الجزء الثاني و العشرون — الإبادة في غزو العراق واحتلاله

صياغة الدستور الدائم

 

شكل المحتلون البريطانيون للعراق بعد الحرب العالمية الأولى في عام 1921 لجنة من المواطنين البريطانيين لصياغة دستور جديد للعراق الحديث. وفي عام 1923 قدمت اللجنة مشروع دستور تم عرضه على لجنة عراقية لدراسته. واستغرقت اللجنة العراقية عامين قبل اعتماد “القانون الأساس للدولة العراقية” بشكل نهائي في عام 1925.

 

إلا أن المحتلين الأمريكيين للعراقيين لم يقتربوا بأي شكل من الأشكال من تلك الفترة الزمنية للعملية. ففي عام 2005 أجبروا العراق على صياغة دستور في وقت قصير للغاية وبحلول تشرين الأول 2005 ذهب العراقيون للتصويت على دستور دائم لم يروه أو يقرؤوه أو يدرسوه أو يناقشوه أو يصوغوه . قد لا يكون من السهل فهم سبب تصويت العراقيين لدستور لم يقرؤوه أو يناقشوه أبداً لكن هناك عوامل مثل حالة الصدمة بعد الغزو وتوقع الهدوء بعد ثلاثين عاماً من الحروب والوعود المضللة للقادة الدينيين. وقد يفسرها جزئيا دور العراقيين المنفيينً. ولم يكن التسرع في صياغة وفرض الدستور الذي وصفه أحد الأساتذة العراقيين بأنه “تم إسقاطه من مروحية على بغداد”   كما اقترح البعض لأن الخسائر الأمريكية الفادحة التي تكبدتها في العراق دفعت صانعي السياسة الأمريكيين إلى تبني سياسة وخطة خروج مبكر . لم يكن غزو العراق واحتلاله حادثاً تاريخياً ولا حدثاً مفروضاً بالضرورة بل كان سلسلة من الإجراءات محسوبة ومخطط لها بشكل جيد للغاية تهدف إلى تفكيك الدولة العراقية وإبقاء العراق مجزءاً لأطول فترة ممكنة بما يخدم مصالح خطط الاستكبار الصهيوني للعالم العربي. إن معظم الدمار الذي حل بالعالم العربي وأطلق عليه خطأ “الربيع العربي” ما كان ليحدث لولا سقوط بغداد في أيدي الصهاينة.

 

لا ننوي هنا تحليل إخفاقات دستور 2005 لأن مثل هذا العلاج يحتاج إلى كتاب كامل لكن في نيتنا تحديد أوجه القصور الرئيسة التي ساهمت في التدمير المستمر للعراق والتي تتجلى آثارها في ما يجري في العراق حالياً.

 

لم تكن صياغة دستور 2005 مختلفة تماماً عن تلك الخاصة بالقانون الإداري الانتقالي الذي كما أشرنا بالفعل ظهر فجأة على موقع سلطة الائتلاف المؤقتة دون أية إشارة إلى عملية صياغته أو اعتماده. لن نتفاجأ إذا اتضح لاحقاً أن كلاهما تمت صياغتهما من قبل نفس مجموعة الخبراء الأمريكيين. إنه لأمر مضلل أن نقول إن العراقيين صاغوا الدستور بدعم من الولايات المتحدة . ولا يكفي الإشارة إلى أن لجنة صياغة الدستور المكونة من 55 عضواً قد عهد إليها بمهمة صياغة الدستور لأنهم كانوا يفتقرون إلى الخبرة في الشؤون الدستورية وكانوا منحازين على أسس عرقية وطائفية وهي الأسس التي تم اختيارهم بموجبها وتم توجيههم باستمرار من قبل سفير الولايات المتحدة بشأن ما كانت ستقبله الولايات المتحدة وما لم تكن لتقبله

 

ولعل الميزة الأكثر لفتاً للنظر في دستور 2005 هي لغته. ذلك لأن أي شخص يعرف اللغة العربية سوف يستنتج بعد قراءته أنه لا يمكن صياغته باللغة العربية مما يوحي بأنه كتب في الأصل باللغة الإنجليزية وترجم إلى العربية . يتضح هذا من المادة 1 حيث يتم تعريف جمهورية العراق باللغة العربية على أنها ” دولة اتحادية واحدة” والتي تترجم إلى اللغة الإنجليزية على أنها “دولة وحدوية فيدرالية”. ولسنا بحاجة إلى فيلسوف سياسي عظيم لندرك أن المترجم لم تكن لديه فكرة عما كان يترجمه لأن الدولة لا يمكن أن تكون في تعريفها “اتحادية” و “وحدوية” في وقت واحد.

