الفصل التاسع
الحق في التعويض
عمل مجلس الأمن على مدى عقود بمنأى عن العقاب باعتباره محكمة قانونية تصدر أحكاماً على الدول: فرض عقوبات على الأبرياء وحرمانهم من حقوقهم الإنسانية الأساسية وحتى إضفاء الشرعية على الحروب الظالمة باسم تأمين السلم والأمن الدوليين. وقد حددنا في الجزء الأول من كتابنا هذا الإبادة الجماعية في العراق الجرائم التي ارتكبها الاستكباريون ضد الشعب العراقي خلال سنوات الإبادة الجماعية من الحصار الشامل والدور الشائن والمتواطئ الذي لعبه مجلس الأمن في هذه الجرائم . وسوف نحدد في هذا الفصل الجرائم التي ارتكبت منذ الغزو وننظر في سبل الانتصاف المتاحة لشعب العراق. وتشكل كلتا قائمة الجرائم معاً إدانة خطيرة لكل من شارك فيهما وأذعن أو التزم الصمت عند ارتكاب هذه الجرائم.
إنها وصمة عار للضمير الغربي.
حرمة قرارات مجلس الأمن
نظرًا لأن المنتصرين في الحرب العالمية الثانية سيطروا على مجلس الأمن فليس من المستغرب جداً عدم اتخاذ أي من الإجراءات العقابية المتاحة بموجب ميثاق الأمم المتحدة ضد تلك القوى أو حلفائها المباشرين وعملائها. كما أن الافتراض القائل بأن مجلس الأمن يحق له التصرف بفعالية كقضاء وسلطة تنفيذية عالمية حاكمة لم يقبله القضاء في الغرب فحسب بل رحب به أيضاً لأنه أنقذهم من الإحراج من الاضطرار إلى إيجاد حجج لرفضهم سماع صوت صارخ ضد انتهاكات القانون الدولي التي ترتكبها حكوماتهم. وهذا يعني فعلياً أن الجرائم قد ارتكبت ولكن لم يتم عقابها على أساس أن هذه الأفعال قد ارتكبت تحت سلطة قرار من مجلس الأمن.
وقد لخص اللورد هوب هذا بشكل أفضل في التعبير عن عدم قدرته على الاستماع إلى قضية انتهاك محتمل للقانون لأنه يعتقد أن السلطات في العراق كانت تتصرف تحت سلطة مجلس الأمن .
فالمسألة حتى الآن هي شرعية مجلس الأمن.
لم تكن القرارات وتنفيذها مفتوحين للنقاش أو الجدال على نطاق واسع في المملكة المتحدة. كانت الحكمة السائدة هي أنهم عندما يتعاملون مع قضايا السياسة الدولية يظلون خارج اختصاص المحاكم وهذا هو القانون الذي تؤيده المملكة المتحدة ومحكمة العدل الدولية.
إن الرأي السائد في السلطة القضائية في كل من المملكة المتحدة ومحكمة العدل الدولية هو أن الأمور التي تتناول السياسة الدولية والأمن القومي والدفاع هي أفعال دول وبالتالي لا ينبغي مراجعتها حتى إذا كانت تثير مسائل قانونية. أما فيما يتعلق بقابلية تنفيذ قرارات مجلس الأمن فقد كان القانون في إنجلترا هو أن هذه القرارات يتم إنفاذها تلقائياً وليست مفتوحة للمراجعة من قبل المحاكم . فقد قضت محكمة العدل الدولية في قضية لوكربي بأن قرار مجلس الأمن الذي تم تبنيه بعد أن بدأت محكمة العدل الدولية في النظر في القضية قد أبطل سلطتها في المضي في النظر في القضية . ويعرض هذا مشكلة خطيرة في القانون الدولي: فهو يمكّن أي عضو دائم في مجلس الأمن عند وجود نزاع مع دولة أصغر من اللجوء إلى مجلس الأمن إما لتأمين حل أو إعلان بأن مجلس الأمن معنية بالمسألة وبالتالي إحباط أية إمكانية للفصل القضائي في النزاع. إن مثل هذا المشهد يضر بمصالح الأطراف الصغيرة في النزاعات وقد يؤدي إلى إجهاض العدالة. ولكن الأهم من ذلك في رأينا أنه يضع مجلس الأمن فوق القانون.
ومع ذلك فمن المنعش أن ندرك أن هذه الحالة التي لا يمكن تحملها أصبحت على وشك التغيير. فقد أصدرت المحكمة الأوروبية حكماً لا مثيل له في القانون الدولي منذ إنشاء الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية.
