لقد أعاد العدوان الصهيوني الأخير على إيران الى الأذهان قضية سياسية قانونية مر بها كل من العراق وسورية وحجبتها الصهيونية بإعلامها الطاغي مستعينة في ذلك بالغباوة والحقد المذهبي الأعمى في كلا البلدين برغم أن الضرر كان عاما على الجميع ولم يقتصر على النظام السياسي في أي من البلدين والتي ادعت المعارضة أنها كانت تواجهه! تلك هي قضية مهاجمة منشآت البحث أو الإنتاج أو الخزن للمواد النووية أو الكيمياوية أو الحيوية.
ومن أجل فهم هذا لا بد من التوقف عند التشريع الذي سنته الصهيونية عقب الحرب العالمية الثانية بشكل خاص، والذي جمع حصيلة تجاربها الدموية بعد ثلاثة قرون من الحروب داخلها، وهو التشريع الذي تبنته من أجل حماية سكانها من طغيانها بعضها على بعض وليس من أجل حماية شعوب الأرض خارج أوربا وتوابعها لأنها كانت تعتقد، وما زالت، أن تلك التشريعات لن تطبق هناك حين تعتدي هي وتغزو وتحتل وتدمر خارج أوربا كما حدث منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى فقد فعلت تلك التشريعات بكليتها حين دخل العراق الكويت لكن أيا منها لم يثر حين احتلت الصهيونية “بنما” ولم يكن بين الحدثين سوى أشهر فقظ!
وهذه التشريعات التي سمتها الصهيونية بـ “القانون الدولي” وقبلها بقية أهل الأرض بمن فيهم “الجنوب الجمعي” ونحن منه، جمعت قوانين الحرب بشكل عام وقوانين حماية المدنيين في وقت الحرب بشكل خاص تتصدرها اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949وملحقاتها لعام 1977. وقد أقرت محكمة العدل الدولية أن اتفاقيات جنيف أصبحت من القواعد القسرية الآمرة في القانون الدولي والتي لا يمكن الانسحاب منها أو الإخلال باي منها في أي حال أو ظرف مهما كانت الأعذار أو المسببات أو التسويغ لذلك. وقد اكتشفت الدول لاحقا أن اتفاقية جنيف الرابعة لحماية المدنيين لم تكن واضحة في كل أجزائها فنتج عن ذلك الملحق الأول لعام 1977 والذي عزز بشكل دقيق حماية المدنيين.
فما الذي يقوله الملحق الأول حول مهاجمة المنشآت التي تضم مواد خطرة والتي قد تعرض المدنيين للضرر أو الموت؟ لست أرغب في الإطالة في عرض كل ما يتعلق بهذا لكني أوجز بالقول إن المادة 85 (3)(ج) تجمل تلك الجريمة في نصها على:
2 / 3
3 – تعد الأعمال التاليةٌ، فضلاً على الانتهاكاتالجسيمٌة المحددة في المادة 11، بمثابة انتهاكاتجسيمٌة لهذا الملحق “البروتوكول” إذا اقترفت عن عمد،مخالفة للنصوص الخاصة بها في هذا اللحق“البروتوكول“، وسببت وفاة أو أذى بالغاً بالجسد أوبالصحة،
(……..)
ج – شن هجوم على الأشغال الهندسيةٌ أو المنشآت التيتحوي قوى خطرة عن معرفة بأن مثل هذا الهجوم قديسٌبب خسائر بالغة في الأرواح، أو إصابات بالأشخاصالمدنيةٌٌ، أو أضراراً للأعيان المدنيةٌ كما جاء في الفقرةالثانيةٌ ” أ ” ثالثاً من المادة 57.
وجاول عدد من الساسة والقانونيين الصهاينة في مراحل متعددة من عدوانهم المستمر على العالم، إيجاد الأعذار للالتفاف على هذه المواد، في مهاجمة المواقع المدنية بشكل عام والمنشآت التي تحوي مواد خطرة بشكل خاص، فادعوا أن تلك المواقع تستعمل لأغراض مزدوجة عسكرية ومدنية أو أن الجدوى العسكرية أكبر من الضرر المدني أو أن ضررها متناسب مع الهدف من العمل العسكري، وما شابه ذلك من مسوغات الصهيونية التي أنتجت مصطلحات جديدة في القانون والسياسة لا اصل لها!
لكن المشرع كان قد انتبه لاحتمال الاحتجاج بهذا فقطع الطريق في المادة 52:
المادة 52: الحمايةٌ العامة للأعيان المدنيةٌ
(……)
3 – إذا قام شك حول ما إذا كانت عينٌ ما تكرس عادةًلأغراض مدنيةٌ مثل مكان العبادة أو منزل أو أي مسكنآخر أو مدرسة، في أنها تستخدم في تقديم مشاركة فعالةلعمل العسكري ما، فإنه يجب أن يفٌترض في هذا الحال أنها لا تستخدم كذلك.
وهكذا قطع المشرع الطريق عليهم في أنه قرر أن المنشأة المدنية للبحث أو الإنتاج أو حتى الخزن يجب أن تعد مدنية حتى إذا كانت مشاركة في العمل
3 / 3
العسكري ذلك أن الشك يجب أن يؤول في مصلحة المدنيين وليس ضدهم ما دام الهدف الأول هو حمايتهم وليس الإضرار بهم.
فاذا كانت هذه الحماية قائمة في حالة الحرب فما بالك بالحماية التي يجب على القانون الدولي تأمينها في وقت السلم، كما هو الحال في مهاجمة المواقع في العراق وسورية وإيران؟
قامت الصهيونية المعتدية في تسعينييات القرن الماضي بلغم مياه “نيكاراغوا” فقامت الدولة الصغيرة المستضعفة، وجارة الوحش الصهيوني الذي لا يشبع من الدم والخراب، بالاستجارة بمحكمة العدل الدولية واعترضت أمريكا لكن المحكمة أصدرت عام 1996حكما يقضي بان عمل أمريكا كان عدوانا. ومنذ ذلك اليوم لم تتعرض أمريكا لنيكاراغوا!
فلو أن العراق اشتكى حين قُصف مفاعله النووي لكان قد كسب الدعوى، ولو فعل لكان صعبا على بريطانيا أن تقصف منشآت سورية الكيمياوية ولكان عسيرا على ستارمر وماكرون دعم ترامب في قصف مفاعلات إيران في قولهم إنها مشروعة لأن محكمة العدل الدولية كانت قد قضت أنها ليست كذلك.
وحتى لا يطلع علي من يريد أن يجد أعذارا لعجزه عن قراءة حكم واحد لمحكمة العدل ليتحدث عما يمكن وما لا يمكن عمله مع محكمة العدل الدولية والذي سمعته من كثيرين خلال ثلاثين عاما ومنهم من ادعى أنه درس القانون، فإني أجمل إجابتي بقول أبي الطيب رحمه الله:
“أنا الغريق فما خوفي من البلل”!
عبد الحق العاني
دكتوراه في القانون الدولي
29 حزيران 2025