 

خلق دستور 2005 مشاكل أكثر مما حل وسنحدد أوجه القصور الرئيسة للدستور على النحو التالي:

 

  1. إلغاء الهوية العربية للعراق

 

نعتقد أن أهم تغيير في الواقع السياسي في العراق والذي أدخله الدستور الجديد هو نفي الهوية العربية للعراق. وهذا مهم ليس لمجرد أن العراق عربي بنسبة 80٪ ولكن لأنه تحول عن دساتير العراق السابقة التي نصت على الهوية العربية للعراق. إن في الدول الكبيرة مثل الصين وروسيا والولايات المتحدة أعراق متنوعة للغاية لكن هذه الحقيقة لم تمنع أياً من هذه الدول من أن تحمل هوية العنصر العرقي الرئيس فيها. لا يمكن المجادلة بأن بسبب كون أكراد العراق يشكلون حوالي 15٪ من سكانه يكفي لتجريد العراق من قوميته العربية.

 

ولدى الأكراد أحد خيارين: إما قبول حقيقة الهوية العربية للعراق والبقاء في عراق موحد أو اختيار الانفصال وإقامة دولتهم الكردية المستقلة. أي بعبارة أخرى لا ينبغي للأكراد أن يتوقعوا أن يكون لهم كلا الاتجاهين، حين يصرون من ناحية على الحصول على منصب رئيس الجمهورية بينما يطالبون في نفس الوقت بحقهم في التصرف كما يحلو لهم داخل إقليم كردستان. لقد اعتقدنا دائماً أن يكون الأكراد حق تقرير المصير في المنطقة التي يعيشون فيها في تركيا وإيران والعراق وسوريا تماماً مثل أية دولة أخرى تم منحها مثل هذا الحق منذ الحرب العالمية الأولى. ولا يمكن للقومية العربية أن تعبر عن نفسها بشكل عادل دون الاعتراف بحق الآخرين في العيش بشكل مستقل عنها.

 

أصدر اللواء عبد الكريم قاسم الذي قاد ثورة 1958 لتأسيس جمهورية العراق دستوراً قصيراً يتكون من حوالي 30 مادة. لم يكن قاسم بعثياً ولا قومياً عربياً وكلاهما تآمر للإطاحة به وقتله في عام 1963. لكن قاسم أكد في دستوره لعام 1959 أن العراق جزء مما كان يعتبره أمة عربية أوسع. وقد وضع البعثيون الذين حكموا العراق من 1968 إلى 2003 هذه الهوية موضع التنفيذ بجعل معركة العراق ضد القوى المعادية للقومية العربية المتمثلة بالصهيونية العالمية.

 

ومع ذلك فإن دستور 2005 الذي صاغه الصهاينة لعراق “ديمقراطي” جديد والذي أيده الأكراد بقصد القضاء على هوية العراق التي تعود إلى قرون، وأيدته القوى الإسلامية التي تكره القومية وتهدف إلى تجريد العراق من هويته العربية وإبقائه مشغولاً بالقتال الداخلي وإخراجه تماماً من الصراع العربي الإسرائيلي الذي كان العراق العمود الفقري له لمدة خمسين عاماً. وهكذا فإن المادة 3 من دستور 2005 لم تعد العراق جزءاً من الأمة العربية كما كان منذ ألف عام بل إنه “عضو مؤسس وفعال في جامعة الدول العربية وملتزم بميثاقها و جزء من العالم الإسلامي”. وغني عن القول إنه أمر مختلف تماماً أن تكون جزءاً من كل وأن تطمح إلى الاتحاد مع الكل وأن تكون عضواً في منظمة أنشأها المستعمرون بعد الحرب العالمية الثانية لمنع الوحدة العربية من التبلور على الإطلاق.

