الحمد لله على مأ أعطى وأخذ وابتلى وأبلى
والصلاة والسلام على المبعوث بالنور وآله الكتاب المسطور
مقدمة
هذه محاولة مني لفهم الخلق وعلته من أجل التوصل لمعرفة علة وجودي على هذه الأرض، فبعد عمر قضيته في دراسة علوم الطبيعة ونصفه في دراسة القرآن خرجت بنتيجة أنه لا بد من إمكانية التوفيق بين الإثنين فكانت هذه الأفكار، والتي أود إشراك الآخرين بها، والتي قد تبدو وكأنها غير مترابطة أحيانا لكنها صادقة في أنها هي كذلك أفكار وليست منهجا فلسفيا للإجابة على أقدم سؤال شغل الفكر البشري: لماذا وُجدت وما هذا الذي حولي؟
وليس ما أريد الحديث عنه هو إعادة لما فعله عدد من الكتاب في تسويد الصفحات فرحاً بأن العلم أثبت صحة القرآن في أمر ما لأنهم في شك من أمر القرآن. فلست بحاجة أن اقنع نفسي بأن القرآن ليس من صنع البشر وهو بهذا لا يحتاج لمن يثبت صحة ما جاء فيه. فحين أعرف يقينا أن القرآن ليس كتابا علميا كما انه ليس كتاب تأريخ فإني على يقين أن الحقائق التي جاءت في القرآن عن طبيعة الكون صحيحة وإن علماء الطبيعة هم الذين وصلوا إليها وليس العكس، وذلك بعد قرون من فرضيات تبين صحة عدد منها وخطأ عدد آخر. وهذا بدوره لا يعني أن القرآن يضم كل حقائق علم الطبيعة حتى يمكن العودة له والاحتكام إليها. فقد ترك تعالى ذلك لتكليف العقل البشري فقال عز من قائل: “الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ “.
لقد سادت بين الناس قناعة مفادها أن بين علوم الطبيعة والقرآن بوناً لا يمكن فيه التوفيق بين الإثنين. وحقيقة الأمر كما تبين لي ليست كذلك. لكن سبب تكوّن هذه القناعة يعود لحقيقة بسيطة وهي أن أغلب أهل الدين، من سبق منهم ومن لحق، لم يهتموا بالطبيعة، برغم أنه تعالى أمرهم أن يتفكروا فيها، لكنهم اكتفوا في البحث في أمور الدنيا مثل الطهارة ومبطلات الصلاة والبيوع، وكأنَّ فاطر السموات والأرض خلق هذا الكون العظيم كي يقضي الإنسان وقته ليتفكر في الطهارة والتي يكفيه يوم واحد كي يتعلمها! وأهل الدين بيننا اليوم لا يفهم أكثرهم شيئا عن الكون والخلق ومن لا يفهم الكون فهو لا يعرف لم هو موجود على هذه الأرض. ولا يكفي أن يدعي أن هذا أمر الله وانه راض به. فقد قال تعالى: “أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ”. ومن لم يخلق عبثا فقد خلق لغاية ومن لا يحاول أن يفهم علة خلقه فكيف له أن يقود الناس للخلاص كما يدعي!
وأهل الدين بيننا اليوم يقتدون بمن يسمونهم الفقهاء من السلف وأولاء كانوا سذجا حتى في زمنهم فما زال بيننا اليوم من أولئك المقتدين من يعتقد أن الأرض مسطحة وأن الشمس تنزل كل ليلة في بحر القدرة لتخرج في اليوم التالي، وحيث إن الأمر كذلك فإنه تعالى ينزل كل ليلة درجة الى السماء الدنيا ليسمع عباده. وحيث إن هذا الإنسان البائس يعتقد أن الأرض مسطحة فقد اعتقد أن هناك ليلا واحداً ولو أدرك كروية الأرض لعلم أن هناك ليلاً في كل لحظة في مكان ما ولأمتنع نزوله تعالى درجة أو درجتين. وقد يظن القارئ أن هذا ليس مهما لكنه في حقيقة الأمر على درجة كبيرة من الأهمية لأن أهل الدين أولاء يحركون آلاف آلاف الناس ويسوقونهم كما يشاؤون. وهم في هذا العمى يبعدونهم عن فهم حقيقة الدين والخلق لأنهم هم أنفسهم لا يفهمون أكثر مما نقلوه عن السلف الجاهل!
