إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟
إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم.
(م ج)
فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)
قل: أذاب الصائغ الذهب في البُوطَةِ
ولا تقل: أذاب الصائغ الذهب في البوتقةِ
وكتب البغدادي في ذيل فصيح ثعلب: “البُوطة التي تسميها العوام البوتقة”.انتهى
وجاء في العباب الزاخر: “البُوْطَةُ: التي يُذُيْبُ فيها الصّاغَةُ ونَحْوُهم من الصنّاع.”
ويبدو أن كلمة “البوتقة” التي يستعملها اليوم عدد من المتحذلقين العرب يعود استعمالها الخاطئ للقرن السادس الهجري أو حتى قبله. وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟
قل: هذا كتاب مفيد وإن كان صغيراً
ولا تقل: هذا الكتاب مفيد وإن يكن صغيراً
كتب مصطفى جواد: “وذلك لأن فعل الشرط المحذوف جوابه المستغتى عنه بما قبله يجب أن يكون ماضياً، فهذا الشرط غير حقيقي. ألا ترى أن قولك “وإن كان صغيراً” معناه أنه صغير بالتحقيق، فإن أتيت بفعل الشرط المحذوف الجواب مضارعاً كان شرطاً حقيقياً وذلك مخالف للمعنى المراد بفعل الشرط آنفاً وهو التحقيق. وبيان ذلك أن الشرط الحقيقي هو مستقبل الزمان والحدوث وإلا بطلت الإستفادة منه، والزمان والحدوث المستقبلان يوائمان الفعل المضارع لا الماضي. فإن ورد الشرط الحقيقي في الماضي فذلك من وضع فعل في مكان فعل أو لتغليب حدوثه، أو للتفاؤل بحدوثه، مثال ذلك “من خالف النظام عُوقب” و “من صبر ظفر” و “إن شاء الله تكن من الفائزين”.
قل: بقيت عنده إلى ما قبل المغرب
ولا تقل: بقيت عنده إلى قبل المغرب
وكتب اليازجي: “ويقولون أجله في الأمر إلى بعد كذا وبقيت عنده إلى قبل المغرب وإلى لا تدخل من الظروف الغير المتمكنة إلا على متى وأين وحيث وباقيها لا يجر إلا بمن. والصواب إلى ما بعد كذا وإلى ما قبل المغرب.”انتهى
لعل من الغريب أن عالما مثل اليازجي أدخل الألف واللام (ألـ) على كلمة “غير” فكيف أجاز لنفسه أن يعرفها وهي اي “غير” ليست قابلة للتعريف.
قل: أدخل السف في غِمدِه
ولا تقل: أدخل السيف في غَمدِه
كتب الزبيدي: “يقولون “غَمْد” (بفتح الغين) ويجمعونه “أغمِدَة” والصواب “غِمْد” بالكسر والجمع “أغماد”، وقد غَمَدتُ السف أغْمِدُه وأغمدته لغة”.
كتب المقدسي: ويقولون: إذا ارتفعَ الضُّحَى. وصوابُهُ: ارتَفَعَت، لأنّها مؤنثةٌ. وإنّما يجوزُ أنْ يُقالَ: ارتفع، على حدِّ قولِهِ تعالى: “فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ من ربِّهِ”.
قل: استُشْهِد فلسطينيان في اصطدامهما بعُبْوَة ناسفةٍ
ولا تقل: استُشْتهِد فلسطينيان في اصطدامهما بعُبُوَّة ناسفةٍ
وكتب عبد الهادي بوطالب: “سمعت ضمن أخبار الحرب التي شنتها إسرائيل على فلسطين هذا التعبير “استُشْهِد فلسطينيان في اصطدامهما بعُبُوَّة ناسفةٍ وضعتها إسرائيل على الطريق” والصواب عُبوة (بضم العين وسكون الباء).
وبعض المعاجم الحديثة ذكرت عُبُوَّة بضم العين والباء وتشديد الواو. ولم تقر المجامع اللغوية ذلك. (عُبْوة على وزن فُعْلة) آتية من فعل عبا يَعْبو عَبْواً ولا يوجد في الفعل والمصدر تشديد الواو. والبعض يحرف الكلمة فينطق بالعين مفتوحة في حين أن العَبْوة هي نور الشمس.”