 

  1. الطبيعة الاتحادية للدولة

 

كان العراق دولة موحدة بشكل أو بآخر منذ العصر البابلي على الرغم من تنوع الأعراق والأديان والمذاهب. كان هذا الواقع السياسي جزءاً من تاريخ العراق السياسي وثقافته ولا يمكن تغييره إلا بالإرادة الحرة للشعب العراقي. ومع ذلك قرر الساسة الأمريكيون أن العراق يجب أن يصبح “دولة فيدرالية” وجعلوا ذلك جزءاً من المادة الأولى من الدستور. لا توجد ترجمة دقيقة باللغة العربية للكلمة الإنجليزية “فيدرالية”. كان الاختيار باللغة العربية “الاتحاد” لكن هذه الكلمة باللغة العربية تعني توحيد الكيانات المنقسمة معاً والتي هي غريبة عن التاريخ السياسي والثقافي للعراق. وحتى لو كان المرء يفترض أن السياسيين الأمريكيين الذين اتخذوا قرار جعل العراق “دولة فيدرالية” كانت لديهم نوايا حسنة فإن اختيارهم للفيدرالية يظل قصير النظر لأن العراق لم يتشكل مثل الولايات المتحدة من خلال توحيد الولايات التي ولدت من الأحداث التاريخية المختلفة والتي بلغت ذروتها في الحرب الأهلية الدموية.

 

أضافت جميع المواد الأخرى في الدستور التي تلتها لتوضيح العلاقة بين السلطة الاتحادية وسلطة الأقاليم مزيداً من الغموض الذي يكتنف الدستور وسبب النقاش. سوف نتعامل مع القضية الكردية التي يمكن أن تستخدم كسبب دستوري لتأسيس العراق كـ “دولة فيدرالية” فيما بعد لكننا سنتعامل مع مشكلة إنشاء أقاليم في العراق بعد عام 2005. يتناول القسم الخامس من الدستور التشكيل وصلاحيات المناطق. وتُعرِّف المادة 115 جمهورية العراق بأنها تتكون من “عاصمة واقاليم ومحافظات لامركزية وادارات محلية. ” ويعترف الدستور في المادة 117 بأن اقليم كردستان وسلطاته القائمة اقليم اتحادي. ومع ذلك إذا كان من الممكن فهم أن العراقيين بشكل عام قد قبلوا بحلول عام 2003 وجود إقليم كردستان شبه المستقل فلن يكون من الممكن فهم سبب المادتين 119 و121. حيث تنص المادة 119 على أن “يحق لكل محافظة أو اكثر تكوين اقليم بناء على طلب بالاستفتاء عليه” وتتناول المادة 121 (ثانيًا) حالة التعارض بين التشريع الإقليمي الذي مكنت المادة 120 كل إقليم من اعتماده وبين التشريع الوطني على النحو التالي:

 

المادة 121

ثانياً

يحق لسلطة الاقليم تعديل تطبيق القانون الاتحادي في الاقليم، في حالة وجود تناقض أو تعارض بين القانون الاتحادي وقانون الاقليم بخصوص مسألةٍ لاتدخل في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية .

 

إن من المستحيل أن نرى كيف يمكن للولايات المتحدة أن تجادل بأنها تنوي أن يكون للعراق دولة فيدرالية موحدة عندما يمكّن الدستور الذي صاغته كل محافظة من سن قوانين تحل محل التشريعات الوطنية.

 

وليس من الصعب أن نرى كيف يمكن أن تؤدي مثل هذه البنود إلى مطالب للسلطات الإقليمية التي تتحدى الحكومة المركزية وتؤدي إلى عراق “ديمقراطي” أكثر انقساماً. وقد بذلت محاولات قليلة لإنشاء مثل هذه المناطق وتشير الاضطرابات الحالية إلى احتمال حدوث المزيد من المحاولات منها ما قد تكون ناجحة لإنشاء مثل هذه المناطق على قواعد طائفية.

