إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟
إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)
فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)
قل: ما أدى لمقتل طفل واصابه 10 مدنيين آخرين
لا تقل: ما أدى إلى ارتقاء طفل وإصابة 10 مدنيين آخرين
شاع في اعلام بلاد الشام بشكل خاص استعمال جديد لكلمة “ارتقى” أو “ارتقاء” لتعني “قتل” أو “مات” أو “توفي”. ولا أدري متى دخل هذا الإستعمال الغريب. لكنك ما أن تسمع اليوم احدى قنوات التلفزة في بلاد الشام أو تقرأ خبراً على موقع من المواقع التي تدعي العروبة حتى تسمع أو تقرأ مثل ما جاءت به قناة الميادين يوم 24 شباط في الخبر أعلاه.
وهذا ليس سوى حلقة من سلسلة العبث بالعربية والإساءة لها بل هدمها عن قصد أوجهل. فليست هناك حاجة لإستحداث استعمال فعل أو مصدر جديد حين يوجد في العربية عدد من المصادر والأفعال التي تفي بالمعنى. وهذا ليس تطور للغة بل هدم لها.
فلم تعرف العرب استعمال الفعل “ارتقى” بمعنى “مات” أو “قتل” حتى يصبح استعمال المصدر ليعني الموت أو القتل.
فهذا ابن منظور يكتب في اللسان: “ورَقِيَ إلى الشيءِ رُقِيّاً ورُقُوّاً وارْتَقى يَرْتَقي وتَرَقَّى: صَعِد.”
أما ابن فارس فكتب كعادته في المقاييس عن استعمال العرب للجذر فقال: “الراء والقاف والحرف المعتلّ أصولٌ ثلاثة متباينة: أحدهما الصُّعود، والآخر عُوذَةٌ يُتعوَّذ بها، والثالث بقعةٌ من الأرض. فالأول: قولك رَقِيتُ في السُّلّم أَرْقَى رُقِيّاً. قال الله جلّ ثناؤه: أَوْ تَرْقَى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ.”
فاذا ادعى متحذلق أن استعمال “ارتقاء” جاء للإشارة بان القتيل صعد للسماء فإن في هذا إسائتين، لله وللعربية. فالإساءة للعربية تأتي من إلزامها بتغيير معانيها من أجل موقف سياسي هي ليست طرفا فيه.
أما الإساءة لله فإن المتحذلق يريد أن يفرض على الله أن القتيل في هذا الوضع لا بد أن يكون في السماء. وهو ولا شك لم يقرأ قوله تعالى: “ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه اخلد الى الارض”. فليس كل من مات رفع للسماء.
فخوضوا فيما تعلمون واجتنبوا ما لاتعلمون.
فقل: مقتل طفل
ولا تقل: أرتقاء طفل
قل: إعمل على حَسَبِ ما أمرتك
ولا تقل: إعمل على حَسْبِ ما أمرتك
ونأخذ مما كتب ثعلب في “باب ما يخفف ويثقل باختلاف المعنى” ما يلي: “تقول: إعمل على حَسَبِ ما أمرتك مثقل وحَسْبُك ما أعطيك مخفف، وجلسَ وَسَطَ الدَّار وجلسَ وَسْطَ القومِ يعني بينهم، والعَجَمُ: حبُّ الزبيب والنَّوى والعَجْمُ: العضُّ، وهو يوم عَرَفَة وخَرَجَت على يدهِ عَرْفَة وهي قُرحَة، وفلان خَلَفُ صدقٍ من أبيه والخَلْفُ من يجيء بعد والخَلْفُ أيضاً الخطأ في الكلام يقال: سكتَ ألفاً ونطَقَ خَلْفَاً.”
