مقدمة
لا شك أن العديد ممن يقرأ هذا السؤال سيرد بالإيجاب ذلك لأن عشرات الكتب قد وضعت، من رجال كتبوا في اللغة والفقه منهم من يعلمون ومنهم من لا يعلمون، وهي تتحدث عن الكلمات الأعجمية الي دخلت القرآن. وقد ذهبوا أبعد من ذلك فنسبوا كل كلمة أعجمية كما يشتهون فتبين أن القرآن قد أخذ فيما أخذ من العبرانية والهندية والفارسية واليونانية والرومية والحبشية والسريانية والقبطية. ويبدو أنهم لم يشركوا الصينية واليابانية والأسترالية وغيرها من لغات أهل الأرض ضمن مصادر ألفاط القرآن لا كرما منهم ولكنهم لم يكونوا قد سمعوا بوجود تلك اللغات. وكان بين هؤلاء الكتاب من كتب عن جهل وضعف إحاطة بالعربية وكان بينهم من يدعي الفقه ويجهل العربية، ويكفي أن يقرأ المرء صحيح البخاري ليعرف مقدار جهل جامع الحديث بلغة العرب. وكان بين من كتب في مصادر ألفاظ القرآن أعاجم بهدف الطعن والإنتقاص من القرآن وإن بدى انهم يريدون خيرا. ولعل أغرب ما في هذا الأمر أنهم لم يفعلوا ما يجب على العالم أن يفعله وهو تحري جذر الإدعاء والنسبة. فهم حين نسبوا كلمة لليونانية مثلا فإنهم لم يأتوا على الأصل اليوناني للكلمة ومعناه حتى يبينوا العلاقة بين الأصل والكلمة المقتبسة. يل إنهم أطلقوها كمسلمات دون تحقق وربما كان قولهم نقلا عن نقل. واشك أن أغلبهم كان يتقن تلك اللغة التي يدعي أن العربية قد استعارت منها. ودليلي على ذلك أن المسلمين الأوائل لو كان يعرفون اليونانية على سبيل المثال لما انتظروا أن يأتي المأمون ليستعين بالسريان ليترجموا كتب العلوم والفلسفة للعربية.
ولن أخوض في من كتب ماذا عن الكلمات الأعجمية في القرآن وما العلة في ذلك. فهذا أمر لا ينفع هنا بشيء.
إن ما أريد أن أبينه هنا هو اني من الذين يعتقدون أنه ليس في القرآن لفظ أعجمي سوى الأعلام والتي لا يمكن أن تأتي إلا كما عرفت في وقتها. أما أية كلمة أخرى في القرآن، غير العلم، فهي عربية أصيلة وقديمة قدم القرآن!
أبدأ أول بإعطاء نماذج لعدد صغير من الألفاط التي زعم أنها أعجمية والأصل الأعجمي الذي أخذت منه. فمن ذلك:
السري: يونانية معناها النهر الصغير
ناشئة الليل: حبشية معناها قام في الليل
طفقا: رومية معناها قصدا
زكاة: عبرانية معناها حصة من المال
بطائنها: قبطية معناها ظواهرها
سورة: سريانية معناها فصل
سجيل: بهلوية معناها الطين المتحجر
السجل: فارسية معناها الكتاب
سندس: هندية هي الرقيق من الستر
ولن أبحث في الخطل في نسبة اية من الكلمات السابقة لأن ذلك قد يبدو من الوضوح بحيث لا يحتاج لتعب، وأعجب كيف يرضى أن يأتي من يأتي بها كنماذج في كتابه.
لكني لا بد لي أن أتوقف عند تأريخ نشوء هذه اللغات التي يقال أن العربية اقتبست منها. فاللغات التي زعم أن القرآن اقتبس منها تنحصر في ثلاث عوائل.
فالعائلة الأولى هي عائلة اللغات السامية والتي تضم الى جانب العربية اللغات العبرية والسريانية والآرامية والحبشية. وهي عندي تضم اللغة اليونانية والتي أؤمن أنها لغة سامية.