قل: فلان واسطة العِقْد
ولا تقل: فلان واسطة العَقْد
وكتب عبد الهادي بوطالب: “لا يفرِّق العديدون بين كلمتي “العِقد” و “العَقد”. فالعَقْد (بفتح العين) هو نقيض الحل. عقد الحبل عَقْدا، وحله حَلاًّ. وكتب العدلُ عَقْدَ الزواج. وعَقْد العمل المبرم بين المشغِّل والعامل. ويطلق العَقْد (بفتح العين) على عدد العشرة فنقول فلان بلغ العَقْد الرابع من عمره، أي بلغ سن الأربعين. أو هو في العَقد الخامس (أي بلغ الخمسين). ويجمع على عُقود والعقد أيضا هو الوثيقة التي تدون فيها شروط الصفقة، ويأتي بمعنى العهد ففي القرآن الكريم : “يا أيها الذين آمنوا أَوْفُوا بالعُقود”. أما عِقْد (بكسر العين) فهو الخيط الذي تُربَط فيه الجواهر أو الأصداف أو قطع الخَزَف ويحيط بالعنق ويعلقه عادة النساء للزينة. ويسمَّى أيضا القِلاَدة.
أطلق ابن عبد ربه الأندلسي على كتابه المشهور اسم “العِقْد الفريد”، أي قِلادة العنق الفريدة، معتبرا أن المعلومات التي وردت في كتابه هي بمثابة جواهر لا مثيل لها جُمعت في عِقدها أي كتابه.
وحين نُشيد بشخص غير عادي أو أفضل من غيره نشبهه بالجوهرة التي تعلو على الجواهر وتوضع في وسط العِقد حتى تتميز عن غيرها وتُلفِت الأنظار إليها فنقول فلان “واسطة العِقْد”.”
قل: عاشت كل حياتها في عُنوسٍ
ولا تقل: عاشت كل حياتها في عُنوسَةٍ
كتب خالد العبري: ليس لهذا المصدر “عنوسة” أصل في اللغة قط، ومن الغرابة بمكان إنتشاره قي لغتنا في العصر الحاضر، إذ المعروف أن مصدر “عَنَسَ”: عُنوسٌ وعِناسٌ لا “عنوسة”. يقول الفيروزأبادي في القاموس المحيط: “وعَنَسَت الجارية عُنُوساً وعِناسَاً: طال مكثها في أهلها بعد إدراكها، حتى خَرَجت من عداد الأبكار ولم تتزوج قطّ”.
ويقول الجوهري في الصحاح: “وعَنَسَت الجارية تَعنُس بالضم عُنُوسَاً وعِناسَاً فهي عانس وذلك إذا طال مكثها في منزل أهلها بعد إدراكها حتى خرجت من عداد الإبكار هذا إذا لم تتزوج فإن تزوجت مرة فلا يقال عَنَسَت”.
وقد نص علماء الصرف على أن المصدر المطرد لـ “فَعَلَ” اللازم: “فُعُولٌ”. يقول الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي في مقاليد التصريف: “فَعَلَ المفتوح اللازم كَذَهبَ وخَرَجَ ودَخَلَ ودَنا قياس مصدره المطّرِد: فُعُولٌ بالضم كالذُّهُوب والدُّخُولُ والدَّنُوُّ وما أشبه ذلك، فهو مقيسٌ ما لم يُجعل له غيرُ ذلك من الأوزان”. ولا أعلم أن من مصادر فَعَلَ اللازم: “فُعُولَة” هذه، إذ أنه لو خَرَجَ عن “فُعُولٍ” فإن مصدره لا يعدو أن يكون واحداً من أربعة: فُعال أو فِعَال أو فَعيل أو فَعلان”.
قل: إصْفارّ وجهه من المرض
ولا تقل: إصْفرّ وجهه من المرض
وكتب الحريري: “ويقولون من هذا النوع أيضا: قد اصفر وجهه من المرض، واحمر خده من الخجل. وعند المحققين أنه إنما يقال: اصفر واحمر ونظائرهما في اللون الخالص، الذي قد تمكن واستقر وثبت واستمر، فأما إذا كان اللون عارضا لسبب يزول ومعنى يحول، فيقال فيه: اصفار واحمار، ليفرق بين اللون الثابت واللون العارض، وعلى هذا جاء في الحديث: فجعل يحمار مرة ويصفار أخرى.”