 

لعل مشكلة الادعاء المزعوم للولايات المتحدة بأنه يجب أن يكون هناك عراق اتحادي/ فيدرالي بحق هو أنه لم يستند إلى أي حجة سياسية قابلة للتطبيق. لا يمكن للفيدرالية أن تقوم على أسس عرقية وطائفية وتبقى تدعي أنها تمثل مصلحة الأمة. فالعرق يقسم العراق بين العرب والأكراد والطائفية تقسمه بين السنة والشيعة لكن هذين التقسيمين غير متوافقين لأن الانقسام الطائفي يتجاوز العرق. وبمجرد أن تقوم دولة في العراق على أسس طائفية على عكس القواعد العلمانية التي تم تأسيس العراق عليها منذ الحرب العالمية الأولى فإن حجة القومية تختفي وتسيطر الطائفية وهذا بدوره يعني أن كل سني وكل شيعي في العالم يصبح متورطاً في دولة العراق. وسوف يدعم مئات الملايين من الشيعة في العالم الدولة الشيعية الجديدة في العراق التي تمثل “بيت علي” الذي اغتصبت حقوقه قبل 13 قرنا – سواء أحبوا ذلك أم أبوا كما نرى الآن مع دفاع إيران عن الشيعة في العراق الذين يتعرضون لهجوم داعش بغض النظر عن آراء خامنئي السلبية حول الدور الذي لعبه السيستاني المشار إليه أعلاه. ويمكن لمليار سني في العالم من ناحية أخرى أن ينتفضوا كما فعلت المملكة العربية السعودية بالتواطؤ مع الأمريكيين ضد اغتصاب حق “بيت عائشة ” الذي حكم العراق بحكم تطور وجوده الديني فيه. إن الجدل حول قمع أغلبية من السكان الشيعة من قبل أقلية سنية طالبت بمثل هذا التغيير لن تصمد بين المليار من السنة الذين سيتمكن الأصوليون السنة من تجنيدهم إلى ما لا نهاية. ولا يمكن بناء دولة على أسس دينية أو طائفية ثم القول بأنه من المناسب القيام بذلك بالاعتماد على حق الشعب في الاختيار ضمن حدود تلك الدولة الوطنية. 

 

إن من المضلل الحديث عن الأغلبية الشيعية والأقلية السنية وهو ما يبدو أنه نهج ساذج لبعض من يسمون بالمتخصصين في العالم العربي في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. لا يمكن أن يحكم العراق على أسس طائفية من قبل السنة باستثناء الشيعة مهما كان عدد هؤلاء الشيعة. وبالمثل لا يمكن أن يحكمها الشيعة على أسس طائفية لاستبعاد السنة مهما كانت أقلية السنّة صغيرة. فالعراق يتكون من الشيعة والسنة على حد سواء بغض النظر عن نسبة كل طائفة والطريقة الوحيدة التي يمكن لدولة العراق أن تحيا بها هي إذا تم إضفاء الطابع المؤسسي عليها كدولة علمانية يتمتع فيها كل من الشيعة والسنة بالحرية المطلقة للمطالبة بها على أنها دولتهم. وقد أدى الخوف بين أبناء الطائفتين منذ الغزو والاحتلال والفراغ الذي أحدثاهما من خروج الطائفة الأخرى لتأمين الهيمنة إلى استقطاب وفتنة دموية. ولا يمكن وقف هذه الدوامة الجنونية والتفكك المحتمل للعراق إلا عندما يتم الاعتراف بالحقيقة المذكورة أعلاه والعمل على أساسها.

 

ويمكن الاستدلال على نية الولايات المتحدة في إنتاج عراق مجزء بدلاً من عراق فيدرالي من خلال ما يلي. فقد أصدر مجلس الشيوخ الأمريكي في أيلول 2007 مشروع قرار قدمه السناتور جوزيف آر. بايدن (ديمقراطي) وسام بروبانك (جمهوري) دعيا فيه إلى حكومة مركزية ضعيفة نسبياً مع إدارات إقليمية سنية وشيعية وكردية قوية ودعوا إلى حكومة عراقية لامركزية “على أساس مبادئ الفيدرالية” . وقد حاول بايدن تسويغ مشروع القانون بالقول: “إن الفكرة هي الحفاظ على عراق موحد من خلال جعله فيدرالياً ومنح الأكراد والشيعة والسنة السيطرة على حياتهم اليومية في مناطقهم”.  ورأى الكثيرون داخل العراق وخارجه أن هذا يرقى إلى تقسيم العراق. فقال خبير الشرق الأوسط يوست هيلترمان من مجموعة الأزمات الدولية إنه بغض النظر عما يهدف القرار إلى القيام به فإنه “تم تفسيره ليقول إن مجلس الشيوخ يريد تقسيم العراق في أسوأ إجراء وتقليد إستكباري. ”

 

