كنت قد أوجزت في الجزء الأول من هذا المقال ما الذي أعنيه في قولي (نحن العرب)، وقد لا يكون ذلك التعريف ما يفهمه الآخرون من العبارة أو يُتفق عليه. لكني ما دمت أتحدث في الموضوع فإن حق القارئ عليَّ أن يعرف ما أعنيه في استعمالي للكلمة أو العبارة. وقد أثار دهشتي ما وصلني من تعليق من أصدقاء يهمني كثيراً ما يرونه.
وقد وجدت للسبب نفسه أن أُعَرّفَ ما أعنيه بكلمة (الأوربي) أو (الغربي) والتي تستعمل في عالمنا كثيراً وبشكل متبادل. فالأوربي عندي هو ليس كل إنسان يسكن في الأرض التي اتفق على تسميتها اليوم بالقارة الأوربية. فذلك لا معنى له عندي حيث إن حدود القارة حددت بشكل كيفي كما ان سكان هذه القارة هم خليط من الناس لا يشتركون في اية هُوية. ذلك لأن القول بالأوربي بهذا المعنى لا يختلف عن القول إن فلاناً اسيوي، فهذا لا يعني سوى انه ينتمي لبلد في آسيا. إن كلمة (الأوربي) عندي يجب أن يكون لها مفهوم سياسي وفكري مشترك كي تصبح ذات معنى عند الإشارة لها في هذا الحديث. وحيث إن هذا الحديث الموجز، والذي يؤسفني أن أعترف أني أكتبه بما اقدر عليه من الإيجاز بسبب إفساد مواقع التواصل الإجتماعي لرغبة الناس في قراءة المقالات الطويلة نسبياً، لا يسمح لي بالإستفاضة في بحث خلفية وأسباب تقسيم أوربا الى دوائر سياسية وفكرية، فإني سأكتفي بما استخرجته من أجل تعريفي للمقصود بالأوربي في حديثي كي أصل ذلك بنا وأصله بما يواجهنا هذا الأوربي به.
إن الأوربي عندي هو ذلك الشخص الذي ينتمي للقوم الذين ينحدرون بشكل أساس من القبائل اللاتينية والجرمانية التي استوطنت وسط وغرب القارة الأوربية، والذين اعتنقوا النصرانية بعد تنصر روما بشكل رسمي عام 380م، والذين تمكنت روما من تأليبهم ليجتمعوا ويغزو ويستوطنوا ساحل الأبيض المتوسط في منطقتنا، والذين أسسوا الأساطيل البرتغالية والهولندية والبريطانية والأمريكية فجابت محيطات الكرة الأرضية غازية ومعتدية، والذين غزوا قارات أمريكيا وأستراليا واستوطنوها بعد إبادة سكانها الأصليين بالكامل، والذين أدخلوا الثورة الصناعية في مشروع التوسع والإستغلال والذي أدى بدوره لأكبر الحروب خراباً وقتلاً وتدميراً، والذين طوروا ثورة المعلومات الرقمية لتكون أداة هيمنتهم الجديدة على العالم.
إن الأروبي الذي أعنيه في حديثي هو واحد من القوم الذين أوجزت الإشارة لهويتهم المشتركة وهم اليوم يسكنون الأرض التي تمتد من غرب فينا حتى القارة الأمريكية وتلتف لتشمل أستراليا ونيوزلندة وتعرج على جنوب أفريقيا لتنتهي في فلسطين. وهؤلاء تجمعهم هُوية سياسية وفكرية مشتركة سوف أعرض منها ما يسمح به الحال في حديثي هذا وما يتبعه.
إن اختياري لفينا كخط جغرافي لسكن هذا الأوربي ليس عن طريق الصدفة وليس قولاً اعتباطياً. إنما استعير هنا تعريف المستشار النمساوي (مترنيخ 173-1859) للحضارة حين قال إن الحضارة تنتهي عند مدينة فينا. فقد عبر مترنيخ عن رأي القوم الأوربيين بأن سكان غرب أوربا هم القوم المتحضرون، وكل ما جاء شرق فينا ليس متحضراً. وغاب عن ذهن مترنيخ ومن مثله من ساسة أوربا أن اليونان التي افتخر الأوربي، وما زال، أنه استقى فكره منها هي شرق فينا!
