لا يختلف اثنان اليوم في أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن هو لاعب أساس في السياسة الدولية منذ أكثر من عشرين عاما وانه اليوم يرسم قواعد جديدة للعلاقات الدولية لا بد أن تتفق دول العالم على بحثها من أجل الخروج بأسس نظام دولي جديد بل وحتى تعديل لميثاق الأمم المتحدة لأن الوضع القائم، وعلى الأخص احتساب الحصار الذي يفرض على الشعوب المتسضعفة عملا مشروعا، لا يمكن أن يستمر.
وحيث إننا العرب جزء من النظام الدولي، سواء أشاركنا في ترتيبه أم لم نفعل، فلا بد أن ننظر في أمر بوتن: أين يقف سياسيا، وكيف يؤثر ذلك مباشرة أو غير مباشرة علينا وما الذي يمكن لنا أن نرتضيه وندعمه وما الذي يجب أن نتصدى له ونعارضه. وهذا هو ما أنوي فعله في هذا المقال.
ما هي خلفية بوتن؟
لا بد أن تكون بداية الحديث عن سياسة بوتن هي تقصي خلفيته. بدأ بوتين حياته العملية عاملا في جهاز المخابرات في الإتحاد السوفيتي. وحين نجح الصهاينة في أسقاط المشروع الشيوعي، لأسباب وبطرق لسنا بصددها هنا، وجد بوتن أن عليه أن يختار بين أن يكون وطنيا روسيا دون انتماء أو أن يبقى شيوعيا. فاكتشف كما أكتشف كثيرون ممن معه اليوم أنهم لم يكونوا شيوعيين حقا وإنما هم انتموا للحزب الشيوعي كي يعيشوا كما حدث مع كثير من البعثيين في العراق وسورية. فلو كان شيوعيا حقا لالتحق بالحزب الشيوعي الروسي وهو ما زال قائما وله جمهوره. وهذا حال يقضي التوقف عنده لأنه يشير بما لا يقبل الجدل بأن بوتن ليس صاحب مبدأ حتى يمكن أن نتوقع منه سلوكا ينسجم مع ذلك المبدأ فمن كان شيوعيا لعقود ثم انقلب على تلك المبادئ في ليلة وضحاها لا يمكن أن يعول عليه في أية قضية في سلوك مبدئي.
وهكذا قرر أن يبحث عن ما يصلح لإعادة مجد روسيا بعد أن فشلت الشيوعية والتي لم يؤمن بها في كل حال. فوجد أن الطريق الذي يريده ليس نظاما اشتراكيا وإنما هو نظام رأسمالي. وحيث إن النظام الرأسمالي اليوم يمثله إقتصاد الليبرالية الجديدة التي تديره الصهيونية العالمية فقد أصبح لزاما عليه مجاراة الصهيونية في كل مشاريعها. وسواء أكان بوتن مؤمنا بذلك أم لم يكن فإنه بقدر تعلق الأمر بنا فإن سياسة بوتن كانت وما زالت مجارية للصهوينة إن لم تكن متطابقة معها، كما سنرى.
وأتضح التهالك الروسي للمشاركة في النادي الصهيوني الرأسمالي خلال عشرين عاما في إشارة المسؤولين الروس، وعلى الأخص وزير الخارحية لافروف، في حديثهم المتكرر عن الأوربيين (أوربا الغربية والولايات المتحدة واستراليا وكندا) على أنهم “شركاؤنا”! ففي أي شيء كان الروس شركاء للأوربيين إن لم يكن في تصورهم أنهم ملتحقون بالنادي الصهيوني الراسمالي.
مبدأ بوتن
لا بد أن نتفق على ان بوتن هوحاكم روسيا الفعلي منذ عام 2000 وحتى اليوم وهذا يعني أنه مسؤول عن كل سياساتها منذ ذلك الوقت حتى إذا كان، بسبب دستوري، ليس رئيسا للبلاد. لقد كان متمما لرؤية بوتن منذ البداية مبدأٌ كشفه بعد سنوات، حين أعلن أكثر من مرة أن مهمته هي الدفاع عن أي روسي وحمايته، أينما كان في العالم. وهذا نابع من قناعته بوحدة الشعب الروسي. وهكذا يجب النظر الى عمليته العسكرية لضم أجزاء من أكرانيا السياسية كما رسمت بعد عام 1991 ، وربما أمكن النظر الى مشاكل مستقبلية حول وجود الروس في ليثوانيا ومولدافيا. لكن الحال يصبح مختلفاً ومعقدا حين يصل الى التزام بوتن في الدفاع عن اليهود الذين هاجروا من روسيا والذين تجاوزا الف ألف (مليون) في عهده الى فلسطين.