لم تكن الولايات المتحدة تحاول من خلال الفيدرالية معالجة عدم المساواة في تمثيل مكونات العراق لكنها في الواقع استخدمت حالة الهلوسة الدينية هذه بين كل من السنة والشيعة لاستغلال الوضع إلى أقصى حدوده وإبقاء العراق مجزءاً لأطول فترة ممكنة. وهكذا حرضت الولايات المتحدة في عام 2003 الشيعة مرة أخرى على الانتفاض ضد البعث وهذه المرة تمت مكافأتهم بحكم العراق ثم تم تسليح السنة تحت اسم الصحوة للدفاع عن أنفسهم. واستمرت لعبة تحويل الدعم إلى أطراف بديلة وبلغت ذروتها بدعم الولايات المتحدة لكل من الميليشيات الشيعية والقبائل السنية ضد تنظيم الدولة الإسلامية الذي كان في البداية من صنع الولايات المتحدة وحلفائها في الجزيرة العربية! تبقى الحقيقة اليوم أنه خلال حوالي سبعين عاماً من العراق الحديث لم يكن هناك أبدا صراع طائفي دموي. لكن حقيقة أن السنوات العشر الماضية شهدت إراقة المزيد من الدماء على هذا الانقسام يثبت أن عراقاً قائماً على أسس طائفية لن ينجح أبداً كما ناقشنا من قبل.

 

  1. إقليم كردستان

 

كانت المشكلة الكردية التي بدأت، على عكس الفهم السائد، قبل فترة طويلة من استيلاء حزب البعث على السلطة في قلب السياسة العراقية منذ ثورة 1958 باعتبار تطلع الأكراد للاعتراف بهويتهم القومية المنفصلة. وكان من الطبيعي، منذ الوضع شبه المستقل الذي حصلت عليه كردستان بعد غزو العراق عام 1991 ، أن تلعب كردستان دوراً رئيساً في عراق “ديمقراطي” جديد لخدمة تطلعاتهم وكمكافأة على دعمهم للخطة الصهيونية في المنطقة. لكن دستور 2005 غامض للغاية بشأن موقف الإقليم الكردي وعلاقته بالحكومة المركزية مما أدى إلى ظهور المزيد من المشاكل بدلاً من حلها. تبرز مادتان في الدستور على أنهما مهمتان لإثبات ذلك. فتنص المادة 140 على الإبقاء على المادة 58 من القانون الإداري الانتقالي وتنفيذها مما يؤدي إلى استفتاء على اختيار الأشخاص الذين يعيشون في كركوك و “المناطق المتنازع عليها” الأخرى.

يتضح من الفقرة أعلاه أن بعض السياسيين الأكراد المتفقين مع الخطة الصهيونية للعراق كان يدور في ذهنهم ضم أجزاء أخرى من العراق إلى إقليم كردستان بالإضافة إلى كركوك المتنازع عليها. وظهرت مثل هذه الطموحات على السطح منذ التطورات الأخيرة للدولة الإسلامية وانهيار الجيش العراقي وتقدم البشمركة إلى الموصل وديالى واحتلالهم لكركوك. وأفادت تقارير من كردستان أن البعض يعتقد أن الوقت قد حان لمناقشة “المناطق المتنازع عليها” في الموصل وديالى . وتنص المادة 141 على أن جميع القرارات التشريعية الصادرة عن السلطة الكردية وكذلك أحكام المحاكم والعقود المبرمة في كردستان منذ عام 1992 سارية وملزمة. لكن هذا يثير أسئلة أكثر مما يحل. فهو يعلن أن كردستان كانت مستقلة منذ عام 1992 مما يعد تحريفاً لمكانتها القانونية بموجب القانون الدولي والمحلي. كما أنه يقيد الحكومة المركزية في بغداد بواجب قد تجده ضاراً بالمصالح الوطنية وبالتالي يؤدي إلى مزيد من الخلاف والصراع .