والعائلة الثانية هي عائلة اللغات الهندية الأوربية والتي تضم اللغات الهندية والبهلوية والفارسية والرومية، كما تضم اليوناينة إذا كنت تعتقد، كما يقول علماء اللغات الأوربيون، بأن اليونانية كذلك، وهوما لا أقبله ليس لتعصب وانما بعد أن أجريت تحريا عقليا وعلميا يقضي أن الفكر اليوناني هو وليد فكر وادي الرافدين حيث نشأت اللغات السامية.
أما العائلة الثالثة فهي عائلة اللغة القبطية وهي لوحدها تنحدر عن اللغة المصرية القديمة.
وحين نبحث عن الكلمات التي يفترض أن القرآن اقتبسها من تلك اللغات فليس يهمنا كثيرا ما كانت عليه تلك اللغة في عهد آدم قدر ما يهمنا ما كانت عليه وقت نزول القرآن حين وقع الإقتباس المفترض.
فاذا أردنا أن نعرف عن أية لغة هندية أخذ القرآن لكان علينا أن نعرف عن اية هندية يتحدث الكاتب. ذلك لأن اللغة الهندية هي مجموعة لغات ولدت عن اللغة السنسكريتية المقدسة والتي لم يرد عن تأريخها شيء أقدم من عهد بحدود 1200 قبل الميلاد.
أما البهلوية والفارسية فهي عبارات مبهمة ذلك لأن اللهجة البهلوية عرفت بحدود القرن الرابع قبل الميلاد ثم ضاعت اللغة حيث حلت محلها اللغة الآرامية كلغة حضارة في أرض فارس وهي اللغة التي خاطب بها ملوك المجوس السيد المسيح حين جاءوا فلسطين للترحيب بقدومه. واللغة الفارسية الحديثة هي وليدة القرن الرابع الهجري أي إنها ولدت بعد القرآن بقرون فلا يعقل أن القرآن أخذ عنها شيئا، هذا اذا افترضنا أن القرآن محدث كما سوف آتي عليه لاحقاً.
أما اللغة الرومية (والتي نسميها اليوم اللاتينية) فهي لغة حديثة في ولادتها ونشوئها. وهي وإن كانت تشتق أصولها من عوائل اللغات الهندية الأوربية القديمة إلا أن اللغة الرومية التي كانت سائدة عند ظهور القرآن هي مزيج مما سموه اللاتينية المتأخرة بتأثير يوناني ولغات أخرى لقبائل مختلفة استوطنت ايطاليا وما حولها، وهو ما عرف لاحقا باللاتيني المبتذل.
واللغة القبطية كانت عند ظهور الإسلام لغة شبه ميتة فقدت مفراداتها وضاع استعمالها حتى إنها كانت تكتب باليونانية. ولم تستعد القبطية قيمتها إلا في القرن الثامن عشر حين أعيدت الحياة لها وبدأ إهتمام بها وبتأريخها وتجديدها.
فكيف أخذ القرآن من هذه اللغات، كما يقال!
إن التأريخ يعلمنا أن الإقتباس يقع لحاجة المقتبس للتعبير عن كلمة أو فكرة أو حاجة لا يجد في لغته ما يسعفه في التعبير عنها. وهكذا نرى في كل مرحلة تأريخية يقتبس المتخلف من المتقدم لسببين إما لأن لغة المتخلف لا تمتلك المقدرة على التعبير لأنها في تركيبها لغة بدائية لم تشهد التطور الذي أنتج المفردات، وإما لأن القوم فقدوا انتماءهم واضاعوا لغتهم فاضطروا كما يفعل العرب اليوم في استعارة الكلمة الأوربية للتعبير عن حاجة دون أن يدركوا أن هذه الكلمة الأوربية هي في كثير من الأحيان مشتقة من كلمة عربية أصيلة. فلا بد أن يكون اقتباس القرآن لكلمات من هذه اللغات التي أشار لها الكتاب هو لنقص في العربية ولتطور متميز للغات التي كانت حول العرب. لكن لا بد للمرء، ويكفي أن يكون مطلعا وليس عالما، أن يسأل: ترى لماذا احتاج القرآن أن يقتبس من اللغات التي احتك العرب بناطقيها إلا أن تكون تلك اللغات أغني في مفرداتها من لغة العرب حين ظهرالقرآن. لكن العبقري العربي، العماني المولد والعراقي الموطن، الخليل بن أحمد الفراهيدي أحصى في القرن الثاني الهجري أن العربية يمكن لها أن تخرج لنا اثني عشر ألف ألف كلمة. فأي من اللغات المحيطة بلغة العرب كان لها معشار هذا حتى تستجدي العربية منها؟
ولا ننسى أنه عند ظهور القرآن كانت شمال شبه جزيرة العرب محتلة من قبل الفرس والرومان. لكن ذلك لم يجعل لا اللغة الفارسية، والتي كانت حديثة النشوء، ولا اللغة “اللاتينية المبتذلة” لغات سائدة بل إن اللغات السامية كانت هي السائدة في كل شبه جزيرة العرب حتى ان الآرامية كانت لغة الثقافة في بلاد فارس، مما يقضي بعدم الحاجة في وقتها للإستعانة بالدخيل من غير السامي.