فأين يقف بوتن من قضايا العرب؟
إن من الأمور التي لا يمكن تجاهلها هي ان بوتن لم يصرح قط بشكل واضح وصريح عن موقفه من فلسطين وعن مدى تطابق ذلك الموقف مع ما يدعيه من إيمانه بالقانون الدولي. وهو في موقفه من قضية العرب المركزية لا يختلف عن موقفه من العراق وسورية وليبيا واليمن لتعلق كل هذه بالصراع الرئيس بين الوجود العربي والهيمنة الإستيطانية الصهيونية.فإذا نظرنا الى الحقائق تكشف لنا ما يلي:
- إن سماح بوتن لليهود الروس بالهجرة الى فلسطين هي إقرار منه في أن لهم الحق في تلك الأرض بغض النظر عن ساكنيها منذ آلاف السنين، وموافقة على اغتصاب الأرض التي خاطب موشي دايان قومه يوما قائلا إن ما من قرية تسكنونها اليوم إلا وكان لها اسم عربي أزلناه. فأين هذا من القانون الدولي الذي يدعي بوتن أنه يسعى لتثبيته؟
- إذا كان غزو العراق الأول عام 1991 قد تم في عهد يلتسن وغوبارتشوف ومن على شاكلتهم من مخلفات الشيوعيين الساقطين والذي بدوره يعفي بوتن من المساءلة فإن الحال بعد عام 2000 مختلف تماما حين أصبح بوتن سيد الموقف. فبوتن الذي كان على علم كامل بما يجري في العراق وهي الحقائق التي عرضها لافروف على مجلس الأمن فإن روسيا لم تتقدم بطلب لمجلس الأمن لبحث موضوع رفع حصار الإبادة الذي فرض على شعب العراق منذ عام 1990.
- وافق بوتين على كل قرارات مجلس الأمن في الإبقاء على حصار الإبادة المفروض على العراق وعلى مسرحية التفتيش على أسلحة الدمار الشامل والتي كان الروس يعرفون قدر ما تعرفه أجهزة المخابرات الغربية أن لا وجود لها في العراق. فأين في القانون الدولي الذي يتحدث عنه بوتن يمكن حصار شعب وتجويعه؟
- وافقت روسيا على قرار مجلس الأمن رقم 1441 والذي استندت اليه الصهيونية في غزو العراق واحتلاله وتخريبه لأمد طويل. كان بامكان بوتن أن يرفض الموافقة على ذلك وأن يطالب بالإنتظار حتى تكمل لجان الأمم المتحدة تفتيشها حيث لم يكن هناك اي حال طارئ يدعو للعجلة بعد حصار دام اثني عشر عاماً. إن من المعيب أن تقول لنا قنوات روسيا اليوم إن كولن باول كذب على مجلس الأمن حين عرض على مجلس الأمن “انبوبة” الإدعاء بالسلاح العراقي الوهمي. فأين كانت المخابرات الروسية؟ أكانت تجهل يومها أن تلك كذبة، أم أنها سكتت عنها وتجد اليوم حاجة لفضحها لأن لها مصلحة في ذلك؟
- لم تطالب روسيا بدعوة مجلس الأمن للإنعقاد بعد غزو العراق، الدولة العضو والمؤسس للأمم المتحدة، حيث إن القانون الدولي يعد الغزو جريمة لإنتهاكه الصريح للمادة 2.4 من ميثاق الأمم المتحدة والتي تعد القاعدة الأساس التي قامت عليها الأمم المتحدة والنظام الدولي منذ الحرب العالمية الثانية.
- وافقت روسيا بوتن عام 2003 على قرار مجلس الأمن رقم 1483 والذي منح الولايات المتحدة وبريطانيا مكافأة على غزو بلد عضو في الأمم المتحدة سلطة لا يمتلكها مجلس الأمن في حكم العراق. لقد كان على روسيا، وهي من الدول الخمس الموكل اليها واجب حماية الدول الأخرى ودعم القانون، أن ترفض الموافقة على القرار وأن تطالب الدول التي أحتلت العراق أن تنسحب بعد أن أكتشفت بطلان ادعائها بنزع سلاح العراق. وربما يقول من الجهلة الذين لا يفهمون بالقانون الدولي أن هذا لا يغير شيئا. لكن الحال هو انه لو رفضت روسيا القرار 1483 لتغير كل شيء في العلاقات الدولية ولبطلت كل حجج المدعين بشرعية الإحتلال وآثاره ولقامت مئات الدعاوى في دول العالم على بطلان كل التشريع الذي سنه الصهيوني بعد غزو العراق.