قل: وضعوا دُستُوراً جديداً
ولا تقل: وضعوا دَستُوراً جديداً
كتب الحريري: “ويقولون: دَستور، بفتح الدال، وقياس كلام العرب فيه أن يقال بضم الدال، كما يقال: بهلول وعرقوب وخرطوم وجمهور ونظائرها، مما جاء على فعلول، إذ لم يجيء في كلامهم فَعلول بفتح الفاء إلا صَعفوق وهو اسم قبيلة باليمامة قال فيهم العجاج:
من آل صعفوق وأتباع أخر **
ويشاكل هذا الوهم قولهم: أطروش بفتح الهمزة، والصواب ضمها كما يقال أسكوب وأسلوب، على أن الطرش لم يسمع في كلام العرب العرباء، ولا تضمنته أشعار فحول الشعراء.
ونقيض هذه الأوهام قولهم لما يلعق: لُعوق، ولما يستف سُفوف، ولما يمص مُصوص، فيضمون أوائل هذه الأسماء، وهي مفتوحة في كلام العرب، كما يقال: بَرود وسَعوط وغَسول.
ومما يشاكل هذا قولهم: تَلميذ وطَنجير وبَرطيل وجرجير بفتح أوائلها، وهي على قياس كلام العرب بالكسر إذ لم ينطق في هذا المثال إلا بفعليل بكسر الفاء، كما قالوا: صِنديد وقِطمير وغِطريف ومِنديل.
وذكر ثعلب في بعض أماليه أن قول الكتاب لكيس الحساب: تَليسة بفتح التاء مما وهموا فيه، وأن الصواب كسرها كما يقال: سكينة وعريسة.
وعلى مقاد هذه القضية يجب أن يقال في اسم المرأة: بِلقيس بكسر الباء، كما قالوا في تعريب برجيس وهو اسم النجم المعروف بالمشتري: برجيس بكسر الباء، لأن كل ما يَعّرب يلحق بنظائره في أمثلة العرب وأوزان اللغة.
وعلى ذكر بلقيس فإني قرأت في أخبار سيف الدولة ابن حمدان أنه لما امتدحه الخالديان بعث إليهما وصيفا ووصيفة، ومع كل واحد منهما بدرة وتخت من ثياب مصر والشآم فكتبا إليه في الجواب:
لم يغد شكرك في الخلائق مطلقا ** إلا ومالك في النوال حبيس
خولتنا بدرا وشمسا أشرقت ** بهما لدينا الظلمة الحنديس
رشأ أتانا وهو حسنا يوسف ** وغزالة هي بهجة بلقيس
هذا ولم تقنع بذاك وهذه ** حتى بعثت المال وهو نفيس
أتت الوصيفة وهي تحمل بدرة ** وأتى على ظهر الوصيف الكيس
وكسوتنا مما أجادت حوكه ** مصر وزادت حسنه تنيس
فغدا لنا من جودك المأكول والمشروب والمنكوح والملبوس
فلما قرأها سيف الدولة قال: لقد أحسنا إلا في لفظة المنكوح، إذا ليست مما يخاطب بها الملوك، وهذا من بدائع نقده المليح، وشواهد ذكائه الصريح.”
قل: وقائع التحقيق الذي أجراه جيش الاحتلال
ولا تقل: وقائع التحقيق الذي تمّ إجراؤه من قبل جيش الاحتلال
ليس هناك حدود لتغرب العقل العربي فلم نعد نستعير الكلمة الأعجمية ونستعملها حتى دون أن نعرف معناها الحقيقي، بل تعدينا ذلك حتى أصبحنا نفكر باللغة الأعجمية ونكتب بها. وهذا أحد النماذج للعبارة الأعجمية التي تغص بها وسائل الإعلام العربي في هذا الزمن البائس. فلماذا يا ترى كتب صانع الخبر في عنوانه ” الذي تم اجراؤه من قبل”؟ ان سبب صياغة العنوان كذلك هو ان الكاتب ترجمه حرفيا عن عبارة اللغة الإنكليزية “that was carried out by“ بينما لا يمكن للسان العربي ان يصوغ الخبر بهذه الصورة الملتوية. فالعربي الفصيح لا يحتاج أكثر من استعمال الفعل “أجراه” ليتم المعنى المطلوب.
وفوق كل ذي علم عليم!
وللحديث صلة….
عبد الحق العاني
15 كانون الثاني 2017