مقدمة
حين كتبت قبل اسابيع مقالي “ما الذي يعنيه انتخاب “ترامب” لنا؟ قلت إن سياسة أمريكا المتوقعة في منطقتنا سوف تتضح معالمها في من يختاره الرئيس الجديد لوزارة الخارجية، وان كان ذلك مؤشراً وليس فيصلاً.
أعود اليوم لأتوقف قليلاً عند ما استجد في هذا.
فقد اختار “ترامب” ثلاثة أشخاص لمناصب مهمة سيكون لها دور رئيس في علاقات أمريكا مع العالم عامة ومعنا خاصة.
فقد اختار “ترامب” حاكمة ولاية جنوب كارولاينا “نيكي هيلي” سفيرة لأمريكا في منظمة الأمم المتحدة. وهي ليست ذات خبرة في العمل السياسي الدولي لكن اختيارها يحمل أكثر من رسالة. فهي امرأة ومن اصل آسيوي فأبويها من الهنود السيخ رغم أنها تزوجت نصرانياً وتنصرت حسب ما أعلنت. وقد يكون “ترامب” ساعياً في تعيينها في هذا الموضع الحساس أن يرد عددا من الإتهامات في تعصبه ضد المرأة وفي العنصرية. وقد يكون طامعاً في أنها ستكون صوتاً مقبولاً في دول العالم الثالث. فبرغم ان ممثل أمريكا في الأمم المتحدة لا يقرر سياستها الخارجية لكن العلاقات بين الناس لها دور في كل شيء. ولا بد من التذكير بان قادة الصهيونية رحبوا بوصول “هيلي” لسببين أولهما دعمها لإسرائيل وثانيهما فهمها لأزمة التطرف الإسلامي، وقد يلعب عامل العداء التأريخي بين المسلمين والسيخ في القارة الهندية دوراً في هذا!
ثم أفسد “ترامب” هذا التطلع لنفس جديد في سياسة أمريكا الخارجية حين اختار “جون بولتن” نائباً لوزير الخارجية. وهو أقبح وجه لسياسة أمريكا الخارجية في القرن العشرين فقد أعلن عداءه للأمم المتحدة حين عمل فيها ممثلاً لبلاده بين عامي (2005 – 2006) مما اضطر قومه أن يوقفوا خدمته لأن أحداً في الأمم المتحدة لم يعد قادراً على العمل معه.
وحيث إن “بولتن” أكثر امريكي عمل في الدولة الأمريكية صهيونية وفي دعمه المطلق لإسرائيل، شأنه في ذلك شأن مارتن إنديك، فقد تكون في اختياره اشارة واضحة للصهيونية أن ليس عليها أن تقلق من اية خطوة مقبلة في سياسة أمريكا في الشرق العربي، فلن يتم الا ما تشتهيه. وقد يكون أول اجراء في ذلك السبيل الإعتراف الرسمي العملي بنقل سفارة أمريكا الى القدس. ولا يظنن احد، كما قال أحد الفلسطينيين الساذجين، ان هذا الإجراء سيشعل المنطقة وما شاكل ذلك من تصريحات عاطفية بائسة لا علاقة لها بواقع الأمة. ذلك لأن الأمة لن تتحرك ما دام قادة شعب فلسطين يؤمنون أن الصهيونية سوف تمنحهم في المفاوضات ما اغتصبته في الحرب، فمن يعتقد هذا فلا يمكن له أن يقود ثورة تشعل الأرض!
لكن الاختيار الأهم والأخطر في سياسة امريكا الخارجية هو في تعيين “ريكس تلرسون” وهو رئيس شركة نفط “اكسون موبايل”، وزيراً للخارجية. وكي نفهم معنى هذا الاختيار علينا أن نتذكر ما الذي جاء بترامب للسلطة وما الذي يمثله مشروعه في الحكم.