توصلت محكمة العدل الأوروبية إلى آراء مخالفة للآراء السائدة أعلاه. ففي قضية “قاضي” تم التعبير عن رأي مخالف للرأي السائد في المملكة المتحدة بشأن المراجعة القضائية للقضايا السياسية. ونظرت محكمة العدل الأوروبية في مسألة العلاقة بين النظام القانوني الدولي في ظل الأمم المتحدة والنظام القانوني للمجموعة وخلصت إلى:
يجب ألا يغيب عن الأذهان في هذا الصدد أن المجموعة تقوم على سيادة القانون حيث إنه لا يمكن للدول الأعضاء أو مؤسساتها تجنب مراجعة توافق أعمالهم مع الميثاق الدستوري الأساس ومعاهدة الجماعة الأوروبية والتي وضعت نظاماً كاملاً للتعويضات والإجراءات القانونية المصممة لتمكين محكمة العدل من مراجعة شرعية أفعال المؤسسات (القضية 294/83 ليس فيرت ضد البرلمان [1986] ECR 1339 ، الفقرة 23) .
تم التعبير عن أقوى رأي من قبل المدعي العام بواريس مادورو في قضية “قاضي” حيث قال: “إن التلميح إلى أن القضية الحالية تتعلق” بمسألة سياسية ” والتي من غير المناسب فيها حتى أدنى درجة من التدخل القضائي هو في رأيي لا يمكن الدفاع عنه. إن الادعاء بأن تدبيراً ما ضرورياً للحفاظ على السلم والأمن الدوليين لا يمكن أن يعمل من أجل إسكات المبادئ العامة لقانون المجتمع وحرمان الأفراد من حقوقهم الأساس ” . ونحن نقترح هنا أن يكون هذا هو المبدأ بموجب القانون الدولي.
أما فيما يتعلق بمسألة فحص مدى توافق قرارات مجلس الأمن مع القانون الدولي فقد رأت المحكمة الابتدائية أنه من الممكن للمحاكم المحلية التشكيك في مدى توافق قرارات مجلس الأمن مع القواعد الآمرة .
على الرغم من أنه لم يتم اقتراح ذلك قبل قيامنا بذلك في الجزء الأول من كتاب الإبادة الجماعية في العراق إلا أننا نعتقد أن الشعب العراقي لديه قضية في محكمة قانونية ضد مجلس الأمن في تلك التركيبة الخاصة للدول الفردية التي صوتت لصالح فرض الحصار الكلي على العراق واستمراره لمدة اثني عشر عاماً كإجراء ينتهك حقوق الإنسان الأساس لشعب العراق وهو المسؤول المباشر عن مقتل الأبرياء على نطاق واسع. ونعتقد إلى جانب ذلك أن الشعب العراقي لديه قضية يمكن رفعها بحق ضد أعضاء مجلس الأمن والتي صوتت بالموافقة على ما كان (كما اعترف لاحقاً الأمين العام لمجلس الأمن) غزوا ًغير قانوني للعراق بموجب القانون الدولي ومنحوا الولايات المتحدة / المملكة المتحدة سلطة حكم العراق مسببة الدمار والضرر المستمر والقائم حتى بعد عشر سنوات من الغزو. قد يتم رفع مثل هذه الإجراءات من قبل الأفراد أو كإجراء جماعي وستكون أية محكمة قانونية أوروبية وطنية ملزمة بالنظر في أي طلب من هذا القبيل في ضوء حكم المحكمة الأوروبية أعلاه.
جريمة العدوان
سيكون من الطبيعي فقط لصانعي السياسة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أن ينكروا أنهم شنوا عمداً حرباً عدوانية. ولكن متى اعترف غاز في التاريخ بمثل هذا؟ تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 14 كانون الأول 1974 القرار رقم 3314 الذي حدد العدوان وأدانه . وعندما كان يتم التفاوض على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في التسعينيات كانت هناك خلافات حول اعتماد تعريف لـ “العدوان” بحيث يمكن إدراجه في النظام الأساسي. وهكذا عندما اعتُمد قانون روما الأساسي (كما أصبح معروفاً) في عام 2002 ترك التعريف ليتم ملؤه في مرحلة لاحقة. وبعد مزيد من المفاوضات تم اعتماد قرار في 11 حزيران 2010 تضمن في النظام الأساسي تعريفًا لجريمة العدوان .