أما علماء الطبيعة فهم ليسوا أبرياء في هذا النزاع. فهم برغم براعة عدد كبير منهم في التفكر والإبداع لم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث في حقيقة الأديان واكتفوا بالمسموع أو المنقول والمشوه عنها. ولا عذر لهم في هذا لأن التحقق من كل أمر واجب كل عالم قبل الحكم عليه. فقد استوقفني أثناء قراءتي آخر كتاب للعالم الجليل “جيم الخليلي”، والذي أكن له كل الاحترام، أنه يعتقد أن المسلمين يخطئون حين يقولون بأن عمر الكون هو ستة آلاف سنة. والحقيقة هي أنه ليس في الإسلام أو القرآن ما يقول هذا. فالذي يقوله القرآن هو أن خلق السموات والأرض تم في “ستة أيام” وليس متى حدث هذا وهناك فرق بين الوقت الذي تم فيه الخلق وبين متى وقع ذلك مما يحدد عمر الكون. فقد يكون خلق السموات والأرض قد وقع قبل مليارات السنين في حسابنا للوقت وفي هذا لا يكون عمر الكون ستة أيام كما اعتقد الأستاذ الفاضل. هذا الى جانب حقيقة نسبية الزمن في القرآن والتي ضاعت عليه كما ضاعت على غيره، والتي سوف أعرج عليها لاحقا. ذلك أن اليوم الذي جاء ذكره في الأيام الستة للخلق لا يمكن أن يكون اليوم الذي نعرفه والذي يتمثل في دورة الأرض حول نفسها لأن الأرض لم تكن قد خلقت بعد كي تدور وتحدد لنا الزمن الناتج عن تلك الحركة النسبية.
وقضى علماء الطبيعة القرنين الماضيين وهم يبنون على جهود علماء القرون التي سبقت في بحث ورصد وقياس متسارع للخروج بنظريات علمية متميزة أعطتنا الكثير من سبل الحياة المعاصرة من الهاتف النقال إلى دقة عالية في تحديد موقع الإنسان أو الهاتف إلى “الحاسوب الكمي” الجديد إلى أجهزة التشخيص الطبي المتقنة، وكثيرا كثيرا مما يطول تعداده. وحين يصدق التطبيق العملي للنظرية ويثيت ذلك التطابق مع مرور الزمن فإن النظرية تصبح من قوانين الطبيعة التي تمكن الإنسان من اكتشافها وتسخيرها حتى يحدث اكتشاف جديد أو رصد يقود لتعديل ذلك القانون.
إلا أن علماء الطبيعة، الذين يرفضون قبول رأي المقتنعين بأن لهاذا الكون مُسببا، محتجين بأن المؤمنين بوجود خالق للكون ليس لديهم دليل، لم يتمكنوا هم أنفسهم حتى اليوم من أن يأتوا بنظرية علمية تشرح كيف وجدت المادة الأولى أو الطاقة التي نتج عنها “الانفجار الكبير” الذي أوجد هذا الكون، كما يعتقدون، أو أن يأتوا بنظرية علمية تشرح سر التوسع المتسارع للكون. وحججهم في تعليل ذلك ليست أكثر قوة من تلك التي يستند إليها أولئك الذين يؤمنون بأن للكون خالقا ومدبرا.
ولا أدعي أني عالم طبيعة ولا أدعي أني من رجال الدين. لكن فهمي المحدود لكل منهما منحني الجرأة على الخوض في ما أنا بصدده. وخلاصة ما أروم فعله هو أن أستنبط من القرآن ما يمكن استنباطه عن “الخلق” ثم أبين أن علماء الطبيعة توصلوا بعد قرون من البحث المضني والنظريات التي سقط العديد منها وتم تعديل عديد آخر، توصلوا الى الحقائق نفسها المتعلقة بالخلق والتي ثبتها القرآن قبل أكثر من ألف عام. وأسوق هنا مثالا واحدا، حيث لي عودة له لاحقا، ذلك أن علماء الطبيعة وفي طليعتهم “ألبرت آينشتاين” اعتقدوا لفترة طويلة أن الكون ثابت في حجمه لأن النظرية التي توصلوا لها وقتها كانت تقضي بثبات حجم الكون بعد “الانفجار الكبير” لأن ذلك الانفجار قاد أولا للتوسع في الكون المادي لكن ذلك التوسع كان لا بد أن يتوقف ثم يبرد هذا الكون فيعود للانكماش بسبب ثبات حجم الطاقة أو المادة التي انفجرت.
لكنهم عدلوا قبل عقود عن ذلك حين أثبت الرصد خلاف ذلك فعدلوا النظرية وأصبحوا اليوم يقولون بأن الكون في توسع مستمر وبتعجيل عال. لكن هذا ما قاله تعالى في القرآن: “وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ”. وهذا النص الذي ثبته القرآن قبل أربعة عشر قرنا هو حقيقة كونية لم تتغير واحتاج علماء الطبيعة لكل هذا الوقت كي يصلوا إليها. فمن الذي طابق من؟
إن ما سأكتب فيه لا يعني أني أدعي أن القرآن أعطانا قصة الخلق فهو كما أسلفت ليس كتابا علميا كما أنه ليس كتابا تاريخيا كما حاول عبثا عدد من الرواة الكتابة عن علة كل آية وسبب نزولها وتاريخها حتى تكاد تظن أنهم هم الذين أنزلوا الكتاب! إن ما أحاول عمله هو أن أجمع من القرآن ما أمكنني ربطه بالخلق لتكوين صورة عنه ثم آتي على ما وصل إليه علماء الطبيعة في ذلك الباب وأعقد موازنة أثبت فيها أن ما جاء به القرآن هو تنزيل من عزيز حكيم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد توصل علماء الطبيعة إلى مثله أو قريب من ذلك بعد قرون. “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ “.
وللحديث صلة….
ماجستير آداب في الفلسفة (بريطانيا)
3 تموز 2025