة والدولة الإسلامية وما شابهها من حركات مشبوهة ذات هدف واحد. ولم يكن عمل روسيا ذلك خدمة لسورية وحدها بل إن روسيا كانت، وما زالت، تعد مكافحة ذلك الإرهاب في سورية أفضل من مواجهته في أرضها أو في أي من الجمهوريات المحيطة بها والذي كان سيتحقق لو انه تمكن من تأسيس قاعدة له في بلاد الشام.
وقد يعتقد من يعتقد ان هذا كان عملا كافيا من روسيا ثمنا للقواعد. وليس الأمر عندنا كذلك. فتحقيق حلم القرون يقتضي تعهدا أكبر في حماية سورية وأمنها وهو ما لم يتحقق. إن مما لا شك فيه هو أننا نجهل اتفاقية منح الروس قواعد في سورية فمن حق الدولة السورية أن تبقي ذلك سرا لتعلقه بأمنها القومي. لكن ما من عاقل يمكن أن يتخيل أن ليس من مهمة القواعد الروسية في سورية حماية وسلامة سورية. فإذا كان الأمر كذلك فإن هذه سابقة استعمارية لم يسبق لها مثيل حيث لم تقم قواعد في تأريخ الإستعمار الأوربي قط لم يكن من واجبها حماية امن وسلامة الأرض التي هي عليها.
لكن الحال في سورية مختلف تماماً حيث تطير الطائرات الإسرئيلة متى تشاء وتضرب أي منطقة في سورية كما تشاء وحين كان القصف في السابق لا يطال المواقع المدنية فقد أصبح لاحقا يشمل المطارات المدنية في دمشق وحلب. كل هذا يحدث وقاعدة طرطوس البحرية وحميميم الجوية التي تمتلك أفضل منظومة مقاومة الطائرات لا تحاول إعتراض أي عدوان للدفاع عن أمن سورية وأبنائها. وهذا ليس كل المشكلة حيث إن قواعد الإشتباك الجوي تقضي أن أية طائرة عسكرية لا تحلق في سماء سورية دون أن تتصدى لها منظومة الدفاع الجولي في حميميم بشكل تلقائي ما لم تكن معروفة في إشاراتها السرية للقاعدة أو أن هناك تنسيقاً مسبقاً بين القاعدة والطيران المهاجم, وهذا يعني أنه إما أن هناك إتفاقاً مستمرا بين قاعدة حميميم وإسرائيل وإما أن قاعدة حميميم تعلم بالهجوم قبل وقوعه ومكانه وتوقيته.
وكل هذا يجري في وقت لا تسمح فيه روسيا لسورية أن تستعمل أنواعا محددة من مقاومة الطائرات لمواجهة الهجوم الإسرائيلي. بل إن الصعب قبوله أو فهمه هو أن روسيا سلمت تركيا، وهي عضو في حلف شمال الأطلسي الذي أعلن رسميا أن روسيا عدوة للحلف، منظومة أس 400 للدفاع الجوي، ومنعت هذه المنظومة عن سورية الحليفة. إن هذه المنظومة يمكنها، إذا ما صدق إدعاء روسيا عن قدراتها، في التصدي للطائرات الإسرائيلية وهي فوق تل أبيب وليس فوق الجولان أو بيروت. فإذا كانت تركيا عضوة في حلف شمال الأطلسي فضد من ستسعمل دفاعها الجوي وكل جاراتها في أوربا أعضاء في الحلف، بينما تحتاج سورية لمنظومة كتلك لأنها يعتدى عليها بشكل مستمر.
وكأنّ كل هذه الحقائق عن سلوك روسيا تجاه العدوان الإسرائيلي المستمر على سورية غير كافية لكشف الموقف الحقيقي لبوتن من قضايا العرب الرئيسة فإن نتنياهو، رئيس وزراء اسرائيل، دأب في دورة رئاسته السابقة على زيارة موسكو والإجتماع ببوتن كلما شاء. وأكاد أجزم أنه إلتقى ببوتن أكثر من التقاء الأخير مع أي رئيس في مدة أربع سنوات. ولعل الأنكى من كل ذلك أن سفره واجتماعه مع بوتن كان يتم بعد يوم أو قليل من الأيام من آخر عدوان إسرائيلي على سورية.
لا شك عندي أن ما أوجزته لا يمكن أن يفسر إلا بتفسير واحد وهو أن بوتن مع إسرائيل في كل ما تفعله وهو في هذا لا يختلف عن أي رئيس أمريكي يصرح في الأسبوع الأول من رئاسته أن شغله الأول هو ضمان أمن إسرائيل وحيث إن إسرائيل دولة استيطان وغصب وتوسع فإن الدفاع عن أمنها يعني دعمها في كل ما تفعله.
ويمكن فهم موقف بوتن هذا من جانب آخر إذا لم يثبت كونه منحازاً للصهيونية وذلك من باب التزامه بما سبق وعرفته بـ “مبدأ بوتن”، في التزامه بالدفاع عن كل روسي أينما كان في العالم. فعدد الروس في إسرائيل اليوم هو بحدود ربع السكان، فحين يرفض بوتن إعطاء فرصة لسورية لإسقاط طائرة إسرائيلية فإنه ربما يخشى أن طائرها قد يكون روسيا وهو يحميه مهما كان عدد السوريين الذين كان هذا الطيار سيقتلهم!
وأيا كان السبب الحقيقي لسياسة بوتن في سورية أهو في انحيازه للصهيونية أم في التزامه بالدفاع عن الروس في إسرائيل فإن النتيجة واحدة تتمثل في منع سورية من الدفاع عن نفسها وأهلها وتمكين إسرائيل من عدوان مستمر. إن وجود روسيا في سورية ربما ساعد في تحجيم عصابات الإرهاب لكنه في الوقت ذاته حدد حرية سورية في مقاومة الصهيونية لأن قرار سورية في الحرب والسلم لم يعد في يدها حقاً.
إن هذا الحال لا يمكن له أن يستمر وإذا استمرت روسيا في انحيازها الكامل لإسرائيل فإن النتيجة الوحيدة ستكون فقدانها للقواعد على مياه الأبيض المتوسط الدافئة. إن القواعد الأجنبية التي لا تحمي البلد الذي هي فيه لا يمكن ولا يصح لها أن تبقى فيه.
إن هناك علاقة بين ما كتبته أعلاه والحرب في أوكرانيا وهذا ما سأكتب عنه في الجزء القادم.
وللحديث صلة….
عبد الحق العاني
4 آذار 2023