ما عمر اللغة العربية؟
إن اللغة، أية لغة، هي نطق قبل أن تكون كتابة فحين خلق تعالى الخلق قال (كن) ولم يكتب ذلك. والكتابة هي رسم. لذلك تغير الخط العربي خلال قرون ولم يتغير معنى الكلمة إلا قليلا ودليل ذلك أن المتعلم العربي مازال اليوم يفهم شعرا عربيا ينسب لعهد يقرب من عهد عاد وثمود. كما إن عددا من اللغات نطق بها أهلها قرونا قبل أن يكتبوها كما هو الحال في اللغات الكردية والتركية من الأقوام التي استوطنت الأرض المحيطة بشبه جزيرة العرب.
واللغة العربية، كما اسلفت، هي من عائلة اللغات السامية التي نطق بها أهل شبه جزيرة العرب منذ عهد نوح. وهذه اللغات، والتي انقرض عدد منها وبقي عدد لأسباب عدة ليس أقلها أهمية أن موسى تكلم بالعبرية وتكلم المسيح بالآرامية وجاء نبينا بالعربية، تشترك فيما بينها بابجديتها وجذور افعال متشابهة ومعان متطابقة للمفردات حتى تكاد تنتهي لقناعة أن أصلها واحد. ولن أحاول البحث في أيهما أقدم وأية لغة أخذت عن أختها فهو بحث صعب لأن الأدلة التأريخية مفقودة. لكن ليس هناك من سبب تأريخي يمنع أن أكثر من لغة سامية نشأت وتطورت في وقت واحد.
وحيث إن شواهد التأريخ من عهد نوح غير مدونة فليس هناك شاهد أفضل من القرآن مما يمكن أن يدلنا على عمر العربية. وهو أمر لا بد أن يقبله حتى من لا يؤمن بالقرآن ما دام ليس هناك من سبب يدعو للشك أو الطعن.
فقد جاء في قصة نوح ودعوته لقومه قوله تعالى في سورة نوح: “قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا، وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا، وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالا”. (نوح/21-24)
فاحتج قوم نوح بآلهتهم (ود، سواع، يغوث، يعوق ونسر). وأول ما يستوقف القارئ أن اسماء الآلهة تلك هي اسماء عربية. ألا يدعو هذا للقبول بأن العربية كانت معروفة من عهد نوح؟ فاذا كان هناك شك في عربية هذه الأسماء فان عبادتها بشكل متواصل ومستمر من عهد نوح حتى ظهور الإسلام لا بد أن يكون للتواصل بين قبائل العرب التي عبدتها طيلة تلك الحقبة من الزمن. أي ان القوم الذين عبدوا تلك الآلهة في عهد ظهور الإسلام هم نسل أولئك القوم الذين عبدوها في عهد نوح. وقد أورد ابن منظور شيئا عن هذه الآلهة في (لسان العرب) فكتب في باب (نسر): “نَسْر صنم كان لذي الكَلاع بأَرض حِمْير، يَغُوثُ لِمذْحِج، ويَعُوقُ لهَمْدان.” وكتب في باب (سوع): ” وسُواعٌ اسم صَنَم كان لهَمْدان، وقيل: كان لقوم نوح، عليه السلام، ثم صار لهُذَيْل وكان بِرُهاط يَحُجُّون إِليه.”
وللحديث صلة..