قل: إذا ماتت أم الصَّبيُّ فهو عَجِي
ولا تقل: إذا ماتت أم الصَّبيُّ فهو يتيمٌ
وكتب البغدادي في ذيل فصيح ثعلب: “اليتم في الناس: موتُ الأبُّ، وفي البهائم موتُ الأمِّ. فأما الصبي الذي ماتت أمه فهو العَجيّ. فإذا بلغَ الحلم زال عنه اسم اليتم. وكل منفرد عند العرب يتيم ويتيمة، ويقال اصل اليتم الغفلة وسمي اليتيم يتيماً لأنه يُتَغافَل عن برَه. والمرأة تدعى يتيمة ما لم تتزوج وقيل المرأة لا يزول عنها اسم اليتيم.”
قل: هم رجال بائسون شديدو الحاجة
ولا تقل: هم رجال بؤساء شديدو الحاجة
كتب مصطفى جواد: “فلا يقال بهذا المعنى بؤساء لأن البؤساء جمع البئيس أي الشجاع. فالبؤساء هم الشجعان الأشداء وإطلاق صيغتهم هذه على البائسين من الخطأ المبين الذي لا يجوز التسامح فيه ولا التساهل.
جاء في لسان العرب: “ورجُلٌ بَئِسٌ: شجاع، بَئِسَ باساً وبَؤُسَ باسةً. أبو زيد في كتاب الهمز فهو بَئيسٌ على فعيل أي شجاع”. ويأتي البئيس بمعنى الشديد الذي لا يطاق من غير الإنسان. ومن الأمور الصرفية المسلمة أن “بئيساً” يجمع على بؤساء لأنه فعيل بمعنى فاعل. فأنى لمترجم “قصة البائسين” التي لفكتور هوكو الى العربية جمع “البائس على بؤساء”، فلم يرد في كلام العرب المسموع ولم يجز في القياس. وقد شذ جمع الفاضل على فضلاء والشاعر على شعراء والباسل على بسلاء. والحقيقة أن “الفضلاء” جمع “الفضيل” فاستعير للفاضل، وان الشعراء جمع “الشعير” ولكن العرب لن تستعمل هذه الصفة لأنها تلتبس بالشعير من الحبوب المعروفة وأكره ما تكره العرب في لغتها الإلتباس. فالسبب في شيوع هذا الخطأ هو استعمال مترجم القصة المقدم ذكرها لهذا الجمع الذي بعثه وهمه الصرفي على اتخاذه.
وربما قال محتج بان “البئيس” وإن ورد في النصوص اللغوية فليس له واقع لغوي أي استعمال في أدب العرب فهو كالميت ولذلك أخذ المترجم جمعه او استعاره للبائس. فنقول له: لا بل له واقع لغوي، وليس من التطور في شيء قتل لفظ مفرد حي يشاركه في وزنه عشرات الألوف من الألفاظ وسلب جمعه، وشواهد الواقع اللغوي التي قرأناها هي ما ورد في حديث أهل الكوفة المؤيدين للمختار قالوا: فان جامعنا ابراهيم بن الأشتر على أمرنا رجونا القوة باذن الله فانه فتى “بئيس” وابن رجل شريف وله عشيرة ذات عز وعدد، وقال أبو سعيد الصيقل: وقد كان ابن الأشتر جعل على مقدمته الطفيل بن لقيط… وكان شجاعاً بئيساً”. وقال أشياخ من علماء قضاعة: اجتمع بنو رئام ذات يوم في عرس لهم سبعون رجلا كلهم شجاع بئيس. وقال أبو الطيب المتنبي:
في خميس من الأسود بئيس يفترسن النفوس والأموالا
فالبئيس الوارد صفة للإنسان الواحد في هذه الشواهد من الواقع اللغوي يجمع على “بؤساء”، أما البائس فله جمعه المذكر السالم “البائسون”، ويجمع أيضاً مكسراً على “بُؤّس” كرُكّع و سُجّد. أنشد ابن بري:
تَرَى صُواهُ قُيَّماً وجُلَّسا كما رأَيتَ الأُسَفاءَ البُؤَّسا
(والصوى هو ما نصب من الحجارة ليستدلّ بها على الطريق.)