 

  1. النفظ والغاز

 

كانت الموارد الطبيعية في العراق دائماً مملوكة ومدارة من قبل الحكومة المركزية في بغداد. وعلى الرغم من وجود بعض الادعاءات القائلة بأن بعض الإدارات في العراق فضلت أجزاء من البلاد في إنفاق عائداتها النفطية على حساب أجزاء أخرى فإن هذه الادعاءات لم تدعمها أية أدلة دامغة بل إن خطط التنمية في العراق منذ منتصف الستينيات وحتى الثمانينيات تثبت خلاف ذلك. لقد خلق الدستور الجديد الذي ادعى وضع خطة لتوزيع أفضل لعائدات النفط والغاز في العراق منذ ذلك الحين حالة من الغموض والفوضى وفتح الأبواب لمزيد من الانقسام على أسس أنانية وطائفية بين المحافظات غذتها جميعها الادعاءات الكاذبة بإهمال الإدارات السابقة.

 

وحيث إن المادة 121 منحت كل منطقة ومحافظة سلطة التشريع بشكل مستقل عن الحكومة المركزية فليس من الصعب رؤية إمكانات كل محافظة لأن تسير على طريقها الخاص في تقرير السيطرة على مواردها الطبيعية مع استبعاد الآخرين وهو ما سيؤدي إلى تفكك الدولة.

 

  1. 5. الإسلام وحكم الشعب

 

زرع واضعو الدستور الأمريكيون بذور الخلاف والصراع في المادة الثانية في حين بدا وكأنهم يرضون حلفاءهم الدينيين والعلمانيين. فهو ينص على أنه لا يجوز سن أي قانون إذا كان “يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام” وإذا كان “يتعارض مع مبادئ الديمقراطية”. لكن هذا تناقض في المصطلحات، فالإسلام ليس ديمقراطياً ولم يشر أحد قط إلى أن الشريعة الإسلامية تتمسك بمبادئ الديمقراطية. فماذا سيحدث إذا سعى الليبراليون إلى إضفاء الشرعية على المقامرة أو المثلية الجنسية واعترض عليها أعضاء مجلس النواب الدينيون على أسس دستورية في أنها تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية؟

 

يغطي الدستور الحقوق المدنية في القسم الثاني. ولكن على الرغم من التمسك “بالحق في المشاركة في الشؤون العامة والتمتع بالحقوق السياسية”   و”حرية تكوين الجمعيات السياسية والأحزاب السياسية والانضمام إليها”  و “حرية الفكر والضمير والعقيدة”   فقد أنكر الدستور تلك الحقوق والحريات لنسبة كبيرة من المجتمع العراقي في تبني سياسة اجتثاث البعث التي أصدرها بول بريمر عام 2003. وهكذا نصت المادة السابعة على أن العراق يجب أن يُطهر من البعث الصدامي ورموزه   بينما تحدد المادة 135 إجراءات تنفيذ هذه السياسة. كيف يمكن لدستور مكتوب لدولة “ديمقراطية” حديثة أن ينفر نسبة من المجتمع العراقي إذا ما أخذنا في الحسبان  أن حزب البعث كان عقيدة قوية في العالم العربي وحكم العراق لنحو 35 عاماً مما يجعله  واضحا  وحتمياً أن الملايين ربما آمنوا فعلاً بفكره ومثله؟

 

  1. 6. تعديل الدستور

 

لقد خطط واضعو المسودة الأمريكيون لجعل مفهوم “الفوضى الخلاقة” في العراق حقيقة وذلك في جعل استحالة تعديل الدستور من أجل تصحيح المشاكل التي نجمت عن المأزق الناتج عن الصراع وغموض مواده. فتحدد المادة 126 إجراءات تعديل الدستور وتبرز المادة 26 (4) باعتبارها ذات أهمية خاصة وهي كما يلي:

 

المادة (26) (رابعاً)

لايجوز اجراء اي تعديل على مواد الدستور من شأنه أن ينتقص من صلاحيات الاقاليم التي لاتكون داخلة ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية الا بموافقة السلطة التشريعية في الاقليم المعني وموافقة اغلبية سكانه باستفتاء عام   .

 

ومع ذلك ونظراً لأن صلاحيات السلطات الفيدرالية غير محددة بوضوح في الدستور ولأن أية محافظة واحدة أو أكثر يمكنها إنشاء إقليم فمن الجلي أنه ليس فقط إقليم كردستان وحده ولكن أية محافظة ستكون قادرة بمفردها على منع أي تعديل للدستور. وهذه هي وصفة للتقسيم المستمر والفوضى والتفكك الذي يدمج بوعي وتعمد من قبل واضعي المسودة الأمريكية للتدمير المستمر للعراق.

 

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image