عزز بريمر الأمر رقم 1 بتشريعات أخرى عندما أصدر الأمر 5 في 25 أيار بـ “ تـأسيس المجلـس العـراقي لتطـهيـر المجتمع العـراقي من حـزب البعث“. تم تكليف المجلس الذي يعمل وفقاً لتقدير بريمر بمهمة التحقيق في حزب البعث وتحديد أماكن وجود أعضائه ومسؤوليه. وواصل المجلس العمل مع مثل هذه السلطة المتجبرة كمحكمة قانونية بدون استئناف ومكن الناس من تسوية الخلافات الشخصية القديمة مع البعثيين وأصبح أداة للترهيب حيث كان من الممكن إسكات أي شخص بتهديده بالتحقيق.
كانت هناك حاجة إلى تشريعين آخرين لإغلاق عملية التغيير السياسي الذي لا رجعة فيه. الأول كان المذكرة رقم 1 بتاريخ 3 حزيران2003 التي دعت القائد الأمريكي لقوات التحالف إلى توفير موارد التحقيق العسكرية المطلوبة من أجل تلقي وتجميع المعلومات المتعلقة بانتماءات أعضاء الحزب في جميع الوزارات. كما تم تكليف مجلس اجتثاث البعث بمهمة تقديم المشورة لسلطة الائتلاف المؤقتة بشأن سياسات وإجراءات اجتثاث البعث. انتهى الأمر بمجموعة من الأشخاص الذين تم اختيارهم لعضوية المجلس، والذين كانت أوراق اعتمادهم الوحيدة هي مناهضة البعث، لهم أن يقرروا من يجب ومن لا ينبغي توظيفه. كانت هناك في العراق عام 2003 بعد أكثر من 12 عاماً من العقوبات الكلية فرص قليلة للتوظيف خارج الحكومة. إن إعطاء المجلس سلطة تحديد توظيف العراقيين يعني أن هؤلاء القليل من المناهضين للبعثيين قد مُنحوا حق تقريي من يمكن له أن يتمتع يالحياة.
أصدر بريمر، وقرب نهاية فترة ولايته، الأمر 62 بتاريخ 28 شباط 2004 بشأن تجريد الأشخاص من الأهلية لتولي المناصب العامة. ومكّن هذا الأمر أعضاء المجلس من تحديد من كان عضواً بارزاً في الحزب. وبمجرد اتخاذ مثل هذا القرار كان بريمر يصدر قراراً باستبعاد هذا الشخص من المشاركة في الانتخابات كمرشح أو قبول ترشيحه أو توليه منصباً عاماًعلى أي مستوى.
أدى التسلسل في التشريع المذكور أعلاه الى تغيير النظام السياسي في العراق بشكل لا رجعة فيه. وعندما تم حل حزب البعث وتم تجريم المشروع القومي العربي بشكل فعال كانت المرحلة جاهزة لأي مجموعة من الناس لتأسيس ما يسمى بالأحزاب السياسية التي كان هدفها الوحيد هو المشاركة في الإدارة القادمة التي شكلها بريمر.
وقد كشف الغزاة إلى جانب جرائم الغزو والجرائم ضد الإنسانية عن نفاقهم من خلال حملتهم المزعومة لجلب “الديمقراطية” إلى العراق في منع آلاف الأشخاص الذين لم تثبت إدانتهم بأية جريمة من المشاركة في العملية الانتخابية.
استئصال نظام الدفاع العراقي
أصدر بريمر عدة قوانين قضت على الجيش العراقي ودمرت كل أسلحته وتركت العراق لأول مرة منذ 80 عاماً يعتمد على قوة خارجية للدفاع عنه وحمايته.
وفيما يلي ملخص لهذه التشريعات:
• الأمر رقم 2 بتاريخ 23 أيار 2003 لحل الكيانات العراقية
• الأمر رقم 22 الصادر في 7 آب 2003 بشأن إنشاء الجيش العراقي الجديد
• الأمر 23 الصادر في 20 آب 2003 بشأن وضع قواعد الانضباط العسكري للجيش العراقي الجديد
• الأمر 26 بتاريخ 24 آب 2003 بشأن إنشاء دائرة تأمين الحدود والسيطرة عليها
• الأمر رقم 27 الصادر في 4 أيلول 2003 بشأن إنشاء هيئة حماية المنشآت
• الأمر رقم 28 بتاريخ 3 أيلول بشأن إنشاء قوة الدفاع المدني العراقي
• الأمر رقم 42 بتاريخ 19 أيلول 2003 بشأن إنشاء وكالة دعم الدفاع
• الأمر 75 المؤرخ 15 نيسان 2004 بشأن إعادة تنظيم شركات التصنيع العسكري
• الأمر 91 بتاريخ 2 حزيران 2004 بشأن تنظيم القوات المسلحة والمليشيات في العراق
كان من بين الكيانات العديدة التي تم حلها في الأمر 2: وزارة الدفاع ووزارة الإعلام ووزارة الدولة للشؤون العسكرية وجهاز المخابرات العراقي وجهاز الأمن الوطني ومديرية الأمن الوطني (الأمن العام) ومنظمة الأمن الخاصة.
