كنت قد بدأت، إثر انتفاضة شباب العراق، بكتابة سلسلة تحت هذا العنوان وأخرجت خمسة أجزاء ثم توقفت لأسباب ليس ينفع ذكرها الآن. لكني أعتقد اليوم أن هناك حاجة للعودة والإستمرار في هذا.
وكان السؤال الذي انتيهت اليه في الجزء الخامس هو:
“وهنا لا بد من وقفة متفحصة وموضوعية من أجل استخلاص ما اذا كانت إيران هي التي أوجدت النظام السياسي الفاسد في العراق، أو اذا كانت قد دعمته رغم عدم إيجادها له. واذا لم تكن أياً من الإثنين فما الذي فعلته حيال هذا الوضع.”
وما زال السؤال قائما برغم مرور عامين على كتابتي له في (17/1/2020)، وهو بحاجة لإجابة لأنه يتعلق بما يجري اليوم في العراق.
وحيث إن الموضوع يتعلق بايران فلا بد لي من اعادة شيء مما أفهمه عن طبيعة ايران وما فيها من مظاهر سياسية واجتماعية قد تغيب عن كثيرين من العرب. فقد تعود الصحفيون العرب على قياس ايران بجيرانها من الدول العربية وتعميم الأحكام العربية على مظاهر الدولة الإيرانية. فقد تعود الصحفي العربي على أن يفهم الدولة العربية، أيا كانت، أن تكون في إمرة رجل واحد فمن تابع ما يريده ذلك الرجل أو يقوله فهم سياسة تلك الدولة، وهكذا افترض أن إيران كذلك. لكن الحال في إيران يختلف كثيرا. فإيران دولة عميقة جدا. ويكون من السذاجة الإعتقاد بان قرارها بيد رجل واحد وان تصريحا أو قولا يُعبِّر حقا عما تريده الدولة. ففيها مؤسسات عديدة تشترك في صنع القرار وقد يكون خلقها متعمدا للتعمية عن إجراءات صنع القرار، وقد يكون أنها تطورت كذلك، لكن هذا ليس مهما إنما المهم هو أن ذلك التعقيد قاد الى صعوبة معرفة حقيقة ما تريده إيران أحياناً. ويمكن للمرء أن يخوض في هذا كثيرا لكن ما ينفعني هنا هو ما استخلصته من هذه الحقيقة في أن إيران يمكن إجمالها بأنها تظهر في دولتين: إيران السياسية وإيران الدينية. ولا أعني بهذا تناقضا في الهدف. فكلاهما يطمح في سيادة إيران في المنطقة. فإيران السياسية تعتقد أنها لديها الإرث والمقدرة على السيادة، وإيران الدينية تؤمن أنها هي، وليس العرب، من يقدر أن يعطي الإسلام حقه ومكانته مما يعطيها الحق في السيادة الدينية. وقد تفترق الدولتان في بعض السياسات لكن ما يوحدهما ويحركهما هو هدف إيران في السيادة في المنطقة. ولا أريد الإفاضة في هذا لكني أعطي مثالا واحدا لهذا الإفتراق يعرفه المتابع للحدث. فلم يقم محمد جواد ظريف، وزير خارجية إيران السياسية المفترقة عن إيران الدينية، بزيارة دمشق ولو مرة واحدة رغم زيارته أنقرة عدة مرات. بينما حرص أمير عبد الله يان، وزير خارجية إيران السياسية المتفقة مع إيران الدينية، على أن تكون دمشق أول عاصمة يزورها بعد استيزاره. ومن لم يفهم هذه الدلالة فلا علاقة له بالسياسة وفهمها لا في منطقتنا ولا في أية منطقة ولا يهمني كثيرا ما يعتقده!