فهو يمثل رفض العنصري الذي جاء من غرب وشمال أوربا كي يستوطن القارة ويبيد أهلها لأنه اعتقد وما زال انها أرض الميعاد التي منحها الله له كما منح أرض فلسطين لليهود. ويعتقد نتيجة ذلك أن كل من جاء مستوطناً وغازياً لهذه القارة من خارج أوربا البيضاء مهما كانت كفاءته وطاقته يعيش في أمريكا بفضل وبركة الأوربي الأبيض وعليه أن يقبل بسيادته المطلقة. وهذا التفوق الأوربي في أمريكا لا يتحقق الا بالنظام الرأسمالي الذي يمثله “ترامب” ولذلك فاز في الإنتخابات. فحتى عمال أمريكا العاطلين عن العمل في شيكاغو، على سبيل المثال، يؤمنون بترامب لأنهم لا يعتقدون أن هناك صراعاً طبقياً في النظام بل يعتقدون أن الرأسمالية الأمريكية هي طريقهم للرفاهية.
وهذه الفلسفة السياسية التي تسود فكر النظام الجديد في أمريكا بشكل سافر وقوي تنعكس على سياسة أمريكا الخارجية. هكذا جاء رئيس شركة نفط عملاقة لوزارة الخارجية. حيث ستقوم سياسة الدولة في العلاقات مع العالم على قاعدة اساس هي تأمين النفع المالي لأمريكا أولاً وأخيراً وما سوى ذلك يجب أن يترتب على ضمان هذا أولاً ومن أحسن منفذاً لهذا الهدف من رجل أعمال ناجح قضى عمره في عقد الصفقات وضمان زيادة مستمرة في الإستثمار. إن سياسة ترامب ستقوم على ترسيخ علاقات تدر بالربح على أمريكا، وهو رجل أعمال أولاً وآخراً قضى عمره في تكديس الأرباح، وأول مؤشر على ذلك ما صرح به من أنه لن يستمر في تموين حزب شمال الأطلسي ما لم يساهم أعضاء الحزب بحصص معقولة في كلفة الحلف. فاذا التزم بهذا الأمر حقاً فان حلف شمال الأطلسي سوف يمسي أمراً مختلفاً.
وهذا الموقف لا يمكن أن يتم بمعزل عن ما سيفعله ترامب مع روسيا وهذه السياسة سوف تنعكس مباشرة على منطقتنا لأن أي تقارب أو تباعد بين أمريكا وروسيا ينعكس فعلاً وواقعاً في منطقتنا وقد تكون آثاره أكثر وضوحاً حتى من النتائج في أوربا.
وبرغم كل ما يمكن أن يتحقق خلافاً للتوقعات في التقارب الأمريكي الروسي فان مما لا شك فيه هو أن ترامب عازم على محاولة التفاهم مع الروس من زاوية ضمان مصالح الطرفين. وهو بهذا قد يكون أول رئيس أمريكي منذ الحرب العالمية الثانية فهم الحاجة الحقيقية للتفاهم بين الكبار في ضمان مصالحهم دون احتساب لغو الصبيان من حولهم. وهكذا فلا بد أن يفتح باباً جديداً في التفاهم فكيف سينعكس ذلك علينا؟ سوف أحاول أن أكتب عما سيحدث في ثلاث مناطق لا غير وهي سورية والعراق وجزيرة العرب.
سورية
فأول دولة واكثرها تأثراً بما سيفعله ترامب في المشرق العربي ستكون سورية وذلك لسببين مترابطين وهما التفاهم الروسي الأمريكي المقبل وثانيهما موقف ترامب من الإسلام السياسي عموماً و”داعش” خصوصاً. ذلك ان ترامب خلافاً لمن سبقه لا يرى نظام البعث في سورية العدو الحقيقي ذلك لأنه حين يرى العدو الحقيقي متمثلاً في الإسلام السياسي المعادي لنظام البعث فلا يمكن له أن يعادي الإثنين أي بمعنى أدق لن يكون بمقدور ترامب إلا أن يهادن نظام البعث في دمشق بل ربما يذهب أبعد من المهادنة لحد التعاون في محاربة تطرف الإسلام السياسي. فالعقلانية السياسية تقضي أن أفضل من يخدم تطلع ترامب لمشرق عربي خال من التاثير الإسلامي هو نظام علماني كالذي أقامه البعث في سورية والذي حجم الإسلام السياسي منذ الحرب العالمية الثانية. وليس من قبيل الصدفة أن يتفق الروس مع ترامب على أن هذا هو أفضل نتيجة للمشرق العربي. وقد يختلف الطرفان على آلية تحقيق ذلك لكنهما لن يختلفا في الهدف.
