إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟
إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)
فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)
قل: طلع نجم في السماء
ولا تقل: طلعت نجمة في السماء
شاع بين العرب عامة، وحتى بين أهل العربية، استعمال كلمة “نجمة” حين يراد الإشارة الى “نجم”. وهو خطأ فاحش. وقد يقول قائل ما الضرر في تأنيث “نجم” للتعبير عن مؤنث الجِرمِ السماوي؟ وقد يكون للمعترض حجة اذا لم تكن كلمة “نجمة” معروفة لدى العرب بمعنى آخر. فكيف، والعربية تأمن اللبس، يمكن للقارئ أو المستمع أن يعرف معنى “نجمة” عند الإستعمال؟
قال عز من قائل: “وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى” (النجم/1) فقطع بأن النجم مذكر كما قطع بتأنيث الشمس وتذكير القمر مما لا جدال فيه. فكما انك لا تقول “قمرة” في استحداث مؤنث للقمر فكذلك لا تقول “نجمة” في تأنيث “نجم”.
فماذا قالت العرب في النجم والنجمة؟
كتب ابن فارس في مقاييس اللغة: “النون والجيم والميم أصلٌ صحيح يدلُّ على طُلُوعٍ وظهور. النَّجمُ: طَلَعَ…….. والنّجم الثُّرَيَّا، اسمٌ لها. وإذا قالوا: طَلَعَ النَّجْم، فإنَّهم يريدونها.”
وجمع ابن منظور في (لسان العرب) ما قالته معاجم العربية في النجم والنجمة فكتب: “نَجَمَ الشيءُ يَنْجُم، بالضم، نُجوماً: طَلَعَ وظهر. ونَجَمَ النباتُ والنابُ والقَرْنُ والكوكبُ وغيرُ ذلك: طلَعَ. قال الله تعالى: والنَّجْمُ والشجرُ يَسْجُدانِ……. والنَّجْمةُ نَبْتةٌ صغيرة، وجمعها نَجْمٌ، فما كان له ساقٌ فهو شجر، وما لم يكن له ساقٌ فهو نَجْمٌ…… والنَّجْمُ هنا: نَبْتٌ بعينه، واحدُه نَجْمةٌ وهو الثيل.”
وهكذا يتضح أن العرب استعملت “نجمة” لما ينبت على الأرض دون ساق، وهو استعمال يختلف كثيراً عن الجرم في السماء وان كان يتفق في ان أصل الإثنين هو في كون الفعل “جرم” يعني طلع. وحيث إن جمع كلمة “نجمة” هو “نَجْمٌ” فقد قال أحد المفسرين في قوله تعالى: “والنَّجْمُ والشجرُ يَسْجُدانِ” ان النَّجْمَ يُراد به واحد النجومُ، وجائز أَن يكون النَّجْمُ ههنا ما نبت على وجه الأَرض وما طلع من نُجومِ السماء.
فقل: طلع نجم الصباح
ولا تقل: طلعت نجمة الصباح
قل: جِرْوٌ لِوَلَدِ الكلبِ
ولا تقل: جَرْوٌ لِوَلَدِ الكلبِ
كتب الكسائي: “وتقول جِرْوٌ لِوَلَدِ الكلبِ بكسر الجيم. وكذلك ثوبٌ رِخْوٌ وكذلك رِطْلٌ، للذي يكال فيه. قال الشاعر (وهو عمرو بن أحمر الباهلي):
لها رِطلٌ تكيلَ الزيتَ فيه وفَلاَّحٌ يَسُوقُ بها حِمَارا”
وأضاف المحقق: “ما يذكره الكسائي هنا يخالف ما رواه ابن السكيت في اصلاح المنطق من جواز الفتح والكسر في راء الرطل.”
قل: أعطاه السلطان أماناً
ولا تقل: أعطاه السلطان آماناً
وكتب الصفدي: “ويقولون: أعطاه السلطانُ آماناً، فيمدون. والصواب أمانٌ على وزن فَعالٍ.”
