مقدمة
لا يختلف الناس اليوم على ان انتخاب ترامب لرئاسة الولايات المتحدة حدث خطير سيكون له أثر كبير على بلده والعالم كله لما للولايات المتحدة من دور وهيمنة.
ولست قلقاً بما سيحدث في الولايات المتحدة ذاتها بل سأكون سعيداً جداً بكل مشكلة داخلية جديدة لهم لأنها سوف تخفف من غلوائهم وعدوانهم خارج حدودهم.
ولست ساذجاً كما فعل عدد من الكتاب والصحفيين العرب في الحديث عن صعود “اليمين” في أمريكا وكأن كلنتون تمثل “اليسار” حتى نخشى يمين ترامب. ولا أغالى اذا قلت اني أعتقد أن لا غرابة ان تسود الصهيونية علينا إذا كان هذا هو أفضل ما يقدمه المتعلم العربي من بحث وتحليل ساذج. إن ما يكتبه الإعلام الغربي عن قياس “اليمين” و “اليسار” لا يعني شيئاً لنا حيث إن مفهوم هذه الألفاظ مختلف بين الجانبين. وليس كل ما تكتبه الصحافة البريطانية أو الفرنسية مما يجب أن ينسج عليه الصحفي العربي.
كما إني لن أسود السطور حزناً على ما سيحل بالإقتصاد العالمي. فالعربي المسحوق، وجل العرب مسحوقون، لن يضيره شيء اذا عاش الإقتصاد الرأسمالي أو مات. بل قد يكون سعيداً جداً أن يرى لصوص الخليج والجزيرة والعراق وسماسرة لبنان يبكون حظهم العاثر حين تتبخر موجوداتهم في نيويورك أو لندن أو فرانكفورت. فالعربي مفلس، والمفلس في القافلة أمين، لأنه ليس لديه ما يفقده!
لكني سأكتب عن أمرين وجدتهما معبرين عن الواقع الذي جاء للبيت الأبيض برجل من خارج المؤسسة السياسية الحاكمة: وهما التوجه للعزلة الأمريكية وانكفاء العولمة، وما تعنيه هاتان الظاهرتان لنا.
عزلة الولايات المتحدة
إن من حقائق التأريخ التي لا يمكن لأي متابع أن يتجاهلها هي أن الولايات المتحدة (ساشير لها بأمريكا للإيجاز) هي أسرع امبراطورية في النشوء. ذلك أن كل الأمبراطوريات السابقة في التأريخ أخذت قروناً حتى تتمكن. أما أمريكا فإنها أخذت خمسين عاماً بين نهاية الحرب الأهلية وتحولها لدولة متحدة عام 1865 وبين إعلان الرئيس الأمريكي “ودرو ولسون” مشروعه السياسي للعالم عام 1918 الذي أعلن بايجاز مغلف أن أمريكا ستكون شريكاً جدياً للإمبراطوريات القائمة في الحرب العالمية الأولى.
وقد يسأل سائل وما هو الغريب في هذا وقد نشأت الإمبراطورية الأموية في عقود؟
وجواب ذلك يكمن في أن من يبني امبراطورية لا بد أن يعتمد على شعب يمتلك خصائص معينة تمكنه من الإدعاء بمشروعية ما يروم تحقيقه من هيمنة ونشر مبادئ. لكن أمريكا لم تنتج ما يمكن تسميته شعباً أمريكياً. نعم نحن نسمع ونقرأ كثيرا ما يقال ويكتب عن الشعب الأمريكي. لكن ذلك وهم لأن الحقيقة التاريخية هي انه لم ينشأ في أمريكا حتى اليوم شعب أمريكي له خصائص متميزة له.