قل: أدخلَ الخيطَ في خُرتَةِ الإبرة
ولا تقل: أدخلَ الخيطَ في خَرْتِ الإبرة
كتب الزبيدي: ” ويقولون لثقب الإبرة “خَرْت” والصواب “خُرتَة” الإبرة و “خُرْتُها”
وجمع “الخُرت” “أخْرات”، وكذلك “خُرْت” الفأس. وقد يجمع على “خُروت” أيضاً. ويقال: جملٌ مَخروت الإنف إذا خَرَتَه الخشخاش…… والخِرِّيت: الدليل، يقال إنما سمي خِرِّيتا لأنه يهدي لمثل خُرت الإبرة، وقال المرار:
عَلى صَرْماءَ فيها أصْرَماها وخِرِّيتُ الفلاةِ بها مَلِيلُ” انتهى
وجاء في لسان العرب: “الصرماء: الفلاة من الأرض… والأصْرمانِ: الذئب والغُرابُ لانْصِرامِهِما وانقطاعهما عن الناس… ويقال رجل مليل للذي أحرقته الشمس، وقول المرار:
على صرماء فيها أصرماها وخريت الفلاة بها مليل
قوله: وخريت الفلاة بها مليل أي أضحت الشمس فلفحته فكأنه مملول في الملة. الجوهري: والمليلة حرارة يجدها الرجل وهي حمى في العظم ”
قل: وفيها جنان لا تعد
ولا تقل: وفيها أجنة لا تعد
كتب المقدسي: “ويقولون للبساتين: الأَجِنَّةُ. وصوابه: الجِنان، الواحدة جَنَّة. وإنما تأتي الأِجِنَّةُ جمع جِنان، أو جمع جَنِين، وجمعُ الجمعِ مقصورٌ على السماع ولا يُقاس عليه.”
قل: وضع الخبراء خُطَّة خُماسية
ولا تقل: وضع الخبراء خِطَة خُماسية
وكتب عبد الهادي بوطالب: “ويدلاَّن معا على النهج والطريقة. لكن الأكثر استعمالا هو ضم الخاء. والمغاربة لا ينطقون بها مكسورة الخاء إلا نادرا. لكن في المشرق العربي تُسْتَعمَل مضمومة الخاء في الأغلب وقليلاً مكسورة الخاء.
ونقول : “وضع الخبراء خُطَّة اقتصادية لخمس سنوات”. ونختصر هذا التعبير فنقول : “وضع الخبراء خُطَّة خُماسية”، أو “خطة خَمْسية”. أي تُنفَّذ في خمس سنوات. وبضم الخاء تجمع جمعاً قياسياً على خُطَط (بضم الخاء وفتح الطاء) (على وزن فُعْلة وفُعَل) كقُبْلة وقُبَل، وصُدْفة وصُدَف، ونُكْتة ونُكَت.
أما خِطَّة بكسر الخاء فجمعها خِطَط، بكسر الخاء وفتح الطاء. وهو جمع قياسي (على وزن فِعْلة وفِعَل) كحِصَّة وحِصَص، وعِبْرة وعِبَر.
ومن الخطأ زيادة ألف المد في الجمع، فلا يقال خِطاط لا في جمع خُطّة ولا في جمع خِطّة.
وأفضِّل أن تتوحد لغة الإعلام على استعمال الخُطة بضم الخاء فقط، في سعي مني إلى توحيد استعمال الكلمات العربية ما أمكن، خاصة ولم ترد كلمة خِطة (بكسر الخاء) في جميع معاجم اللغة.” انتهى
وأظن أن “بو طالب” لم يصب في هذا. حيث إن كلمة خِطة (بكسر الخاء) وردت في أمهات معاجم اللغة.
فهذا ابن منظور يكتب في لسان العرب: والخِطُّ والخِطَّةُ: الأَرض تُنْزَلُ من غير أَن ينزِلها نازِلٌ قبل ذلك. وقد خَطَّها لنَفْسِه خَطّاً واخْتَطَّها: وهو أَن يُعَلِّم عليها عَلامةً بالخَطِّ ليُعلم أَنه قد احْتازَها ليَبْنِيَها داراً، ومنه خِطَطُ الكوفةِ والبصرةِ.”