قل: ابتعت عبدا وجارية
ولا تقل: ابتعت عبدا وجارية أخرى
وكتب الصفدي: “يقولون: ابتعتُ عَبْداً وجاريةً أخْرَى، فيوهمون فيه لأن العرب لم تصف بلفظتي آخر وأخرى وجمعها إلا بما يجانس المذكور قبله كما قال سبحانه وتعالى: “أفرأيْتُمُ اللاّتَ والعُزّى. ومَناةَ الثّالثةَ الأخرَى”، وكما قال تعالى: “ومَنْ كانَ مَريضاً أو على سفَرٍ فعِدّةٌ منْ أيّامٍ أُخَر…” فوصف مناة بالأخْرى لمّا جانَسَتِ العُزّى واللاتَ، ووصف الأيام بالأُخَر لكونها من جنس الشهر. والأَمَةُ ليست من جنس العَبْد لأنها مؤنثة وهو مذكر، كما لا يقال: جاءت هند ورجل آخر. والأصل في ذلك أن آخر من قبيل أفْعَل الذي تصحبه مِنْ ويجانس المذكور بعده، ويدل على ذلك إذا قلت: قال الفِنْدُ الزِّمّانيّ وقال آخرُ، وكان تقدير الكلام: وقال آخر من الشعراء. وإنما حذفت لفظة مِنْ لدلالة الكلام عليها وكثرة استعمال آخر في النطق. وأما قول الشاعر:
صَلّى على عَزّةَ الرحمنُ وابنتها | ليلى وصلّى علَى جاراتِها الأُخَرِ |
فمحمول على أنه جعل ابنتها جارة ليكون الأُخَر مِنْ جنسها.”
وكتب ابو الثناء الآلوسي في هذا:
“فيقولون: ابتعت عبدً وجارية أخرى، وابتعت جارية وعبداً آخر، وهو وهم؛ لأن العرب لم تصف بهما إلَّا المجانس. ومنه قوله تعالى: “أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى” [النجم: 19-20]. والأصل في ذلك أن آخر من قبيل افعل الذي يصحبه من، ويجانس المذكور بعده يدل عليه أنك إذا قلت قال هذا الشعر الفِنْدُ. بفاه مكسورة، ونون ساكنة ودال مهملة لقب شاعر من شعراء الحماسة. ومعناه في الأصل: قطعة الجبل العظيمة لقب به لعظم خلقه أو لأنهُ قال لأصحابه يومًا في حرب استندوا إلي فإني لكم فند. وقال آخر كذا؛ فإن التقدير. وقال آخر من الشعراء إلَّا أنهُ حذفت من لدلالة الكلام عليها وكثرة الاستعمال، وأخرى وآخر على قياس ذلك.
وأما قوله:
صلى على عزة الرحمن وابنتها | ليلى وصلى على جاراتها الأُخَر |
فمحمول على أنهُ جعل ابنتها جارة لها، ولولاه لقال بناتها الأخر. وهذا ما قاله كثير من اللغويين والنحويين. قال نجم الأئمة الرضي آخر لا يستعمل إلّا فيما كان من جنس ما تقدم فلا يقال زيد وامرأة أخرى، ولا عبرة بقول بعض النحاة أنهُ يجوز قول فرس وحمار آخر لأنهما من جنس المركوب وقال أبو حيان اختار الزمخشري وابن عطية في قوله تعالى “وَيَأْتِ بِآخَرِينَ” [النساء:133] أن يكونوا من غير جنس الناس، وهو خطأ وكونه من قبيل المجاز كما قيل لا يتم به المراد لمخالفته لاستعمال العرب؛ فإن غيرا تقع على المغاير في جنس أو وصف وآخر لا تقع إلَّا على المغايرة بين إبعاض جنس واحد. وفي الدر المصون أن هذا غير متفق عليه. إلَّا أنهُ يرد على الزمخشري ومن وافقهُ أن آخرين صفة موصوف محذوف، والصفة لا تقوم مقام موصوفها إلَّا إذا كانت خاصة نحو مررت بكاتب، أو دل الدليل على تعيين الموصوف. وهنا ليست بخاصة فلا بد أن تكون من جنس الأول لتدل على المحذوف. وقال ابن يسعون والصقلي وجماعة أن العرب لا تقول مررت برجلين وآخر لأنهُ إنما يقابل بآخر ما كان من جنسه تثنية وجمعًا وإفرادًا. وقال ابن هشام في تذكرته هذا غير صحيح لقول ربيعة ابن مكدم:
ولقد شفعتهما بآخر ثالث | وأبى الفرارَ عن العداةِ تكرمي |
وقال أبو حية النميري:
وكنت أمشي على ثنتين معتدلًا | الشجر |
فصرت أمشي على أخرى من الشجر
وإنما يعنون بكونه من جنس ما قبله أن يكون الموصوف بآخر في اللفظ أو التقدير يصح وقوفه على المتقدم الذي قوبل بآخر على جهة التواطيء، ولذلك لو قلت جاءَ زيد، وآخر كان سائغًا؛ لأن التقدير ورجل. وكذا اشتريت فرساً ومركوباً آخر سائغ. وإن كان المركوب الآخر جملًا لوقوع المركوب عليها بالتوطيء؛ فإن كانت حقيقتهما واحدة جازت المسألة بلا كلام. نحو: قام أحد الزيدين وقعد الآخر. وإن لم تكن حقيقتهما واحدة لم تجز؛ لأنهُ لم يقابل بهِ ما هو من جنسه نحو رأيت المشتريَ والمشتريَ الآخر تريد بأحدهما الكوكب وبالآخر مقابل البائع. وهل يشترط مع التواطيء اتفاقهما في التذكير فيه خلاف. فذهب المبرد إلى عدم اشتراطه فيجوز جاءت جارتك وإنسان آخر واشترطه ابن جني. والصحيح ما ذهب إليه المبرد بدليل قول عنترة:
والخيل تقتحم الغبار عوابساً | من بين منتظم وأخرى تنظمُ |
ومثلهُ في ذلك بيت الأصل إذ قوبلت فيهِ أُخر وهي جمع بابنتها وهو مفرد. واشتراط تقدم ما هو من جنسه هو المختار وقد يستعملونه من غير أن يتقدمه شيء من جنسه، وزعم أبو الحسن أن ذلك لا يجوز إلَّا في الشعر. فلو قلت: (جاءَني آخر) من غير أن تتكلم قبله بشيء من جنسه لم يجز. ولو قلت: (أطلت رغيفًا)، و(هذا قميص آخر) لم يحسن. وزعم السهيلي أن أخرى من قوله تعالى: “وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى” [النجم: 20] استعملت من غير أن يتقدمها شيء من صنفها؛ لأنه غير مناة الطاغية التي كانوا يهلّون إليها بقديد، فجعلت ثالثة العزى واللات وأخرى لمناة التي يعبدها عمرو بن الجموح وغيره من قومه مع أنهُ لم يتقدم لها ذكر. والصواب عندي أنه جعلها أخرى بالنظر إلى اللات والعزى. وساغ ذلك لأن الموصوف بالأخرى، وهو الثالثة يصح وقوعه على اللات والعزى، ألا ترى أن كل واحدة منهم ثالثة بالنظر إلى صحابتها، وإنما اتجه هذا عندي لما ذكره أبو الحسن من أن استعمال آخر واخرى من غير أن يتقدم صنفهما لا يجوز إلَّا في الشعر. وفي المسائل الصغرى للأخفش آخر لا تستعمله العرب إلَّا فيما هو من صنف ما قبله. فلو قلت: (آتاني صديق لك وعدو لك آخر)؛ لم يحسن: لأنه لغو من الكلام. وهو يشبه (سائرًا وبقية وبعضًا) في أنه لا يستعمل إلَّا في جنسه. فلو قلت: (ضربت رجلًا، وتركت سائر النساء) لم يكن كلامًا.”
وكتب الحنفي: قال الإمام أبو عبد الله حمزة بن حسن الأصبهاني: من أغلاطهم: الغلام والجارية، يذهبون إلى أنّهما العبدُ والأمَةُ. وليس كذلك، إنّما الغلام والجارية: الصغيران. وقيل: الغلام: الطّارُّ الشارب.
قل: أهل الفِلاحة
ولا تقل: أهل الفَلاحة
كتب الحنفي: “قال الصقلي: يقولون: أهل الفَلاحة، بفتح الفاء. والصواب كسرها، لأنّها صناعة من الصناعات كالزراعة والحراثة، والفَلحُ شقُّ الأرض. في القاموس الفَلاحة، بالفتح: الحِراثة. وفي مختار الصحاح: والفِلاحة بالكسر: الحراثة. ولعلّه هو الحقُّ.”
وفوق كل ذي علم عليم!
وللحديث صلة….