فأمريكا سواء أقبل الحرب الأهلية أم بعدها ليست سوى تجمع لبؤر غزاة جاؤوا من غرب أوربا بشكل أساس طمعاً في حياة أفضل. ولم يكن يجمع هذه البؤر سوى المصالح الإقتصادية المشتركة التي وفرها خير وطبيعة القارة التي لم تستغل لآلالف السنين. ورغم تفوق العنصر الأنكلو ساكسوني، والذي جعل أمريكا اليوم تبدو كأنها وريثة الإمبراطورية البريطانية، إلا أن وصول المستوطنين الآخرين من بقية أهل الأرض الطامعين بحياة أفضل غير معنيين حتى بالسؤال عن حقهم في الأرض المغتصبة التي يعيشون عليها وما حل باهلها الأصليين من ظلم واجتثاث، خلق تجمعات جديدة لا يجمعها شيء سوى الرغبة في تحسين الوضع الإقتصادي والإجتماعي لكل منها.
وهكذا فان النتيجة هي أن شعباً أمريكياً بالمفهوم الإجتماعي والتأريخي لم يولد في أمريكا مما يجعل الإمبراطورية الأمريكية من اضعف الإمبراطوريات اذا تعرضت لإمتحان الثبات في جذرها.
فليس هناك ما يربط الجندي الأسود، وجذره من عبيد أفريقيا، بالأبيض الذي كان أجداده يعتقدون بحق العبودية حتى منتصف القرن العشرين، حين يقاتل الإثنان معاً في خراب العراق أو أفغانستان سوى ورقة الهوية الأمريكية والضرورة الإقتصادية التي تجمعهما. فاذا زال أي منهما زال الولاء وزال معه الترابط الوهمي بين الإثنين أو بمعنى أدق زالت أواصر الترابط في المجتمع الأمريكي التي يؤكد كل رئيس أمريكي عليها لعلمه الباطن بانعدامها.
فما الذي يربط الإمريكي من أصل بريطاني ويسكن في “بوستن” بالأمريكي الذي يسكن جنوب ولاية كاليفورنيا من أصل لاتيني ولا يحسن الإنكليزية بالسويسري من طائفة “الأميش” الذي يسكن في ولاية بنسلفانيا؟ والجواب هو لا شيء!
إن ادراك هذه الحقيقة مهم جدا لنا وللعالم لأنه يمكننا من فهم ما سيؤول اليه المجتمع الأمريكي من تفكك سريع وما يعنيه لنا نحن ومن على شاكلتنا من شعوب الأرض التي استباح الأمريكيون كراماتهم وحقوقهم في العقود السبع الماضية.
فحين يدرك السادة البيض من الأنكلو ساكسون أن أحلامهم في ديمومة هيمنتهم على المجتمع الذي أسسه “السلف الصالح” أصبحت في خطر فسوف ينتفضون لإستعادة تلك الهيمنة. وهذا ما كشفه فوز “ترامب”. فالرجل ليس سوى أنكلو ساكسوني يشعر بأن دورهم السيادي أصبح في خطر…. فاستخف قومه فأطاعوه. وهو حين خاطب الأغلبية البيضاء التي ينتمي لها انما يكشف عن حقيقة ما يريده هؤلاء القوم من عودة هيمنتهم لبناء أرض الميعاد على القارة الأمريكية كما آمن بها آباؤهم منذ قرون. فالحديث المغلف عن عودة الصناعة لهذه المنطقة أو استخراج الفحم من تلك ليس سوى غطاء للرسالة الصريحة وهي: اننا السادة البيض تعبنا من تدخل الطارئين على حقنا الإلهي في أمريكا!
فحين كان عدد من الساسة والإعلاميين الأمريكيين قبل عشرين عاماً يتحدثون عن هشاشة المجتمع العراقي وكيف أن تنوعه العرقي والطائفي سيقوده للتقسيم كتبت يومها ان المجتمع الأمريكي هو أكثر مجتمعات الأرض هشاشة بل هو أسرعها للتفكك إذا ما استجد أمر يدعو لذلك. واليوم استجد الأمر وقرر البيض استعادة الهيمنة المطلقة وبدأ المجتمع الأمريكي بالتفكك.
وليس من باب النبوءة ان نرى الولايات المتحدة في عشر سنوات وقد تحولت لأكثر من جمهورية. ولن أطيل الحديث في هذا فان الأيام ستكشف العجب العجاب.