وتم حل المنظمات العسكرية التالية:
• الجيش والقوات الجوية والبحرية والدفاع الجوي والخدمات العسكرية النظامية الأخرى
• الحرس الجمهوري
• الحرس الجمهوري الخاص
• مديرية المخابرات العسكرية
• فيلق القدس
• قوات الطوارئ
وباختصار فقد حل المحتلون وخلافاً لمبادئ القانون الدولي جميع القوات العسكرية والأمنية في العراق.
وكشف الأمر رقم 22 الذي نص على تأسيس جيش عراقي جديد تحت سيطرة بريمر عن عنصر شرير آخر في أهداف غزو العراق واحتلاله. لنقرأ القسم 2 من الأمر 22:
يعلق بموجب هذا الأمر العمل بالقانون العسكري العراقي رقم 13 لعام 1940 وقانون الإجراءات العسكرية العراقي رقم 44 لعام 1941، وقانون الإخطار القانوني لأفراد القوات العسكرية رقم 106 لعام 1960، وقانون معاقبة الفارين من الخدمة العسكرية رقم 28 لعام 1972، وقانون عقوبات الجيش الشعبي رقم 32 لعام 1984.
يدعو القسم أعلاه للانتباه إلى ملاحظتين. أولاً: يدل على أن حكومة البعث لم تتدخل كما حاول أعداؤها مراراً إقناع الرأي العام الدولي في تشريعات صدرت قبلها لتلائم أهدافها الحزبية. كانت التشريعات العسكرية التي صدرت بين عامي 1940 و1960 وقبل وصول البعث للسلطة ما تزال سارية. ثانياً وهو الأهم هو أنه أظهر أن الهدف الحقيقي للغزو تجاوز بكثير البحث عن أسلحة الدمار الشامل وتغيير النظام إلى هجوم أساس على المجتمع والثقافة العراقية بشكل عام. إذ كيف يمكن أن تشعر الولايات المتحدة بضرورة قيام العراق بإلغاء التشريعات التي تم تطويرها على مدى عقود من الأنظمة المختلفة في العراق والتي كانت جزءاً من التطور الثقافي ونسيج المجتمع العراقي خاصة وأن أياً من هذه التشريعات لم يخلق أي عائق أمام حكم سلطة الائتلاف المؤقتة؟
قوات الميليشيا
لا يمكن لأي مراقب للعراق خلال السنوات التي أعقبت الغزو أن يفوته انتشار الميليشيات في جميع أنحاء البلاد. ويمكن العثور على سبب وجذور ذلك في تشريعات بريمر. فقد نصت مقدمة الأمر رقم 91 لتنظيم القوات المسلحة والمليشيات داخل العراق على أنه:
“ومدركاً بأن هؤلاء الذين قاتلوا ضد النظام البعثي في قوات المقاومة يستحقون الامتياز والفوائد كمحاربين عسكريين تقديراً لخدمتهم تجاه ابناء شعبهم،”
أما في القسم 1 الخاص بالتعريفات فإنه يعطي ما يلي:
2– “القوة المسلحة” وتعني مجموعة منظمة من الافراد تحمل اسلحة نارية او عموم الأسلحة، ومصطلح “القوة المسلحة” يشمل القوات الحكومية والميليشيات.
3- “الميليشيا” وتعني قوة عسكرية او شبه عسكرية ليست جزء من القوات المسلحة العراقية او القوات الامنية العراقية المكونة بموجب اوامر سلطة الائتلاف المؤقتة وقوانينها ومذكراتها او بموجب القانون الفيدرالي العراقي وقانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية.
4– “شركة امنية خاصة” وتعني عملاً خاصاً في هيئة مسجلة بشكل صحيح في وزارة الداخلية ووزارة التجارة وتسعى للحصول على فوائد تجارية ومنفعة مالية عن طريق توفير الخدمات الامنية للافراد والاعمال التجارية والمنظمات الحكومية او المنظمات الاخرى. وتخضع هذه الشركات وتعمل بموجب القوانين والانظمة الجنائية والادارية والتجارية والمدنية النافذة ما لم تستثنى بموجب امر سلطة الائتلاف المؤقتة رقم 17: الذي يخص وضع التحالف وبعثات الارتباط الاجنبية وملاكهم ومتعهديهم”.
