إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟
إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)
فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)
قل: بعد حِقْبةٍ من الزمن
ولا تقل: بعد حَقَبَة من الزمن
استمر المذيع قائلا “بعد حَقَبة” وكانه واثق من سلامة التعبير. ولو كان الخطأ في تغيير حركة حرف لهان الأمر لكنه يختلف حين يؤدي النطق بحركة مختلفة الى معنى مختلف كما هو الحال هنا.
فكلمة “حَقَبَة” هي جمع “حاقب”، كما في كفرة جمع كافر وحلقة جمع حالق. وهذه أي حَقَبَة هي اسم الفاعل من الفعل “حَقَب”. فما معنى هذا الفعل؟
فقد كتب ابن فارس في مقاييس اللغة في باب “حقب”: “الحاء والقاف والباء أصلٌ واحد، وهو يدلّ على الحبْس. يقال حَقِب العام، إذا احتبس مطرُه…. وحَقِب البعيرُ، إذا احتبسَ بولُه”. وكتب ابن فارس في لسان العرب: “والحاقِبُ: هو الذي احْتاجَ إِلى الخَلاءِ، فلم يَتَبَرَّزْ، وحَصَرَ غائطَه”. ولا علاقة لهذه الكلمة بما أراده المذيع.
فهو ولا شك أراد كما يريد العديد من المذيعين في زمننا هذا أن يقول “حِقْبَة”. والحِقْبَة بكسر الحاء هي السنة كما قال ابن منظور وجمعها “حِقَب”.
أما الجوهري فقد كتب في الصحاح: “والحِقْبَةُ، بالكسر، من الدَّهْرِ: مُدَّةٌ لا وَقْتَ لها، والسَّنَةُ،”.
فقل “حِقٍبَة” ولا تقل “حَقَبة” اذا أردت الزمن وليس حبس البول أو الغائط.
قل: أغلقتُ البابَ فهو مُغْلَق
ولا تقل: أغلقتُ البابَ فهو مَغْلُوق
كتب الكسائي: “وتقول أغلقتُ البابَ فهو مُغْلَق ولا يقال مَغْلُوق. قال حاتم الطائي:
ولا أقولُ لِقِدْرِ القومِ قد غَلِيَتْ ولا أقولُ لبابِ الدّأرِ مَغْلُوقُ
لكنْ أقول غَلَت للقومِ قِدْرُهُمٌ والبابُ مُغْلَقُ أو فالبابُ مَصْفوقُ”
وأضاف المحقق: “نسبة البيت لحاتم الطائي خطأ بكل تأكيد، فهو لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه واصلاح المنطق والمنصف لأبن جني ولسان العرب (غلق) وهو بلا نسبة في تصحيح الفصيح.” انتهى
وأرى ما قاله المحقق سليما ولو من نظرة عقلية. ذلك لأنه لم يعرف أن حاتم الطائي كان معنيا باللغة ومشاكلها والتي لم يكن في يومه الكثير منها. أما أبو الأسود الدؤلي فقد كان مهتما باللغة والنحو كما هو معروف مما يجعل نسبة البيتين له مقبولة حيث يتضح أنه أراد منهما تصحيحا لخطأ لغوي كان سائدا في وقته. واذا كان الكسائي لم يتحقق من قائل البيت برغم التقارب الزمني، فكيف للقارئ اليوم أن يتحقق من صدق أي خبر او رواية نقلها الأولون؟
قل: هذا يومٌ مَغْيُومٌ
ولا تقل: هذا يَوْمٌ غَائِمٌ
كتب الكسائي: “وتقول أصحوٌ هي أم غَيْمٌ؟ ويقال يَوْمٌ غَيْمٌ. قال الشاعر:
كَمْ من زَمانٍ قَد عَمَرْتُ حَرْسَا
يَوْمَيَنِ غَيْمَينِ ويَوْمَاً شَمْسَا
نَسْتَأنِفُ الغَدَّ ونُمْضِي الأمْسَا
ويقال: هذا يومٌ مَغْيُومٌ أيضاً. قال علقمة:
حَتَّى تَذَكَّرَ بَيْضَاتٍ وهَيَّجَه يَوْمُ رَذَاذٍ عليه الرِّيحُ مَغْيُومُ”.
