كيفَ خدعَ (توني بن) العربَ جَميعا
لا أعتقدُ أن هناكَ عربياَ سكنَ في بريطانيا في أعقابِ الحربِ العالميةِ الثانية لمْ يسمعْ باسمِ “توني بن”. كما عَرَفَه كثيرونَ من العربِ خارجَ بريطانيا بسببِ مواقفِهِ المعلنةِ من قضايا العربِ عامةً وقضيةِ فلسطينِ خاصة. دَخلَ توني بن عالمَ السياسةَ عن طريقِ فَوزهِ بعضويّةِ مجلسِ العمومِ البريطاني لأولِّ مرةٍ عام 1950 عن حزبِ العمالِ، وذلك بعدِ أن رفضَ قَبولَ لقبِ ومنصبِ “اللورد” الذي وِرِثَهُ عن أبيه بسببِ رفضهِ للنظامِ الطبقيِّ الذي يُمثلهُ اللقب. واستُوزِرَ توني بن أكثرَ من مرةٍ في حياتهِ السياسيةِ وعُرِفَ بمواقفهِ المختلفةِ عن عدد من رفاقهِ في حزبِ العمالِ أو في الأحزابِ الأخرى، بل عَدَّهُ عددٌ من الكتابِ والمراقبينَ بأنَّهُ ثوريٌّ ويساريّ (وذلك بمفهومِ اليسارِ في القرنِ العشرين).
وكانَ توني بن خطيباً مُفوَّهاً وصوّتَ له رفاقُهُ في مجلسِ العمومِ أكثرَ من مرةٍ على ذلك!
تقاعَدَ توني بن من مجلسِ العمومِ عام 2001 وتُوُفِّيَ عام 2014.
وأهم ما يعنينا نحن في حياة توني بن هي مواقفهُ المعلنةُ مما يتعلق بالعرب وفلسطين. وقد بلغ من شيوع تلك التصريحات والمواقف التي حرص توني بن ألا يترك مناسبة دون التعليق عليها وإعطاء موقفه منها، أن عده أغلب العرب صديقاً لهم!
وقد أكونُ أحدَ القِلَّةِ الذين يختلفونَ في ذلكَ حيثُ إني أعُدُّهُ من أذكى الصهاينةِ البريطانيينَ في القرنِ العشرين. وأدري أن ألفَ مستمعٍ أو قارئٍ سوف يغضبُ ويوجهُني لألفِ تصريحٍ لتوني بن يناقضُ الهُوَيَّةَ الصهيونيةَ التي أنسِبُهُ لها. لكني سأحاولُ هنا أن أبين أن توني بن كان عرَبِيَّ الهوى في تصريحاتِهِ وصُهيوني الهوى في سِلُوكهِ تاركاً للقارئِ الفطنِ أن يَحْكُمَ أيهما أنفعُ ولأيِّ طرف!
والحكمةُ من هذا الذي أكتُبُهُ هي أنه إذا كانت الصهيونيةُ قد نجحتْ في خداعنا بتوني بن فكم خَديعةٍ أخرى مرتْ وستمرُّ ونحنُ غافلون؟
ولعل مما يُساهمُ في المقدرةِ على خِداعِنا هو أننا نحن العربَ تحكُمُنا عواطفنا قبل عقولنا ونعيش على وِفقِ المقولةِ العاميةِ الشائعة “شيّم العربي وخذ عباته”. فكَمْ مِنا بَحثَ في خَلفِيَةِ إنسانٍ قبل تكوين رأيٍ عنه واكتفى بالتعاطفِ مع قولِه. ولا أدَّعي أني أختلفُ عن بَقِيِّةِ العربِ في هذا. فقد اكتشفتُ هُوَيَّةَ توني بن الصهيونيةَ عن طَريقِ الصُّدفَةِ قبل أن أبحثَ فيها وأتابَعَها. كنت قد أصدرتُ في لندنَ عام 1991 مَجلَّةَ فَصليَّةً باللغةِ الإنكليزيةِ تعنى بالشأنِ العربي. وطلبت من توني بن مقابلةً لمعرفةِ رأيِهِ في الأمورِالمتعلقةِ بالمنطقةِ العربيةِ وسياسةِ بريطانيا. فوافقَ الرجلُ وحددنا موعداً للقاءِ في بيتِه. وطلبَ مني أن يُسجلَ اللقاءَ واشترطَ ألا يُنشرَ نَصُّهُ الا بعد موافقتهِ عليه فكانَ لهُ ما طلبْ.
