غزت الصهيونية الأنكلوساكسونية (الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا وكنده) العراق عام 2003 وشاركها في ذلك من ذيولها أسبانيا وبولندة، وأحتلته، وما زالت تحتله، بعد أن ألغت الدولة العراقية التي أسست في عشرينيات القرن العشرين وذلك في حلها كل نظمها ومؤسساتها التشريعية والقضائية والسياسية والعسكرية والإقتصادية.
ودخلت ايران العراق بحكم الجغرافيا والمذهب وذلك بموافقة الصهيونية التي كانت بحاجة ماسة لرجال إيران من العراقيين للإعتماد عليهم في خلق الدولة الجديدة العميلة. وكان لإيران اكثر من هدف أولها الإنتقام من العراقيين الذين شاركوا بشكل متميز في حرب الثمانينيات، وثانيهما منع قيام دولة قوية وموحدة في العراق تشكل خطرا على إيران ورؤيتها لمستقبل المنطقة. إلا ان هذه الأهداف كانت تحمل في طياتها عوامل تناقضها مع مصلحة إيران ومشاريعها.
فقد ولدت في العراق بعد عام 2003 دولة الفساد، فليس هناك من صفة أخرى لها. وقد يقول قائل إنها ولدت عن “الديموقراطية”، وحيث إن لي حديثا مستقلاً عن الديموقراطية من حيث المفهوم والتطبيق فإني لن أخوض في الديموقراطية هنا، لكني أكتفي هنا بالقول بأن لا قدسية للديموقراطية أكثر من الشيوعية والنازية والرأسمالية وما شابهها من مفاهيم الغرب. وهذا يعني انه ليس مهماً كيف يولد النظام السياسي وتحت أي غطاء يعيش. إنما المهم هو ما الذي يقدمه للناس. فإذا كانت نتيجة عشرين عاما من الديموقراطية في العراق أن تصبح كل وزارة ملكا لحزب أو عصابة، وان خريج الجامعة يعمل (حَمَّالاً) في سوق الخضروات كي يعيش في واحدة من أغنى دول العالم في ثرواتها، وأن يضطر المواطن أن يدفع رشوة على وفق تسعيرة شبه معلنة من أجل إكمال معاملة رسمية تتم بتطابق مع النظام والقانون، وأن تعجز الدولة عن تقديم اية خدمة عامة، فلا خير في ذلك النظام أيا كان اسمه!
إن الحديث عن فشل الدولة العراقية منذ عام 2003 في تحقيق أي شيء للمواطن لا يمكن أن يغطيه مقال بل ولا حتى كتاب، لكني أنظر في مرفق واحد وهو الكهرباء، ولا أفعل ذلك لأني سبق لي أن درست الكهرباء في الجامعة، ولكني أفعل ذلك لأنه يخص كل مواطن ولأن الحياة الحديثة لا تسير بدون الكهرباء. فإذا أمكن لنا أن نفهم سبب عدم تمكن حكومة العراق قبل عام 2003 من بناء محطات توليد كهرباء جديدة بسبب حصار الإبادة الذي فرض على العراق منذ عام 1990، فما هو سبب فشل الحكومات المتعاقبة منذ عام 2003 في حل مشكلة انتاج وتوزيع الكهرباء وكان بين يديها كل الإمكانيات المالية والدعم والحماية السياسية العالمية؟؟
إن فشل الحكومات العراقية في عشربن عاما من تحقيق عمل، لا يحتاج لأكثر من خمس سنوات، سببه وجود قرار صهيوني لا يريد للعراق أن يتمكن من إنتاج الكهرباء وتوزيعه بما يسد حاجة العراق في الإستهلاك ويمنعه من إقامة أي مشروع صناعي أو إنتاجي. وقد وجدت إيران في هذا القرار الصهيوني ما يتطابق مع مشروعها الآني فأيدته وكلفت عملاءها بتنفيذه.
إن سبب إيرادي للفشل في تأمين الكهرباء هو أني أوردته كي يكون الدليل على نجاح الصهيونية وفشل إيران. فبرغم ان إيران، كما قلت، توافق على منع العراق من إعادة بناء طاقة إنتاج للكهرباء وشبكة توزيع لها إلا أن هذا القرار ألحق اكبر الضرر بمشروع إيران في العراق كما سأبين. ففي موضوع الكهرباء كما في كل مرفق آخر تمكنت الصهيونية أن تبدو وكأنها لا دور لها وإن كانت هي المخطط والموجه. وتركت اللصوص من رجال إيران، أو من غيرهم ممن هو في موضع المسؤولية، يبدون وكأنهم هم المسؤولون عن الفشل والعجز التام. وهكذا أصبح الشارع العراقي اليوم بكل جمهوره، إذا استثنينا المنتفعين منهم، يُحَمِّل إيران وحدها مسؤولية الفساد المدمر في العراق. ولا أريد بهذا أن أنفي المسؤولية عن إيران فهي شريك كامل في المسؤولية. لكن الصهيونية نجحت في إبعاد أية مسؤولية عنها فاصبحت إيران تتحمل وحدها المسؤولية واللوم. وهذا نصر للصهيونية ذلك أن المحتل الذي خَرَّب العراق وأوجد الفساد وأدامه لم يعد يذكر بسوء وأصبح العراقي يحمل إيران كل تبعية. بل إن الأمر تجاوز حتى طموح الصهيونية في أن العراقيين يقولون اليوم كما قالوا في السابق: حبذا لو تخلصنا أمريكا من هذا! وأعجب العجب أن ذاكرة العراقيين قصيرة فقد سألوا هذا من قبل لكن أمريكا حين جاءت لم تخلصهم من شيء وإنما نقلتهم لعالم الفساد والتخلف والأمية. نعم أعطتهم حرية اللغو لكنها سلبتهم كل شيء بما في ذلك كرامتهم وسلطت عليهم الفاسدين واللصوص.