إن تعريفي للأوربي كما أسلفت ليس غريباً حيث يعتقد به الأوربي كذلك كما أوجزه مترنيخ. ودليلي على ذلك هو موقف الأوربي من (السلاف) وهم مجموعة الشعوب والأقوام التي استوطنت شرق أوربا وروسيا الجغرافية. فهؤلاء ما زال الأوربي لا يعدهم منه بل انه اثبت على مدى قرون عداءه ورفضه لهم. ولست أروم أن أبحث في أسباب هذا فهو أمر ليس مهماً لي أكثر من الإشارة له من باب دعم ما أريد قوله. وأعتقد أن الروسي، على سبيل المثال، هو الباحث الذي يرتجى منه أن يأتينا على تفسير لذلك. فالذي تحقق في الواقع هو أن الأوربي أظهر عداءً ورفضاً للروس مستمراً بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي في روسيا كي يكون حجة لذلك العداء. فقد جمع نابليون جيشاً كبيراً وعبر أوربا على الخيل كي يحتل موسكو فانهار على حدودها. ولم يتعلم الأوربي من هذا الدرس فجمع هتلر جبروت ألمانيا ودباباتها ومدفعيتها وطائراتها واتجه لدمار روسيا واحتلالها فحاصر ليننغراد ألف يوم فرده ثبات الروسي الأسطوري. وانهارت روسيا الشيوعية وقامت على أنقاضها روسيا الوطنية الطامعة في أن تكون دولة رأسمالية تؤمن باقتصاد السوق كما يريده الأوربي شرطاً للقبول، لكنها مع ذلك ما زالت مرفوضة من قبل الأوربي. وبرغم أن روسيا تسعى في كل مناسبة للتقرب من اوربا فهي تشير للأوربيين بأنهم (حلفاء) أو (شركاء) إلا ان الأوربي يؤكد في كل مناسبة وغير مناسبة عن عداء روسيا وخطرها عليه، وكأن روسيا هي التي تضع قواعد الصواريخ على حدود باريس أو لندن أو واشنطون وليست هذه الأخيرة هي التي نصبت صواريخها على الحدود الجغرافية لروسيا. وقد حاول من حاول أن يعلل غزو هتلر لروسيا بحجة رفضه للشيوعية، مؤكذا بذلك حقيقة أن الأوربي يعتقد أنه هو وحده صاحب الحق في أن يقرر كيف يمكن لبقية أهل الأرض ان يعيشوا. لكن هذه المحاولة لا تنفع في شرح غزو نابليون لها فلم تكن روسيا القيصرية يومها شيوعية كي تشكل أي خطر فكري أو ثقافي على فرنسا. كما ان هذا التعليل لا يفسر رفض الأوربي لقبول روسيا اليوم بعد أن تخلت عن الشيوعية وأصبحت أكثر المعارضين في العالم لنظام حكم الحزب الواحد.
إن عداء الأوربي للسلافي بالنسبة لبحثي هذا هو تأكيد لقولي إن الأوربي الذي أعنيه يمتلك جذرا سياسيا وفكرياً مشتركاً يستبعد بموجبه حتى ساكن أوربا الذي لا يشاطره ذلك التراث أياً كان سبب ذلك. فقد يكون بوتين ظالماً، لكن أيعقل أن ناتنياهو أقل ظلماً من بوتين؟ فكيف يتعامل الإعلام الأوربي مع الإثنين؟
قبل سنوات دعيت من قبل (البار) الإنكليزي[i] لمحاضرة ألقاها رئيس محكمة الجنايات الدولية. وحاول زميلي الإنكليزي في فترة الإستراحة أن يسأل رئيس المحكمة سؤالاً ربما دار في أذهان كثير من الناس، وفحواه كان: أيمكن لك أن تتصور يوماً يقف فيه توني بلير أمام محكمتكم للإجابة عن تهمة غزو وخراب العراق؟ فكان جواب رئيس المحكمة أن انفجر ضاحكاً!
لكن ذلك الأروبي حين غضب على تمرد السلافي ميلوسوفتش (رئيس صربيا) فإنه شكل له محكمة خاصة خلافاً للقانون الدولي، فميثاق الأمم المتحدة لا يجيز لها أن تشكل محاكم، ثم أهانه وأذله، ليس فقط من أجل تأديب السلافي حسب ولكن من أجل تخويف كل رئيس غير أوربي وإفهامه أنه هو الأوربي الذي يضع وحده قواعد القانون ويغيرها كما يشاء، بل إنه هو الذي يضع المعيار الأخلاقي لسلوك الآخرين حتى إن قوانين حقوق الإنسان يعدلها حين يشاء لأنه هو مانح تلك الحقوق، وهي ليست كما يظن “الساذجون” جزءً أصيلاً من كرامة الإنسان!
هذا بالنسبة لي هو التأريخ ومن لا يفهم التأريخ لا يفهم الحاضر ومن العسير عليه أن يستشرف المستقبل.
سأحاول في الأجزاء القادمة أن أكتب عن كيف اختارنا الأوربي أعداء له، وكيف كانت المواجهة والى أين نسير..
للحديث صلة…..
[i] البار الإنكليزي هو الجمعية التي تضم المحامين الإنكليز المجازين بالترافع أمام القضاء. وهي بهذا تختلف عن جمعية المحامين الإنكليزية التي تضم في عضويتها محامي المتابعة والذين لا يحق لهم الترافع بشكل عام.