وحيث إني لم أكن شخصاً معروفاً في الإعلامِ البريطانيِ فلا بُدَّ أن رجلاً دقيقاً في سلوكهِ مثل توني بن سألَ عني من سألَ وكان ممن سألَ أجهزةَ الدولة، ولا بد أنه أُعلِمَ بأني واضحُ في موقفي من الصِّراعِ الوحيدِ في المنطقةِ العربيةِ بين الوجودِ القوميِ العربيِ والإستيطانِ الصهيوني. ذلك لأن توني بن بدأ المقابلةَ دونَ سؤالٍ مني بتصريحه بأنه أحدُ مُؤسِّسي “مجموعةِ أصدقاءِ اسرائيلَ العماليةِ” في مجلسِ العمومِ البريطاني. وحيث إنه لم تكن هناكَ أسئلةٌ مسبقةٌ بين يديه مما كان سَيمكِّنَهُ من مَعرِفَةِ ما كنتُ سأسألُهُ فإنه أرادَ بتأكيدِهِ على صداقتِهِ لإسرائيلَ أن يقطعَ الطَّريق عن أيةِ أسئلةٍ يُفهم منها عَداؤُه لإسرائيل، فالرجل أعلمني أنه صديق لإسرائيل. وكان ذلك التصريحُ كفيلاً بتحديدِ طبيعةِ الأسئلةِ التي تلت.
وما أن انتهتِ المقابلةُ حتى بحثتُ عن “المجموعةِ” فكان ما وجدتُ أنها تأسست عام 1951 من عددٍ من اعضاء مجلسِ العمومِ العماليين بهدفِ دعمِ دولةِ اسرائيل، وأن هذهِ المجموعةَ عّمّلتْ منذ تأسيسها كمجموعة ضغطٍ في مجلسِ العمومِ والحكومةِ لدعمِ سياساتِ اسرائيل! ويجب التأكيد هنا بأنها ليستْ مجموعةً تدعي الدفاعَ عن اليهودِ الذين اضطهدتم النازيةُ حتى يُمكنَ تسويغُ العضويةِ فيها باسبابٍ أخلاقيةٍ أو إنسانيةٍ بل هي مجموعةُ تدافع عن الدولةِ الإسرائيلية. فاذا قال قائل إن توني بن انتسبَ لها في بداياتِ الخمسيناتِ من القرنِ الماضيِ بدافعٍ أخلاقي فإني قابلته في تسعينيات القرن الماضي وكانت اسرائيل قد شَنَّتْ خَمسَةَ حروبِ واعتدتْ على شعبِ فلسطينَ وعلى كلِّ جيرانها مما لم يَعُد معه مَجالٌ للدفاعِ عنها بسبب أخلاقي، لكن توني بن كما أخبرني كان عُضواً في المجموعة أو على الأقلِّ لم يُخبرْني أنه تركها!
فأيُّ موقفٍ اعلاميٍّ في الدفاع عن فِلسطينَ يمكنُ أن يعادلَ عُضويةَ توني بن في مجموعةِ أصدقاءِ اسرائيل التي قَدَّمت وما زالت خدمةً جليلةً لها لا يمكن حَصرُها ومما لا يمكن لأيِّ خِطابٍ أو بيانٍ سياسِيٍّ أن يقاسَ بها. ثم كيفَ يمكن لهذه الإزدواجيةِ في الموقفِ أن تتَحقَّق؟ أليسَ من قبيلِ النفاقِ السياسيِ أن يُعلنَ توني بن مواقفَ مُعاديةً لإسرائيل بينما هو عُضوٌ في مجموعةِ سِرِّيةِ العضويةِ، شأنها في ذلك شأنُ كلِّ تنظيماتِ الماسونيةِ العالميةِ منذ قرون، صَديقةَ وداعمةَ لإسرائيل؟ أمْ أن الأمرَ أبعدُ من النفاقِ وأقربُ للتخطيطِ والتعمدِ في الخِداع؟
أما الدليلُ الثاني على صُهيونيةِ توني بن وهو الأكثرُ خطورةً فقد تكشفَ لي بعد سنوات. فليسَ سِراً أن الفرنسيين بَنَوا مُفاعلَ “ديمونة” في اسرائيل. ومُفاعل ديمونةَ هذا من النوعِ الذي يَستعملُ اليورانيومَ الطبيعيَّ لإنتاجِ القنبلةِ الذريةِ، أيْ انه لا يحتاجُ لليورانيومَ المخصبِ. لكنه يحتاجُ بدلَ ذلك “للماءِ الثقيل” وهو مادةٌ صعبةُ الإنتاجِ ما زالت ليست في مقدورِ كلِّ دولِ العالم، إلا أن الإيرانيينَ تمنكوا بِقدراتٍ ذاتيةٍ عالية أن يَبنوا مًفاعل “آراك” المشابهِ لديمونة وأن يُنتجُوا الماءَ الثقيلَ لتشغيله قبل أن يَستسلمَ الرئيس روحاني وينتهي به الأمرُ بصبِّ “الخِرسانة” المُسلحةِ في قلبِ المفاعل!