صحيح أن تعريف جريمة العدوان تم اعتماده بعد غزو العراق لكن هذا التعريف بالذات تم قبوله من قبل العالم منذ فترة طويلة باعتباره يشكل معنى العدوان وتم إدراجه في قرار الجمعية العامة رقم 3314 الذي يرقى إلى مبدأ بموجب القانون الدولي العرفي كان سائداً حتى قبل اعتماد نظام روما الأساسي. ونحن نسلم بأن تعريف العدوان كما تم اعتماده وإدراجه في نظام روما الأساسي لعام 2010 كان بالفعل مبدأ قانونياُ صالحاً في عام 2003 وبالتالي ينطبق على عمل غزاة العراق. ويمكن أن نرى بسهولة أن “جريمة العدوان” قد ارتكبت من قبل الولايات المتحدة / المملكة المتحدة في غزو العراق لأن الإجراءات التالية كما هو مدرج في النظام الأساس تعكس الأعمال العسكرية للولايات المتحدة / المملكة المتحدة:
الغزو أو الهجوم من قبل القوات المسلحة لدولة ما على أراضي دولة أخرى أو أي احتلال عسكري وإن كان مؤقتاً ناتجاً عن هذا الغزو أو الهجوم أو أي ضم باستخدام القوة لإقليم دولة أخرى أو لجزء منها؛…
قيام القوات المسلحة لدولة ما بمهاجمة القوات البرية أو البحرية أو الجوية أو الأسطولين البحري والجوي لدولة أخرى.
ويترتب على ذلك أن الشعب العراقي كان يمكنه رفع قضية ضد حكومتي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وضد أفراد رسميين في كلتا الدولتين اتخذوا قرار غزو العراق. ويمكن رفع مثل هذه الإجراءات القانونية من قبل حكومة العراق أو مباشرة من قبل المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية. لكن من المشكوك فيه أن أي حكومة حالية في العراق ستتخذ مثل هذا الإجراء لأن هذه الحكومات تدين بوجودها للغزاة وما تزال تعتمد على الولايات المتحدة لبقائها السياسي – كما يتضح من ندائهم عام 2014 للحصول على دعم الولايات المتحدة في مقاومة الدولة الإسلامية. وباختصار فإن كل حكومة في العراق منذ عام 2004 كانت عميلة للولايات المتحدة وسيكون من غير الواقع لهذا توقع قيام حكومة عراقية بأي إجراء من هذا القبيل.
إلا أنه لا يوجد سبب قانوني يمنع الأفراد العراقيين من الاتصال بالادعاء في المحكمة الجنائية الدولية لطلب إجراء تحقيق لبدء مثل هذه الإجراءات الجنائية. إن مثل هذا الإجراء متاح بالمثل أمام المحاكم المحلية في مثل هذه البلدان التي تمارس الولاية القضائية في القانون الجنائي الدولي. ويجب التأكيد على أنه لا يوجد دفاع في جريمة العدوان على أن الناس قد دعوا المحتل ليأتي لإنقاذهم أو أن الحكومة المنتخبة التي أعقبت الغزو قد تغاضت عن الغزو فيما بعد. إذ يعد القتل مرتكباً حتى لو كان الميت قد دعا القاتل إلى القتل. وستستمر جريمة العدوان في العراق بمجرد التأكد من أن الأفعال المذكورة أعلاه قد حدثت وأن الجناة كان لديهم الركن المعنوي لارتكاب هذه الأعمال. وقد تم تعريف الركن المعنوي في المادة 30 من نظام روما الأساسي . ونعتقد أنه سيكون من السهل أن نثبت للمحكمة أن الركن المعنوي كان موجوداً لأن كلاً من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قصدتا القيام بغزو العراق. لقد كان عملاً مخططاً وليس حادثاً. وإلى جانب ذلك كانوا على بنية وعلى دراية بعواقب الغزو.
ونود أن نضيف ملاحظة مهمة قبل الشروع في النظر في تفاصيل الجرائم المتعلقة بمعنى الاحتلال. كانت الولايات المتحدة / المملكة المتحدة حريصة للغاية على دعوة مجلس الأمن لتبني قرارات تعلن وجود حكومة ذات سيادة في العراق في محاولة واضحة للتهرب من أي مسؤولية قانونية لحكم العراق. ومع ذلك وبموجب القانون الدولي يستمر احتلال بلد ما طالما لم يتم طرد القوات الأجنبية التي تسيطر عليه أو سحبها طواعية. وبالتالي تظل كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة مسؤولة عن الجرائم التي ارتكبت في العراق حتى رحيل آخر جندي احتلال ولا يمكن لأي قرار من مجلس الأمن الدولي تغيير هذه الحقيقة أو إلغاء المسؤولية القانونية.