قل: هو رجلٌ رَبْعَة
ولا تقل: هو رجلٌ رَبْعٌ
واضاف ثعلب بعد الكتابة في باب ما يقال للمؤنث دون هاء وما يقال في وصف المذكر بالهاء باباً آخر في ما يقال للمذكر والمؤنث بالهاء فكتب: “قالوا: رجلٌ رَبْعَة وامرأة رَبْعَة (لا طويل ولا قصير) ورجلٌ مَلُولَة وامرأة مَلُولَة، ورجل فَرُوقَة وامرأة فَرُوقَة (كثير الفزع)، ورجل صَرُورَة وامرأة صَرُورًة (للذي لم يحج)، ورجل هُذَرَة وامرأة هُذَرَة (للكثير الكلام)، ورجل هُمَزة لُمَزة وامرأة هُمَزَة لُمَزَة (وهو الذي يعيب الناس في حروف كثيرة).”
قل: أكدّت الأمر والوصية والكتاب أؤكده تأكيداً ووكدّتها توكيداً
ولا تقل: أكدّت على الأمر وعلى الوصية وعلى الكتاب
كتب مصطفى جواد: “وإنما تستعمل على للإنسان المأمور بالفعل والعمل. تقول: أكدّت على فلان الأمر وأكدّت على فلان الوصية وما أشبه ذلك.
يقال تأكّد عندي الأمر وتأكّد عندنا الخبر فالأمر متأكّد والخبر متأكّد، ويقال قياساً على كلام العرب “تأكّدت الأمر” و “تأكّدت الخبر” قياساً على قول العرب “تبيّنت الأمر وتحقّقت الخبر وتعمّدت الإعراض وتحرّيت الحقيقة” فما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم.
ولا يقال: تأكّدت من الأمر ولا تأكّدت من الخبر ولا تأكّدت من المبلغ.
قل: مَثَلُهُ كمَثَلِ
ولا تقل: مَثَلُهُ كمِثْلِ
وكتب عبد الهادي بوطالب: هذه صيغة أخرى تستعمل للتشبيه، يفتح فيها الميم والثاء من كلمة مَثَل بخلاف سابقتها(مِثْل). والمثَل هو نظير الشيء وشِبْهه.
وقد ورد هذا التعبير كثيرا في آيات القرآن الكريم. ومن بينها قوله تعالى: “فمَثَلُه كَمَثَل الكَلْب إن تحمِلْ عليه يَلْهث أو تتركْه يَلْهَثْ”. “فمثَله كمثَل صَفْوانٍ عليه تراب”. “مَثَلهم كَمَثَل الذي استَوْقَد نارا”.
ويلاحَظ في هذه الآيات تكرار لفظ المثل (بفتح الميم والثاء) مسبوقا بكاف التشبيه لكن ورد في آيات أخرى الاقتصار على لفظ مَثل مبدوءا بحرف كاف التشبيه بدون تكرار لفظ مَثَل وذلك في قوله تعالى : “إنما مَثَل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء” وهذا يعني “مَثَل ماءٍ أنزلناه” وقوله: “مَثَل الذين كفروا بربهم أعمالُهم كَرَمادٍ” (أي مَثَل رماد) وقوله : “واضرب لهم مَثَل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء”.
وأقترح أن لا يعوض في هذه التراكيب لفظ مِثْل بلفظ مَثَل اتباعا لنهج القرآن وتوحيدا للغة العربية.
وقد يردُّ عليَّ البعض فيقول ولماذا لا نقول في هذه التراكيب مِثْلُه مِثْلُ كذا لأنه لم يرد في المعاجم اللغوية التفريق بينهما، وأقول رغم ذلك يحسن التفريق بين التعبيرين لتوحيد اللغة ما أمكن ولنبتعد بها عن الفوضى. وهذا هو منهجي في هذا الكتاب.