لكن ما يهمنا هنا هو أن انشغال البيض في استعادة الهيمنة المطلقة في أمريكا سوف يصرفهم بعض الشيء عن العالم الخارجي. أي أن عزلة أمريكية جزئية لا بد واقعة. وهذه العزلة تعني بالنتيجة أن أمريكا لن تعود رأس الحربة في كل عدوان على منطقتنا كما فعلت في غزو العراق وخراب ليبيا وسورية واليمن. وهذا ولا شك متنفس جيد لشعوبنا المهزومة قد يمكنها من استعادة انفاسها وتلمس طريق جديد للم الشمل واعادة التخطيط لمستقبل يعيد بعض الكرامة. ان الصراع الأمريكي الداخلي سيكون رحمة لشعوب الأرض التي عانت لسبعين عاماً من الإستبداد الأمريكي والأمة العربية ستكون أول المنتفعين من ذلك. وسيكون أعداء هذه الأمة من خارجها وداخلها أكثر المتضررين من عزلة أمريكا التي سيبدؤها الرئيس الأمريكي ترامب والتي لن تنتهي حتى باغتياله وهو ليس مستبعد. وقد يكون الكثير مما قاله ترامب في حملته الإنتخابية مجرد خطاب يشد به أسماع مريديه لكن الحقيقة التي لن تتغير هي أن ترامب انعزالي بمعنى أنه يؤمن بأن أمريكا تأتي أولاً في سلم الإهتمام والعالم الخارجي ثانياً. فادعوا معي أن يعمق الله الخلاف بينهم “تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى”.
انكفاء العولمة
إن “العولمة” وهي الترجمة العربية البائسة للعبارة الإنكليزية التي تعني في جوهرها هيمنة رأس المال الصهيوني على العالم ستدخل مرحلة الإنكفاء، وهذا الإنكفاء سيكون رحمة لنا. فقد كشفت الإنتخابات الأمريكية أن أزمة النظام الرأسمالي خطيرة وعميقة تماماً كما توقع لها الإقتصادي الفذ، كارل ماركس، فحتى تدخل الدول لحماية النظام من الإنهيار الوشيك عام 2009 لم يوفق تماماً في حل الأزمة. وقد يجد الإقتصاد الرأسمالي حلاً مرحلياً لأزمته في التخلي عن العولمة والإنكفاء لاقتصادات رأسمالية وطنية متنافسة. ذلك أن ترامب هو ابن النظام الرأسمالي والمدافع عنه والمنتفع منه لكنه يمثل ضمن رؤيته الإنعزالية مفهوماً جديداً للرأسمالية.
ومما يعزز هذه النظرة هو أن الظاهرة التي جاءت بترامب ليست محصورة في أمريكا حسب بل هي أعم وأوسع وتظهر في أشكال مختلفة في دول رأسمالية أخر. فقد عبر عنها الإنكليز قبل أشهر في استفتاء الخروج من الإتحاد الأوربي. بل قد يكون من الأصوب القول ان انتخاب ترامب هو استجابة الإنكلو سكسون في أمريكا لما فعله أبناء عمومتهم في الجانب الشرقي من الأطلسي في استفتاء الخروج من الإتحاد الأوربي. فقد صوت الإنكليز لحقيقتين أولاهما الرغبة في الحفاظ على النقاء الأنكلوساكسوني لمجتمعهم ليس فقط من السود والهنود لكن حتى من الأوربيين، وثانيتها رفض الإنكليز لنظام العولمة القائم في الإتحاد الأوربي. وهذه النتائج لا تختلف كثيرا عما كشفته الإنتخابات في أمريكا.
وليس هذا التغير الخطير في العالم الرأسمالي محصوراً في الإنكليز في جانبي الأطلسي فهناك تيار قوي في فرنسا مشابه لذلك وقد تبين أن لو بن المرشحة الفرنسية للرئاسة، والتي يسميها جهلة الأعلاميين العرب باليمينية وهي أكثر يسارية منهم ومن عقولهم المسطحة، تتمتع اليوم بتأييد كبير بين عموم الفرنسيين. فاذا أمكنها الفوز في الإنتخابات فان التغيير الواقع في العالم سيكون أكبر من أي تصور ممكن الآن. أما إذا فشلت، بسبب قوة الإعلام الصهيوني المستحوذ على الدول الراسمالية بالكامل، فان فشلها لن يكون عبثاً اذ سوف تتحول لقوة ضاغطة على كل من يحكم فرنسا للسنوات المقبلة مما يلزمه في حسبانها في أية خطوة يخطوها في عالم مهتز سياسياً وضعيف اقتصادياً.