إن هذه الحقائق يجب ألا تغيب عن ذهن العراقي مهما كان موقفه من إيران ومشاريعها. فلو لم تحتل الصهيونية العراق لما آل الحال الى ما هو عليه الآن مهما كانت أطماع إيران فيه!
إن خسارة إيران في العراق يمكن النظر إليها من بابين:
أولهما عراقي: ذلك ان ترسخ القناعة لدى العراقيين بأن إيران سبب الفساد وديمومته أمر خطير، وكلما طال أمد ذلك كلما صعب في المستقبل إزالة القناعة ذلك لأن التأريخ هو ليس بالضرورة ما حدث فعلا وإنما هو ما اقتنع الناس أنه حدث حتى إذا كان ذلك ليس حقيقة، ثم من يعرف حقيقة ما وقع في التأريخ سوى الله، والله خارج التأريخ. وهكذا فإن ديمومة الفساد في العراق سوف تصبح في تأريخ العراق مقبولة على أنها نتيجة لهيمنة إيران عليه سواء أكان ذلك حقاً هو الحال أم لم يكن. وليس في مصلحة إيران لا في المدى القريب ولا المتوسط أن ينظر شعب العراق لجارته على أنها أساس نكبته وفساده وتخلفه. ذلك أنه لا شعب العراق ولا شعوب إيران سوف ترحل عن ديارها ولا بد أن يتعلم الاثنان أن يعيشا في جيرة متفاهمة في أضعف الأحوال.
وثانيهما إيراني: ذلك أن دعم وتاييد الدولة الإيرانية للعراق المهلهل والمذهبي والعرقي والعشائري والمناطقي والأمي والمتخلف سوف يحرك شعورا مماثلا بين القوميات والمذاهب والحركات الإجتماعية في إيران والتي يفوق عددها ما يقابلها في العراق. فإذا كانت الفدرالية بين العرب والكرد في العراق الصغير مقبولة للدولة الإيرانية فلماذا لا تطالب أربع قوميات غير الفارسية في إيران بالمثل لتكون إيران دولة فدرالية فيها حكومة فدرالية وجيش فدرالي وقضاء فدرالي كصنيعتها في العراق؟ أي ان الدولة الإيرانية لا يمكن أن تعد النظام الفدرالي في العراق حقاً وتمنعه عن الشعوب الإيرانية. وإذا كانت المحاصصة المذهبية والعرقية مشروعة في العراق وترضى عنها وتسندها الدولة الإيرانية فلماذا لا تكون المحاصصة المذهبية مشروعة في إيران وتتقاسم المذاهب السلطة والوزارات كما هو الحال في العراق؟ إن الإدعاء بأن هذا كان إختيارا وطنيا لكل من شعب العراق وإيران أمر مردود لأن دستور كل من البلدين، والذي أنشأ النظام السياسي في كل بلد، كتب دون إستشارة أي من الشعبين. أعرف أن أكثر من قارئ سوف يتململ في مقعده وهو يقول إن كلا من الشعبين صوت على دستوره!
أذكر يوما كنت في حوار مع كاتب بريطاني وذكر لي أن اعتراضي على دستور عام 2005 في العراق مردود لأن الشعب صوت على الدستور بفتوى المرجعية. فكان ما قلته له هو ما يلي: اعطني نصف مليون جندي صيني في بريطانيا لمدة خمس سنوات وسوف أعطيك برلمانا ودستورا وحكومة في لندن موالية لبكين، كما حدث في فرنسا حين احتلها هتلر. فهذا هو تأريخ البشرية. لم يرد علي الكاتب البريطاني!
فإذا أمكن لإيران أن تتجاوز أثر سياساتها على العراق في العراق فإنه سوف يكون من الصعب عليها أن تكبح كل الحركات العرقية والمذهبية والسياسية التي ستوقظها داخل إيران نتيجة دعمها وتأييدها في العراق لما يشابه طموح تلك الحركات في إيران.
فكيف دعمت إيران الفساد، وهل يمكن لها أن تغير سياساتها في العراق؟
هذا حديث الجزء التالي باذن الله.
عبد الحق العاني
20 آب 2022