ولست أكتب هذا في سبيل إيجاد التسويغ السياسي أو الأخلاقي أو الديني لأي منهما، إنما أكتب ما أستخلصته من متابعتي لإيران في أربعة عقود. لكن الأهم عندي في إدراك هذه الحقيقة هو ليس التمكن من فهم ما حدث ويحدث وإنما هو الحاجة لهذا الفهم من أجل المقدرة على إيجاد سبل فهم السياسة الإيرانية بالإجمال والمقدرة على التعامل معها من قبل جيرانها. حيث إني أعنقد أن من لا يقدر من جيران إيران أن يفهمها بهذا الشكل سوف يجد صعوبة في التعامل معها.
أصل الآن للسؤال. فهل أوجدت إيران النظام السياسي الفاسد والفاشل، بكل معاني هاتين الكلمتين، في العراق؟ والجواب البسيط على هذا هو: لا. لكن إيران شاركت في إدامته والإبقاء عليه. فكيف حدث هذا؟
إن نقطة البدأ في هذا التتبع يمكن أن تكون بداية القرن العشرين أو يمكن أن تكون في خلق دولة إسرائيل أو وصول البعث للحكم. لكن أيا من هذه البدايات لا تنفع كثيرا في الغاية من التتبع أكثر من الإطالة والإعادة. وأكتفي في أن أجعل بداية تتبعي لما حدث في العراق عند قرار الصهيونية تنفيذ مشروعها القديم والرئيس في تغيير الخريطة السياسية في منطقتنا، بالتخلي عن مبدأ إنشاء الدولة الوطنية الذي قررته في اعقاب الحرب العالمية الأولى، وذلك إبتداء بإسقاط المشروع القومي العربي في العراق قبل الإنتقال الى سورية وليبيا واليمن. وقد خرج الإعلان عن بداية تنفيذ المشروع الأمريكي الصهيوني في ما سمي “المشروع من أجل العراق”، وهو موجود على شبكة المعلومات لمن أراد المزيد.
وحاول الصهاينة إظهار غزو العراق وكأنه عمل وطني مشرف يقوم به أبناء العراق الأبرار فأدعوا في ذلك المشروع تشكيل عدد من اللجان تقوم كل واحدة منها بدراسة وضع العراق في ذلك المجال وما يراد أن يكون عليه الحال بعد إسقاط نظام البعث وقيام نظام المحتل الصهيوني. وبرغم أن كل لجنة كانت تدار من قبل خبراء في المخابرات المركزية الأمريكية إلا أنها كان لا بد أن تضم عددا من العراقيين حتى إذا لم يكن لهم أي اختصاص إذ ان المظهر كان المهم لأن المشروع كان معدا باهدافه في تفتيت الدولة العراقية التي نشأت في عشرينيات القرن الماضي. واكتشف الصهاينة ان ذلك الخليط الذي جمعوه من عملائهم ليس فقط لم يكن يمتلك أية كفاءات لكنه لم يكن يمتلك أية قوة بين جمهور العراق مما يمكن الصهاينة أن يعتمدوا عليهم بعد الغزو والإحتلال.
وهكذا وجد الصهاينة أنهم لا خيار أمامهم سوى الإعتماد على عملاء طهران من العصابات المسلحة التي كانت مدربة ومعدة لخدمة إيران للإنتقام من العراق. وهكذا كان. ومن يراجع قوانين بريمر، حاكم العراق بعد الغزو، يجد تفصيل ذلك واضحا مما يغنيني عن الخوض فيه. ذلك لأني أعتقد أن من لم يقرأ القوانين التي شرعها المحتل للعراق فلا قدرة له على فهم ما حدث ويحدث ولا شأن له في الحديث عن العراق.