فاذا تحقق هذا التوقع فان أمريكا سوف تتوقف عن الدعم المباشر لأية مجموعة مسلحة تقاتل حكومة دمشق لكن الأهم من ذلك هو أن واشنطن سوف تأمر صبيان السياسة في الدوحة والرياض و أبو ظبي بوقف دعم المسلحين في سورية بالمال والسلاح مما سيعني توقف السلاح ونفاذ الذخيرة في أسابيع. ولن يتم هذا بمعزل عن الإيعاز لتركيا بغلق الحدود مع سورية بوجه الرجال والسلاح والنفط والمال.
وليس من العسير التوقع بان استجابة تركيا ستكون أكثر تعقيداً من حكام جزيرة العرب وتوابعها. ذلك لأن تركيا دولة عضوة في حلف الأطلسي ولأنها قوة اقليمية حقيقية وليست دويلة وهمية ولأن لها حدوداً مشتركة مع سورية ولأن لها أطماعاً في الأرض السورية ولأنها توصلت لبعض التفاهم مع روسيا حول مستقبل مصالحها في سورية ولأسباب عديدة أخر لها علاقة بالتأريخ والمذهب والجغرافية التي رسمتها الحرب العالمية الأولى والتي أنهت الدولة العثمانية. لكني أشك أن ترامب سيكون متعاطفاً مع الأتراك حول سورية فهو ليس معنياً بالجزئيات كثيراً كما يبدو من تصريحاته التي تدور حول مسائل كبرى لذا لن يعنيه كثيراً ما سيكون عليه مستقبل الأتراك أو السوريين ذوي الأهواء التركية في سورية بعد التسوية. كما ان ترامب لن يتعاطف مع أنقرة في أي حال لأنه لا يطمئن لأي نظام يدعي الإسلام فهو يعتقد أن نظاماً كهذا يحمل في طياته بذور الخطر في حضانته للتطرف مستقبلاً وقد أثبتت تركيا أنها احتضنت الإرهاب الذي غزى سورية وقد تحتضن التطرف الذي يهدد أمريكا مستقبلاً وهو ما لا يريده ترامب. إن مستقبل العلاقة بين امريكا ترامب وتركيا أردوغان ليس واضحاً وقد لا يكون سهلاً!
ولا يجد ترامب سبباً لقبول موقف تركيا من الأكراد بشكل عام والذين قد يكونون قوة ضامنة للمصالح الأمريكية ولا يشكلون مصدراً للتطرف الديني كما تبين من الصراع في سورية والعراق، بل على العكس من ذلك.
كما انه لا يمكن أن يفوت على ترامب ان خزين النفط والغاز في سواحل سورية دافع كبير على ان الإستقرار فيها سوف يمكنه مع حلفائه الجدد في روسيا من المشاركة في الإنتفاع بهذه الثروة الجديدة. وقد ينتج عن هذا الإدراك تغير جوهري في سياسة أمريكا في المشرق العربي منذ ثمانينات القرن الماضي والتي قامت على أساس ان خلق الفوضى هو أفضل حال للصهيونية ما دام بالامكان التحكم بتلك الفوضى. فقد يجد ترامب أن الإستقرار السياسي أفضل لمصالح أمريكا الإقتصادية من الفوضى السياسية التي تخدم الصهيونية بكلفة عالية أحياناً للنظام الرأسمالي كما حدث في حالة العراق الذي كلف المواطن الأمريكي جزءاً من قوته!
إن سورية بشعبها وكيانها السياسي سوف تكون أفضل حالاً في حكم ترامب عما كانت عليه في حكم رؤساء أمريكا منذ عهد الرئيس كارتر.
العراق
أما العراق فلن يكون حظه كحظ سورية. ذلك لأن ترامب يرى العراق عبئاً على أمريكا فهو يكلفها ولا يعطيها مقابل ذلك الكثير. كما ان مستقبل العراق غير واضح المعالم. فحتى إذا تمكنت أمريكا بالتعاون مع الروس من استعادة مواقع داعش في الموصل وسورية، والتي لا تعني لوحدها القضاء على حركة الاسلام السياسي، فان ذلك لن ينهي أزمة العراق الأساس في الفساد الذي تمكن من كل مفاصل الدولة والذي لا يمكن استمراره واستمرار الدولة معه.