وهذا الجوهري يكتب في الصحاح: ” والخِطَّةُ بالكسر: الأرضُ يَخْتَطُّها الرجلُ لنفسه، وهو أن يُعْلِم عليها علامةً بالخَطِّ ليُعْلَمَ أنَّه قد اختارها ليبنيَها داراً.”
وهذا الفيروزأبادي يكتب في القاموس: ” وخط الخِطَّةَ: اتَّخَذَهَا لنفسهِ، وأعْلَمَ عليها.”
وهذا الحسن بن محمد الصغاني صاحب العباب الزاخر يكتب: “واختط الرجل الخِطة: اتخذها لنفسه وأعلم عليها علامة بالخط ليعلم أنه قد احتازها ليبنيها داراً.
وهذا ابن فاس يكتب في المقاييس: ” ومن الباب الخِطَّة الأرض يختطُّها المرءُ لنفسه؛ لأنّه يكون هناك أثرٌ ممدود.”
فما هي المعاجم التي أغفلت كلمة “خِطة”؟ لكن يبدو أن “بو طالب” خلط بين الإثنين فقرر الإستغناء عن “خِطة” والإبقاء على “خُطة”. لكن لكل معناه واستعماله والدعوة للإستعمال السيلم لكلمة “خُطة” لا يقود للإستغناء عن استعمال “خِطة”.
قل: ما شَعَرْتُ بالخبر
ولا تقل: ما شَعُرْتُ بالخبر
كتب الحريري: “ويقولون ما شعرت بالخبر، بضم العين، فيحيلون المعنى فيه، لأن معنى ما شعرت بضم العين، ما صرت شاعراً، فأما الفعل الذي بمعنى علمت، فهو شعرت بفتح العين. ومنه قولهم: ليت شعري، أي ليت علمي. وعند الفراء أن لفظة شعري مصدر مثل علمي، وفي الكلام محذوف ترك إظهاره لكثرة استعمال هذه اللفظة، وتقدير الكلام: ليت علمي، بلغه خبر فلان.
وقال ثعلب: بل المصدر، من شعرت هو شعرة مثل فطنة، فحذفت الهاء منه للإضافة، كما حذفت في قولهم للزوج الأول: هو أبو عذرا والأصل أبو عذرتها، ومثله قوله تعالى: “لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة ” لأن الأصل اقامة، فحذفت منه الهاء للإضافة.”
قل: بَصُرْتُ بالأمر
ولا تقل: أبْصَرْتُ بالأمر
وكتب البغدادي في ذيل فصيح ثعلب: “وتقول: بَصُرْتُ بالأمر (بالضم) بمعنى علِمتُ، فأما أبصرتُ فبالعين. ومثله شَعَرتُ بكذا (بالفتح) بمعنى علمت. فأما شَعُرْتُ (بالضم) فبمعنى صرت شاعراً.” انتهى
وقد لا يكون لمثلي من المتأخرين أن يرد على البغدادي. لكني أجدني في حيرة من أن أجمع بين ما كتبه البغدادي عن الفرق بين “بصر وأبصر” وبين ما جاء في القرآن الكريم في قوله عز من قائل: ” قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من اثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي”. ذلك لأن السامري لم يرد في قوله “بصرت” أنه “علم”، كما قال البغدادي، وانما أراد أنه شاهد بعينيه. ذلك لأنه شاهد أن ما سار عليه جبرائيل سرت فيه الحياة فقبض قبضة من التراب الذي وطأه جبرائيل فنبذه في العجل فجرت الحياة في الجماد! وقد يسأل سائل كيف بصر السامري ذلك ولم يبصره الآخرون؟ وهذا أمر ليس هنا مكان الرد عليه.
وفوق كل ذي علم عليم!
وللحديث صلة….
عبد الحق العاني
15 آذار 2018
السلام عليكم
بارك الله فيك أستاذنا على هذا الاتمام بصحّة اللغة العربية . ليت الإعلاميين ،ينتفعون و يرتدعون…