ولم تكنْ اسرائيلُ تُنتجَ الماءَ الثقيلَ عند بناءِ مُفاعلِ ديمونة ولا أدري حقاً ان كانت تُنتجه اليوم، لكن هذا ليس مهماً. فقد استلمت اسرائيل، عام 1968، خمسين (50) طناً من الماء الثقيل من بريطاينا مما مكنها أن تُنتجَ القنبلة الذرية لتصبح الدولةَ النوويةَ الوحيدةَ في الشرقِ الأوسط. وكان توني بن عام 1968 وزيرَ التقنيةَ في حكومةِ “هارولد ولسن” العماليةِ وكانت تحتَ سيطرتِهِ شؤونُ الطاقةِ وكل ما يتعلقُ بها. فكيف تم تزويدُ اسرائيلَ بالمادةِ التي مَكنتها من أن تتحولَ لقوةٍ نووية؟ وهل إن الشخصَ المعاديَ للعدوانِ والغصبِ والإستيطانِ كما يَدعي يُساعد المعتديَ والمغتصبَ في طُغيانِهِ ثم يَدعي أنه يَحتفظُ بموقفه الأخلاقي في قَضيةِ فلسطين؟
إن توني بن هو المسؤولُ عن تمكينِ اسرائيلَ من التحولِ لقوةٍ نوويةٍ جعلها تتمكنُ عام 1973 من تحويلِ هزيمةِ حربِ تشرين لِنصرٍ بعد تهدديدها باستعمالِ السلاحِ النووي ضدَّ مصرَ وسوريةَ مما قادَ لتدخل الولاياتِ المتحدةِ المباشرِ في الحربِ، وما بعدها تأريخٌ يعرفهُ الجميع!
وهناك أكثرُ من دليلٍ على موقفِ توني بن المنافقِ، منها: رفضُهُ دعمَ الدعوة التي أطلقها عدد من الناشطين لإيقاف المواطنِ البريطاني الرافضِ للحرب على العراق عن دفعِ نسبةٍ من ضريبةِ الدخلِ مما يعادل حصة وزارة الحرب كإجراءٍ عملي عن رفضِه للحربِ على العراق، ومنها رفُضُهُ حتى التعليقَ على كتابِ “غزو العراق”، ذلك لأن الكتابَ يُجرِّمُ حكومة توني بلير بتُهمةِ العدوانِ وجرائمِ الحربِ وحيث إن ابنه هيلاري بن كان من وزراءِ توني بلير المتحمسينَ للحربِ والغزوِ، تلك الحربُ التي كان هدفُها الأولُ والأوحدُ خدمةَ الصهيونيةِ في تفتيتِ العراق وحلِّ جيشِهِ ونزعِ سلاحِهِ وكان لها ذلك. ذلك لأن قبولَ توني بن للتعليقِ على الكتاب كان سيُعدُّ بمثابةِ إدانةِ لولدهِ الصهيونيِّ لأن المسؤوليةَ في الحكومةِ البريطانية تكافليةٌ تضامنية.
ثم من أينَ استمدَّ هيلاري بن صُهيونيتَهَ إذا كان قد نشأ في بيتٍ والد معادٍ للصهيونية كما يدعي توني بن؟ فلم ينشأ ولدي إلا معادياً للصهيونية بحكم ما سَمِعَه وشاهَدَهُ في صباه! وها هو اليوم يثبت صهيونيته في تآمره على جرمي كوربن زعيم حزب العمال في محاولة صهيونية لأزاحته واعادة الحزب ليد الصهيانة من أتباع توني بلير.
لكنَّ الشاهدينِ الأولينِ كافيانِ لإدانةِ توني بن بالتعاطفِ مع الصهيونيةِ. فلمَ يُصرُّ صديقي على تذكيري بتصريحاتِ توني بن المعاديةِ للصهيونية إذا كان الأخير قد قَضى كلَّ حياتهِ السياسيةِ صديقاً لإسرائيل وكان البريطانيُّ الذي مَكَّنَ إسرائيل أن تتحولَ الى قوةٍ نوويةٍ مما غَيّرَ تأريخَ الأرضِ العربية في العقود الخمسة الماضية؟
“فأما الزبد فيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”.
والسلام عليكم
لندن في 1 تموز 2016