وترامب لما سبق وقلته ليس معجباً بالإسلاميين في العراق سنة كانوا أم شيعة وسوف يعمل على تغيير النظام طمعاً في قيام نظام علماني كما كان في أيام البعث. وقد يفكر في محاورة البعثيين بهدف البحث في إمكانية دعمهم لقيادة، أو المشاركة في، المرحلة المقبلة. وقد يتحرك ترامب على الشكل التالي. يطلب من العراق وضع جدول زمني لدفع ما يعتقده ديناً لأمريكا والذي وصفه سابقاً بأنه ترليون وثلث ترليون. ولا أظن الرجل يطمح في استرجاع مبلغ كهذا لأن العراق غير قادر عليه. لكن أي مبلغ من مئات المليارات سوف يغير الوضع المالي والسياسي في العراق. وهذا الالزام بدفع الدين والذي لا يقدر أي حاكم في بغداد رفضه سوف يعني سقوط النظام الإقتصادي والسياسي وهو ما يريده ترامب. حيث سيمكنه ذلك من التدخل العسكري المباشر ونصب حكومة عسكرية أو مختلطة تحجم الفساد وتمسك بزمام الأموروتقطع أيدي الاسلاميين أياً كان لونهم. وأكاد أجزم أن العراقيين سوف يهللون لهذا التدخل بل وحتى لحكم أمريكي مباشر للعراق، لأنه في أي حال أفضل لهم مما انتهوا اليه واذا كان فقهاؤهم قد أفتوا بان حكم العادل الكافر افضل من الظالم المسلم فقد يكون الأمريكي الظالم أنفع لهم من المسلم الفاسد!
جزيرة العرب
حين أقول جزيرة العرب فاني أعنى بها كل شبه جزيرة العرب التأريخية بما فيها دويلات النفط التي تسمى دول الخليج، أي بمعنى آخر فان جزيرة العرب هنا ستعني دول مجلس التعاون الخليجي.
وهي التي ستشهد أكبر التغييرات التي قد تمس حتى قواعد وجودها.
فترامب ليس لديه علاقات مالية واقتصادبة مباشرة مع صبيان جزيرة العرب كما كان الحال مع عائلتي بوش وكلنتون مما يمكن لهؤلاء الصبية النفوذ منه لمواقع صنع القرار. لكن الأهم من كل ذلك هو أن ترامب يعتقد أن وجود هذه الدويلات خطأ سياسي ما كان على أمريكا أن تدعمه وتحميه. وكي يخفف من خطر وعبء هذا الخطأ فسوف يتخذ اجراءين بحقها. أولها الزام جميع الدويلات بدفع كلفة القواعد الأمريكية على أراضيها ولن ينجو أحد من ذلك فهي جميعا محميات أمريكية.
أما الإجراء الثاني فهو منع أي من هذه الدويلات من القيام بأية مغامرات عسكرية أو سياسية خارج حدودها كما تفعل حالياً في سورية والعراق. وهذا الإجراء مفهوم تماماً لأن ترامب لا يرغب أن يورط صبيان الجزيرة أمريكا في عمليات لا ترغب فيها ثم تجد نفسها مجبرة على ترتيب الأوضاع لانقاذها. فلن يظهر ترامب كما ظهر بايدن ليقول لنا إن حلفاء أمريكا يدعمون الإرهاب الإسلامي. وهذا المنع يعني وقف دويلات الجزيرة من تمويل الحركات السياسية في انحاء العالم تحت غطاء الدين.
وسوف يطلب ترامب من دويلات الجزيرة أن تسمح للساكنين فيها أو الوافدين اليها بحق ممارسة طقوسهم الدينية علناً وبحماية القانون بل وربما الحصول على الجنسية لمن قضى عقوداً فيها. ولن يكون هذا الطلب غريباً على العالم إذ انه ينطبق مع الشرائع التي اتفق عليها الناس في عالم اليوم ودخلت في كل اتفاقيات حقوق الإنسان. فاذا امتنعت أي منها جاءها ترامب بقرار من مجلس الأمن لا يأخذ دقائق كي يمر. ويومها يجد دعاة الوهابية البائسة أن نهايتهم أصبحت قريبة.
ولا يمكن الحديث عن جزيرة العرب دون الحديث عن أيران وما ستكون عليه سياسة ترامب نحوها، لكن هذا موضوع طويل له مداخل كثيرة قد أعود له لاحقاً.
وفوق كل ذي علم عليم.
عبد الحق العاني
20 كانون الثاني 2017