وما دمنا نتحدث عن المِثْل والمَثَل فلْنذكر أن المثل بفتح الميم والثاء يطلق على “جملة مفيدة من المقولات تُقتَطع من كلام وتُنقَل مما وردت فيه إلى مشابهه بدون تغيير”. ومن هذه الأمثال العربية مثال : الجارَ قبل الدار” ولا يجوز النطق بالجار مرفوعا لأنه مفعول به منصوب بتقدير فعل احترِم الجارَ. والأمثال لا يتغير فيها لا لفظها ولا شكل حروفها.
ومن أمثال العرب : “الصيفَ ضيَّعْتِ اللَّبَنَ (بفتح الفاء دائما في آخر كلمة الصيف على أنه ظرف زمان) وبكسر التاء في ضيَّعْتِ لأن الخطاب في الأصل كان موجها لأنثى. والمطلوب المحافظة على المَثَل كما كُتب أو نُطق به من صاحبه.
والمِثْل، والمَثَل، والمِثال ليس لها معنى واحد. فالمِثال هو القالَب الذي يُقدَّر على مِثْله ونقول: “أعطى مثالا ساميا”. و”فلان تلميذ فلان يُعمَل على مثاله” (ولا نقول على مَثَله بالفتح أو مِثْله بالكسر والسكون). ونقول : “ضرب مثلا” ولا نقول مثالا. ففي القرآن الكريم : “وضرَب لنا مثَلا ونسِيَ خَلْقه”.
وحينما نتحدث عن المَثَل بمعنى المقولة العربية نقول : “أورد مَثَلا من أمثال العرب”، ولا نقول من أمثلتهم. فهذا جمع مثال، ونقول: “فلان أصبح في الذكاء مَضْرِب الأمثال” أي يُضرَب به الْمَثل.
قل: هذا أمر يعرفه الوارد والصادر
ولا تقل: هذا أمر يعرفه الصادر والوارد
كتب الحريري: “ويقولون: هذا أمر يعرفه الصادر والوارد، ووجه الكلام أن يقال: الوارد والصادر لأنه مأخوذ من الورد والصدر، ومنه قيل للخادع: يورد ولا يصدر، ولما كان الورد تقدم الصدر وجب أن تقدم لفظة الوارد على الصادر.
ويماثل قولهم: الوارد والصادر قولهم: القارب والهارب، فالقارب الذي يطلب الماء، والهارب الذي يصدر عنه.”
قل: قد طَرَّ شاربه (بفتح الطاء)
ولا تقل: قد طُرَّ شاربه (بضم الطاء)
كتب الحريري: “ويقولون لمن نبت شاربه: قد طُر شاربه بضم الطاء، والصواب أن يقال: طَر بفتح الطاء، كما يقال: طر وبر الناقة، إذا بدا صغاره، وناعمه، ومنه يقال: شارب طرير، وعليه قول الشاعر:
وما زلت في ليلى لدن طر شاربي ** إلى اليوم أبدي إحنة وأواحن
وأضمر في ليلى لقوم ضغينة ** وتضمر في ليلى علي الضغائن
فأما طُر بضم الطاء فمعناه قطع، ومنه اشتقاق اسم الطرار، وبه سميت الطرة لأنها تقطع. وأما قولهم: جاء القوم طُرّاً فهو بمعنى جاء القوم جميعا، وانتصابه على الحال أو المصدر.
ونقيض هذا الوهم قولهم في النادم المتحير: سَقط في يده بفتح السين، والصواب أن يقال فيه: سُقط في يده بضمها. وقد سمع عنهم: أسقط إلا أن الأول أفصح، لقوله تعالى: “ولما سُقط في أيديهم”.
وفوق كل ذي علم عليم!
وللحديث صلة….