جرائم استخدام أسلحة الدمار الشامل
ناقشنا في الفصل الثامن استخدام أسلحة الدمار الشامل كما هو محدد هناك وتأثيرها المحتمل على كل من الصحة العامة والأمراض المحددة. ويجب أن نؤكد على قضية مهمة للغاية تم إخفاؤها بذكاء من قبل الغزاة وداعميهم العلميين والقانونيين وتتعلق بالمبدأ الأساس المنصوص عليه في المادة 36 من البروتوكول الأول لعام 1977 لاتفاقيات جنيف لعام 1949 والتي تنص على ما يلي:
يلتزم أي طرف سام متعاقد عند دراسة أو تطوير أو اقتناء سلاح جديد أو أداة للحرب أو اتباع أسلوب للحرب بأن يتحقق مما إذا كان ذلك محظوراً في جميع الأحوال أو في بعضها بمقتضى هذا الملحق “البروتوكول” أو أية قاعدة أخرى من قواعد القانون الدولي التي يلتزم بها الطرف السامي المتعاقد .
يتضح من النص أن واضعيه قدّروا الصعوبة التي قد يواجهها المدني في إظهار أن سلاحاً جديداً قد تسبب في إصابته أو إلحاق الضرر به. لكن الملحق الأول خلافاً للمبدأ العادي بموجب القانون الجنائي نقل عبء الإثبات من المدعي إلى المتهم. ومن واجب مستخدمي الأسلحة الجديدة مثل اليورانيوم المنضب والفوسفور الأبيض إثبات أن أسلحتهم الجديدة تتوافق مع مبادئ القانون الدولي. ونحن نسلم بأن الولايات المتحدة / المملكة المتحدة لم تقدم بعد أي دليل علمي بما في ذلك اختبارها لهذه الأسلحة الجديدة لإثبات أنها تتوافق بالفعل مع قواعد القانون الدولي. أما الادعاء ببساطة كما فعلوا على مدار العشرين عاماً الماضية أنه لا يوجد دليل لربط أي حالة وفاة أو مرض باستخدام هذه الأسلحة فهو لا يكفي للوفاء بمعايير المادة 36 وهم بحاجة إلى تقديم أدلة لدعم مزاعمهم.
إن الارتفاع المفاجئ في معدلات الإصابة بالسرطان خاصة بين الأطفال والارتفاع المقلق في تشوهات الولادة في المناطق التي شهدت نشاطاً عسكرياً مكثفاً خلال هجوم عام 1991 وغزو عام 2003 وما بعده واكتشاف المعادن الثقيلة في خلايا آباء هؤلاء الأطفال هي أسباب لرفع دعاوى قضائية ضد الولايات المتحدة / المملكة المتحدة بتهمة انتهاك المادة 36. ونحن نعتقد أنهما لن تكونا قادرتين على تلبية متطلبات المادة 36 لإثبات أن هذه الأسلحة الجديدة تتوافق مع قواعد القانون الدولي.
وبافتراض الاحتمال البعيد أن علماء الولايات المتحدة والمملكة المتحدة يمكن أن يتوصلوا إلى أدلة علمية من أبحاثهم وقياساتهم التي لا تظهر أي صلة بين النشاط الإشعاعي لليورانيوم المنضب والارتفاع الفلكي في السرطانات والأمراض الأخرى فإنه سيكون من المستحيل إثبات أن اليورانيوم والفوسفور على سبيل المثال ليسا سامين فقد ثبت علمياً أنهما كذلك. كما ثبت قانوناً أن استخدام المواد السامة في الحروب ممنوع وهذا هو واحد من أقدم المبادئ الراسخة للقانون العرفي لمبادئ الحرب ويعود تاريخه إلى عام 1675 عندما تم توقيع اتفاقية ستراسبورغ التي تحظر استخدام الأسلحة الكيميائية والتي شكلت فيما بعد قواعد ملحق جنيف لعام 1925.
وباختصار فإن لدى العراقيين قضية لرفع دعوى ضد مرتكبي هجوم عام 1991 وغزو عام 2003 لاستخدامهم أسلحة محظورة بموجب قواعد القانون الدولي بحكم كونها إما مشعة أو سامة أو كليهما. وغني عن القول إن أي نجاح لأي إجراء قانوني من قبل أي عراقي في مثل هذه الحالة سيفتح الأبواب أمام موظفي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لمقاضاة حكومتيهم لإخضاعهم لمثل هذه الأسلحة بعد أن عملوا إما في نقلها أو تسليمها والعكس صحيح.