لشد ما أثار دهشتي هذا الصخب حول اشهار عدد من الحكومات العربية تطبيعها للعلاقات مع إسرائيل. فقد كتب الكثيرون وأمتلأت القنوات المرئية والمسموعة بالقصص والإخبار عما فعله فلان بالأمس وما سيفعله علان في الغد القريب. وكأنّ ما حدث غريب، وكان من شدة استبعاده ليشكل مفاجأة للعرب.
وكنت منذ ثمانينات القرن الماضي قد سميت الحسن الثاني ملك المغرب آنذاك “صاحب اليهود في المغرب” لأنه كان أول من اشهر العلاقة مع الصهاينة واستوزر رجالها في حكوماته دون إعلان رسمي. ثم سلمه العرب رئاسة لجنة القدس!
وقد يقول قائل إني بهذا المقال أحاول أن أجد الأعذار لدول الخليج وغيرها المتهالكة على التطبيع. فأقول لمن يظن هذا إني بسبب عدم اعتقادي أن محطات النفط في بحر العرب والخليج تشكل حقائق سياسية تستحق التعليق، فإني لا أعتقد ان ما تفعله أو لا تفعله له أثر في مستقبل الأمة لأنها، أي هذه الدويلات الوهمية، زائلة لا محالة!
وإني لأعجب لهذا العجب! إن ما أكتبه هنا هو ليس جديدا فقد كتبته بالأمس وأكتبه الآن ولا شك سأكتبه غدا ذلك لأني مضطر لذلك حيث يبدو إن ما أقوله إما ليس سليماً أو هو غير مفهوم وفي كلا الحالين أكون خارج الممكن في فهم الواقع السياسي.
ذلك اني لا أريد أن أؤكد البديهية التي يعرفها طالب العلوم السياسية في اية جامعة أمريكية أو بريطانية يدرس أوضاع الأمة العربية، تلك البديهية التي تقول إن النظام السياسي العربي منذ الحرب العالمية الأولى كان وما زال من صنع الصهيونية العالمية التي أوجدت الحكومات ورسمت الحدود وخلقت الكيانات وصنعت الإنقلابات العسكرية واخترقت الحركات السياسية وحين عجزت حاصرت وغزت واحتلت وخربت وجمعت الشذاذ ودربتهم وأطلقتهم ليعبثوا. وووووو.
هذه البديهية يعرفها طالب السياسية في جامعة (معهد لندن للإقتصاد) على سبيل المثال، فأي جزء منها لا يفهمه أو يقبله العربي المتعلم اليوم؟ وإذا كان يفهم هذه البديهية فلماذا العجب إذن؟
إن من المحزن أن عددا ممن أعدهم متنورين مازالوا يعتقدون بالخرافة التي خلقها تشومسكي بأن دولة إسرائيل هي أداة بيد الولايات المتحدة الأمريكية وحين يأتي اليوم سوف تتخلى هذه عن تلك. فحقائق التأريخ تقضي خلاف ذلك. ذلك لأن الصهيونية العالمية كحركة سياسية قادت الإستكبار الإنكلو سكسوني الذي حكم العالم عبر بريطانيا والولايات المتحدة قبل خلق دولة إسرائيل وجاءت بالرؤساء الأمريكيين ورؤساء الوزراء البريطانيين عقدا بعد عقد. وحين أنشأت الدولة فقد أصبح أمر سيادتها هو الهدف الذي وجب على بريطانيا والولايات المتحدة ضمانه حتى إذا كان ذلك على حساب مصالح تلك الدولتين. ولا أريد أن أحول هذا المقال القصير لبحث سياسي وتأريخي في الرؤساء في تلك الدولتين لإثبات ما قلته لكني أكتفي بشاهد واحد يعرفه كل من تابع السياسة الأمريكية في الأربعين سنة الأخيرة. فقد جاءت الصهيونية العالمية بجيمي كارتر رئيسا للولايات الأمتحدة بين شهري كانون الثاني 1977 وكانون الثاني 1981. ولم يفعل كارتر شيئا للفلسطينيين أثناء رئاسته سوى انه أنشأ قوة التدخل السريع في الشرق الأوسط وبنت له السعودية المطارات والقواعد التي انطلق منها غزو العراق. لكنه ما أن انتهت مدته حتى طلع علينا يتحدث عن الظلم الذي لحق الفلسطينيين. وهو لم يكتشف ذلك الظلم بعد انتهاء رئاسته لكن لم يكن بمقدوره أن يفعل شيئا برغم انه كان يمتلك السلطة لعمل ما يشاء. وسبب ذلك انه شأنه في ذلك شأن اي رئيس أمريكي أو بريطاني هو أنه موظف عند الصهيونية العالمية. وربما كان ما كتبه لاحقا شعورا بالذنب ومحاولة للإعتذار عن عمالته.
وهنا أصل للإستنتاج الذي لم أجد أحداً ممن أعرفهم يرضى به. وهو ان التطبيع مع الصهيونية قائم مع كل حكومة عربية سواء أفتحت فيها سفارة إسرائيلية أم لم تفتح. ذلك لأن كل سفارة بريطانية أو أمريكية في كل عاصمة عربية هي سفارة إسرائيلية، فحين يصرح الرئيس جو بايدن بأنه صهيوني، برغم كونه كاثولوكيا نصرانيا، فإن كل سفير يمثله في أية عاصمة عربية سيكون سفيرا صهيونيا.
وهذه الحقيقة لا يغيرها اي تلاعب بالكلمات أو صياغة ألفاظ. إنها عبارة بسيطة مفادها ان من أراد ألا يطبع مع الصهيونية فعليه ألا يطبع مع أدوات الصهيونية في بريطانيا والولايات المتحدة ذلك لأن هاتين الدولتين ليستا سوى من أدوات الصهيونية العالمية.
فالعربي الذي لا يقدر أن يعيش كما يعيش الوطني في كوبا أو كوريا الشمالية عليه أن يكف عن اللغو.