وانتهى الأمر مرضيا للطرفين فقد تمكنت الصهيونية من حكم العراق منذ عام 2003 كما انها سمحت لإيران أن تفرض هيمنتها على المسرح السياسي العراقي. إذ تمكنت الصهيونية من ضرب المشروع القومي العربي الذي شكل وحده القوة المعيقة للإستحواذ على أرض العرب منذ الحرب العالمية الثانية، بينما تمكنت إيران من الإنتقام لحرب الثمانينيات مع تأمين عدم قيام دولة عراقية قوية قد تشكل في المستقبل العائق الوحيد أمام طموحها في التمكن من السيطرة والتحكم بالمنطقة. فدويلات مجلس التعاون الخليجي هي في حقيقتها أوهام، لا تمتلك أي منها مقومات دولة ولا تعد إيران أيا منها، مهما امتلكت من سلاح، عائقا حقيقيا أمام مشروعها. هذا إلى جانب أن فساد العراق خدم إيران من باب آخر غير منع العراق من بناء دولة قوية سيدة على أرضها، وذلك ما سوف أعرج عليه لاحقا في هذا المقال.
وقد كانت النتيجة الطبيعية في أن شذاذ الآفاق الذين ضمتهم العصابات المسلحة التي دربتها إيران مع حفنة من انصاف المتعلمين التافهين الذين تجمعوا من زوايا الأرض من العراقيين المقيمين لأسباب متعددة خارج العراق، وهم أسوأ أهل العراق، تمكنوا من وضع أيديهم على مرافق الدولة العراقية الجديدة التي شكلها الصهيوني بعد حل الدولة العراقية ومؤسساتها.
ويمكن تسويد عديد من الصفحات عن اسباب إو إستعداد هؤلاء للفساد لكن هذا لا ينفعنا هنا كثيرا. إلا أن قصة هذا الفساد وحقيقته أجملها سيدهم “بريمر”. ففي مذكراته عبارة تشرح وتفضح كل شيء. ولن أنقل النص الذي جاء فمن أراد قراءته فليكلف نفسه مشقة ذلك. لكن ما قاله “بريمر” هو أنه كان يخشى من أعضاء مجلس الحكم الذين اختارتهم الصهيونية أن يسألوه السؤال الصعب عما خطط له الصهاينة للعراق، لكن سؤالهم الوحيد كان: عن البيوت التي سيسكنون فيها والأجور التي كانوا سيتقاضونها أجرا لخيانتهم! وكلهم خونة!
لقد كانت النتيجة مريحة للطرفين الإيراني والصهيوني. فقد نقل الصهاينة العراق من بلد يعتز بنفسه الى بلد يبيع فيه كل مواطن نفسه بثمن بخس. فأصبح الفساد هو القاعدة والفخر، حين كان عارا في السابق أن يوصف الموظف بأنه مرتش. وحين يتحول الشعب الى راش ومرتش فلا خير يرجى له لأن الحق والعدل يضيع في قعر الفساد.
أما إيران فقد وجدت في فساد ساسة العراق الجدد ما يخدمها من بابين. أولهما هو ما أشرت اليه في أن هؤلاء الفاسدين لا يمكن لهم أن يبنوا دولة قوية وطنية قد تعتمد على طاقات العراق التي إعتمدتها النظم السياسية السابقة لبناء بلد قوي قد يقف في وجه إيران.
وثانيهما هو ان إيران وجدت في الوضع السياسي الفاسد الحل الأفضل لتمكينها من تحقيق اختراق للحصار الإقتصادي المفروض عليها في إيجاد سوق في العراق وفي استعمال العراق كمحطة للحصول على الدولار والإستيراد وإعادة التصدير. وقد يسأل سائل كيف تسمح الصهيونية لإيران أن تفعل ذلك. ويبدو ان الإجابة على هذا تكمن في الأولويات. وحيث إن الأولوية هي الإبقاء على عراق فاسد ومقسم وكان ثمن ذلك أن تتمكن إيران من تجاوز جزء من الحصار، فإنه ثمن مقبول.
وهكذا يتضح كيف استمر الفساد في العراق لأنه يرضي المتصارعين عليه. وسوف يبقى الفساد والإنهيار المستمر في العراق ما دام الصراع عليه قائما.
وقد يقول قائل ما هو المستقبل إذن؟
هذا حديث الجزء التالي باذن الله.
عبد الحق العاني
6 آب 2022