- التزمت روسيا بالعقوبات التي فرضتها الصهيونية على سورية منذ عام 2003 وحتى اليوم والتي هي في حقيقتها جريمة إبادة. ولم تقل روسيا بوتن يوما إن هذه العقوبات مخالفة للقانون الدولي إلى أن طبقت عليها فإذا بها تتحدث عن عدم قانونية العقوبات المفروضة من جانب واحد! إن كل العقوبات على أي شعب هي خرق للقانون الدولي الذي أقر في القاعدة القسرية لإتفاقية لاهي عام 1907 بأن تجويع الشعوب جريمة. فليست هناك عقوبات مقبولة لمجرد الإدعاء بأنها صدرت باتفاق الأطراف. إن مجلس الأمن الذي تجلس فيه روسيا ليس لديه سلطة فرض عقوبات تنقض القواعد القسرية للقانون الدولي، فكما إن العقوبات المفروضة على روسيا اليوم باطلة فإن العقوبات التي فرضت على العراق وسورية وغيرها من دول العالم سواء أصدرت من طرف واحد أم صدرت عن إتفاق أطراف هي جريمة.
- وافقت روسيا بوتن على قرار مجلس الأمن رقم 1973 (2011) والذي سمح لحلف شمال الأطلسي، وهو الأداة العسكرية للصهونية، في حصار ليبيا ثم تخريبها وتفتيتها لدويلات مدن وقرى وعصابات من شذاذ الافاق، الذين ترعرعوا في حضن الغرب الصهيوني، بعد أن كانت دولة آمنة مطمئنة. ولو لم تفعل لما ادعت الصهيونية انها كانت تعمل بتفويض مجلس الأمن لحماية المدنيين في ليبيا ولأمتنعت دول عديدة عن المشاركة ولربما كان الأمر سيختف اليوم. إن إدعاء روسيا أنها خدعت في ليبيا يدعو للسخرية. ذلك أن روسيا صرحت على لسان لافرفوف في مجلس الأمن بعد فرض مناطق “حظر الطيران” على العراق ما الذي يعنيه ذلك ولم تكن جاهلة عن نتائجه في ليبيا.
- لم تطالب روسيا سواء أكان ذلك في عهدها الشيوعي أم في عهد بوتن بعرض موضوع إمتلاك إسرائيل وتطويرها لكل أنواع أسلحة الدمار الشامل والمتمثل علناً في رفض اسرائيل التصديق على معاهدات حظر الانتشار ونزع تلك الإسلحة، في الوقت الذي كانت روسيا فاعلة ونشطة في الدعوة للتفتيش عن تلك الأسلحة ونزعها في العراق وسورية وليبيا وإيران.
ما الذي يستنتج من هذه الحقائق؟
إن النظر الى سياسة بوتن في العرض الموجز أعلاه يقود لنتيجة واحدة مفادها ان بوتن كان حريصاً على مسايرة الصهيونية على حساب العرب وسواء أكان بوتن صهيونيا أم لم يكن فإن النتيجة ذاتها تحققت في المحافظة على ما تريده إسرائيل ومعاقبة وتحجيم أعدائها. وهذا ما حدث في العراق حيث تم حل جيشه ذي الثمانين عاما من التشكيل والعقيدة دون أن تتكلف إسرائيل في ذلك جنديا أو طلقة واحدة. وتم تفتيت سورية ونزع سلاحها وإنهاك جيشها في الوقت الذي كان لإسرائيل الحرية المطلقة في التسلح والعدوان والإستيطان.
وسبب ذلك يمكن فهمه في أن لدى بوتن قناعة أن عليه أن يساير الصهيونية كي يرضيها لتقبل روسيا في النادي الراسمالي الصهيوني الذي يتحكم بنظام الإقتصاد الذي تمثله الليبرالية الجديدة وهو النظام الذي يخضع بالكلية للاحتياط الفدرالي الأمريكي الذي يملكه يهود العالم. وهكذا كان: فسايرهم في حصار العراق وغزوه وسايرهم في خراب ليبيا وتفتيتها وسايرهم في حصار سورية وخرابها.
وأعرض أدناه مثالين للسياسة الروسية التي تعزز الممارسة العملية لسياسة بوتن في مسايرة وخدمة المشروع الصهيوني المراد تطبيقه على العرب.
وللحديث صلة
عبد الحق العاني
1 آذار 2023