أدى الأمر المذكور أعلاه إلى نتيجتين كان لكل منهما عواقب وخيمة على العراق. الأولى هي انتشار المليشيات ودمجها في الجيش العراقي الجديد وقوات الأمن. والثانية هي إنشاء جيش جديد وصل عدده إلى 190 ألفًا في خدمة شركات الأمن الخاصة بحلول عام 2008. ونظراً لأن معظم هؤلاء المرتزقة كانوا جنوداً سابقين من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وجنوب إفريقيا وأستراليا فإنه لا توجد حاجة إلى ذكاء مفرط لإدراك الأخطار التي يمكن أن تشكلها مثل هذه القوة العسكرية على بلد به جيش صغير إن وجد. فقد كفل بريمر في الأمر رقم 17 المعدل أن جميع أعضاء شركات الأمن الخاصة يتمتعون بالحصانة من “العملية القانونية العراقية” مما سمح لهم بالعمل بالإفلات من العقاب خارج القانون حيث لا يخضعون للمساءلة أمام أحد. إن حادثة مجزرة بلاكووتر ليست سوى مثال واحد على مثل هذا الوضع الذي أوجده بريمر.
ويمكن للمرء، في ضوء إرث بريمر، أن يفهم ما حدث في العراق من المجازر الطائفية التي ارتكبتها الميليشيات المسلحة التي أثنى عليها بريمر وسمح لها بالعمل على أساس أنها عارضت حزب البعث.
تدمير الصناعة العسكرية العراقية
في ديباجة الأمر 75 لإعادة تنظيم الشركات الصناعية العسكرية قرر بريمر ما يلي:
“وادراكاً منه بأن الكثير من شركات الدولة التي كانت منخرطة سابقاً في الانتاج الصناعي العسكري (والتي كان يشار لها بعبارة ” الشركات الصناعية العسكرية ”) أصبحت عاطلة ومهجورة الى حد كبير في جميع انحاء العراق،
وتعبيراً عن قلقنا الناجم عن ان المباني ومصانع الشركات التي كانت ملحقة في السابق بهيئة الصناعات العسكرية (او ” الشركات الصناعية العسكرية ” ) غالباً ما تحتوي على مخزون احتياطي من المواد والمعدات التي لا تزال صالحة للاستخدام في اعمال عنف ضد قوات التحالف وضد شعب العراق، وان موظفي هذه الشركات لا يزالون يشغلون بدون داع وظائف لا تنسجم مع مؤهلاتهم وقدراتهم، ويعجزون عن استعمال مهاراتهم لتعزيز رفاهية العراق،”
ثم استطرد بريمر ليقرر:
“يعزز هذا الامر النظام العام والسلامة لشعب العراق عن طريق توفير سبل تأمين وإتلاف المواد التي تم التخلي عنها بعد اغلاق الشركات الصناعية العسكرية في جميع انحاء العراق.”
استخدم بريمر الحجة الواهية حول الخطر المزعوم على قوات التحالف من المواد الموجودة في المواقع الصناعية العسكرية ليأمر بتدمير الصناعة العسكرية العراقية بالكامل. ومن الواضح أن بريمر حرص على عدم بقاء أية صناعة عسكرية في العراق بغض النظر عن تاريخ إنشاء تلك الصناعة.
وتم بعد تدمير الصناعة العسكرية العراقية والأسلحة شحن جميع الحديد الناتج عن تحويل آلاف الأطنان من الآلات الصناعية والدبابات وناقلات الجنود والمدفعية وما إلى ذلك إلى خردة معدنية إلى الأردن. وتم بيع جميع المعدات والأسلحة التي كلفت العراق مليارات الدولارات على أنها خردة معدنية. لا نعرف من باع الخردة المعدنية أو من حصل على المال مقابلها ولم يعط بريمر إلا إشارة واحدة لما كان يحدث عندما نصح في المذكرة رقم 8 بتاريخ 25 كانون الثاني 2004 أنه “ لا تُصدّر المعادن من العراق، بما في ذلك المعادن المستهلكة أو الخردة، بدون الحصول على ترخيص بذلك من وزارة التجارة. يسري هذا الحظر اعتباراً من اليوم الأول من شهر شباط/ فبراير 2004. ويجوز تصدير المعادن المستهلكة أو الخردة من العراق قبل هذا التاريخ بدون الحصول على ترخيص بذلك، باستثناء المستهلك أو الخردة من النحاس والرصاص.“.
كان العراق الدولة العربية الوحيدة التي شاركت في المناوشات القصيرة عام 1948 مع دولة إسرائيل ولم توقع هدنة معها. دعم العراق مصر وسوريا في حرب 1967 وشارك في حرب 1973 إلى جانب السوريين في مرتفعات الجولان. وأخيراً وليس آخراً كان العراق أول دولة عربية تجرأت على مهاجمة تل أبيب عندما أطلقت حوالي 39 صاروخاً عليها في عام 1991. لقد كان إنجازاً كبيراً لإسرائيل للتخلص من أي تهديد ليس فقط من الجيش العراقي ولكن أيضاً من صناعة عسكرية عراقية محتملة دون الاضطرار إلى إطلاق رصاصة أو خسارة جندي واحد. كان هذا في اعتقادنا في قلب الهدف من غزو العراق وكانت هذه مهمة بريمر وقد حققها لإسرائيل.