وهناك تيارات مشابهة في دول رأسمالية أخر قد لا تكون واضحة وقوية كما حدث في بريطانيا وأمريكا لكنها جميعاً تؤشر لتغير كبير في النظام الراسمالي الإستكباري.
قد لا يكون من السهل القول بما سيحدث عند استلام ترامب للحكم في كانون الثاني المقبل. لكن من المؤكد ان تغييرات كبيرة في السياسة والإقتصاد ستنتج عن ذلك.
ونحن قد لا نكون في حسابات القربى عند ترامب لكننا لا بد سوف ننتفع من سياسات العزلة وانكفاء العولمة التي سوف يتبعها ترامب….
فقد يكون عدد من مستشاريه والمحيطين به من خدمة الصهيوينة، وكيف يمكن غير ذلك وقد مضى على الصهيونية مائة عام وهي تعمل على شراء واعداد الساسة والإعلاميين لخدمتها بينما يشتري حكامنا فرق كرة القدم وفنادق الدعارة والرقص. لكن هذه لا تغير حقيقة أن ترامب لم تأت به الصهيونية ولم تدعمه مالياً كما فعلت مع أوباما. وهذا في أقل حال يمكنه أن يكون عقلانياً ولو بعض الشيء في الحسابات السياسية لشرقنا العربي ، حتى اذا كان ذلك على أساس تقريره أي خط سيكون أنفع لأمريكا من مجرد الالتزام الأعمى بدعم كل ما تريده أسرائيل كما فعل أوباما خلال السنوات الثمان الماضية.
إن اختيار ترامب لعدد من مستشاريه حتى اليوم لا يهمني كثيراً ذلك لأني أنظر بترحاب لاختياره من اختار حتى اليوم لأنهم سوف يعززون ما أطمع في حدوثه من انقسام أمريكي داخلي حاد يشغلهم عنا. فلا يزايدن أحد علي في المواقف الإنسانية ذلك لأني لست متعاطفاً مع السود في أمريكا فهم جاؤوا بأوباما الصهيوني، وكان نصف الجنود الذي قتلوا العراقيين منهم. ولم يطالب زعماء السود بعدم المشاركة في غزو العراق وقتل أهلي، فكيف يراد مني أن أتعاطف معهم.
لكني أترقب بشكل خاص من سيكون وزير خارجيته. فالرئيس الأمريكي ليس حراً في ما يفعله داخل أمريكا لأن الكونغرس صاحب قرار في السياسة الداخلية. أما السياسة الخارجية فهي من صلاحيات الرئيس وحده وليس للكونغرس دور مهم فيها. وهكذا فان وزير الخارجية الجديد سوف يعطينا صورة أولية لما يمكن أن يحدث وما هي أولويات الرئيس ترامب في ما يخصنا….
فهل سيوقف ترامب التدخل في سورية ويضع حداً للدم المسفوك عبثاً كما سبق وأعلن أن هدفه ليس إسقاط النظام بل القضاء على الجماعات الإرهابية؟
وهل سيأمر ترامب السعودية بوقف مجازر اليمن ويضع حدا للإبادة البدوية لحضارة اليمين؟
وهل سيسمح ترامب بمقاضاة المجرمين الأمريكيين الذين ارتكبوا الجرائم في العراق وافغانستان؟
ثم كيف سيوفق ترامب يبن دعوته للتقارب مع موسكو ودعوته لمواجهة أيران وهي السياسة التي يدعمها كل الذي اختارهم من مستشاريه حتى اليوم؟
هذا ما تنتظره الأيام…
لكننا نحن العرب سنكون في أفضل حال مما كنا عليه منذ عهد ثمانييات القرن الماضي في أقل توقع.
وفوق كل ذي علم عليم.
عبد الحق العاني
20 تشرين الثاني 2016