الخدمات
يعتمد كل شيء على الكهرباء في عالمنا الحديث، وهناك حاجة للكهرباء في كل جانب من جوانب الحياة. فإذا أوقف إمداد الكهرباء فسيتوقف كل شيء – من تشغيل الحاسوب المحمول إلى التحكم في الحركة الجوية. لقد توفرت الأداة الأكثر تدميراً لشل العراق خلال سنوات الحصار عندما حُرم العراق ليس فقط من فرصة بناء محطات طاقة جديدة بل أيضاً من الوصول إلى قطع الغيار لتجديد المولدات القديمة والمحطات الفرعية وشبكات التوزيع.
تم أثناء حكم البعث تركيب شبكة توزيع كاملة تغطي البلد بأكمله وكان التوليد متقدماً على الطلب لدرجة أن العراق قام بتصدير الكهرباء إلى تركيا في عام 1987 . يبدأ المفتش العام الخاص بإعادة إعمار العراق (SIGIR) الذي عينه الكونغرس للإشراف على إعادة إعمار العراق في تقريره النهائي إلى الكونجرس بعنوان “التعلم من العراق” قسمه الخاص بالكهرباء من خلال تأكيد هذه الحقيقة بالبيان التالي: “ارتفع متوسط إنتاج الكهرباء خلال الثمانينيات من محطات توليد الكهرباء في العراق من حوالي 1200 ميغاوات إلى 3100 ميغاواط مواكباً بشكل عام للطلب المتزايد .”
وخرجت خلال الهجوم الأمريكي الضخم عام 1991 على العراق، بحجة دفع جيش العراق خارج الكويت، جميع محطات توليد الطاقة في العراق باستثناء محطتين من الخدمة . هكذا وصفها تقرير مجلة نيو إنجلاند الطبية الخاصة:
تم في الأيام الأولى من الحرب تعطيل أو تدمير 13 من أصل 20 محطة لتوليد الطاقة في العراق وفي نهاية القصف بقيت محطتان فقط تعملان لإنتاج أقل من 4 ٪ من إنتاج ما قبل الحرب. وبحلول أوائل أيار1991 كان العراق قد استعاد 23 ٪ فقط من إنتاج ما قبل الحرب. وتم تدمير العديد من محطات الطاقة بشكل لا يمكن إصلاحه، ويتعين إعادة بنائها بالكامل. ولم يكن ممكناً في وقت زيارتنا إصلاح المرافق المتضررة إلا عن طريق تفكيك أجزاء من مرافق أخرى .
كان الترقيع في الواقع هو القاعدة التي أعادت جزءاً من القدرة لبعض الوقت بينما تمسكت الحكومة العراقية بالأمل الساذج في تخفيف العقوبات على قطع غيار الكهرباء إن لم يتم رفعها بالكامل. وعندما لم يعد من الممكن شراء قطع غيار كما كان من قبل لجأ العراقيون إلى شراء قطع غيار من الأسواق السوداء وتهريبها إلى البلاد – وهو البديل الوحيد المتاح قبل أن يسمح برنامج النفط مقابل الغذاء أخيراً بدخول بعض قطع الغيار وإن كان ذلك في وجه بعض الصعوبات والتأخير. لكن البرنامج لم يمكّن العراق من بناء محطات توليد جديدة كما هو مطلوب وكان مخططاً له قبل أزمة الكويت. وتبع ذلك بشكل طبيعي أنه مع زيادة الطلب وفشل المرافق المتعثرة في تحقيق أقصى إنتاج لها أنه نتج نقص خطير.
وهكذا فإنه عشية الغزو عام 2003 كان العراق ينتج فقط ما يزيد قليلاً عن 4000 ميغاواط عندما كان الطلب المقدر ضعف هذا الرقم على الأقل. وأدت أعمال النهب والتخريب التي نتجت عن “الفوضى الخلاقة” التي أحدثها الغزو بموافقة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى انخفاض إنتاج الكهرباء إلى مجرد 711 ميجاوات بحلول حزيران 2003 . وعلى الرغم من حقيقة أن أهمية الكهرباء في إعادة بناء العراق لا يمكن المبالغة في تقديرها وعلى الرغم من أن بريمر كان يتمتع بنوع من السلطة لم يكن لدى أحد في العراق وكانت لديه كل الأموال التي يحتاجها والجيش لحماية أي خطة لبناء محطات جديدة لتوليد الطاقة فقد غادر العراق بعقد واحد فقط تم منحه لـ بناء محطة واحدة . “بحلول الوقت الذي سلم فيه الأمريكيون السلطة إلى حكومة عراقية مؤقتة في حزيران 2004 ارتفع الإنتاج مرة أخرى إلى 3621 ميغاواط في اليوم” . ولكن مع كل الخبرات الأمريكية والدولية الموجودة تحت تصرفه لم يستطع بريمر حتى استعادة مستوى الإنتاج قبل الحرب الذي أداره صدام حسين على الرغم من 12 عاماً من الحصار الكامل. ولو كانت هناك نية حقيقية لإعادة بناء العراق كما قيل لنا مراراً وتكراراً لكان بريمر قد دعا الشركات الأمريكية والدولية إلى تقديم عروض لحوالي خمس محطات جديدة تبلغ طاقة كل منها 1000 ميجاوات في مناطق قريبة من مصادر الوقود ومنحها مقاولات التنفيذ قبل مغادرته. ولو كان قد فعل ذلك لكان قد ضاعف قدرة العراق على توليد الكهرباء بحلول عام 2006-2007 ولكان العراقيون قد حصلوا على لمحة من حياة كريمة بعد ما يقرب من 20 عاماً من الحرمان وكان كل ذلك سيكلف نصف المبلغ الذي فُقد تحت مراقبة بريمر والبالغ 20 مليار دولار.
هناك أكثر من جانب لموضوع تزويد الكهرباء إذ لا يكفي أن تنتجها فقط. فيجب أن يكون هناك ما يكفي من المحطات الفرعية لتقليص الجهد من التوليد إلى الاستخدام إلى جانب شبكات الخطوط والأسلاك العلوية لنقل الكهرباء من المحطات إلى المستخدم وفي جميع أنحاء البلاد في شبكة متكاملة . فلم يكن النهب المشار إليه أعلاه قدوقع لمحطات التوليد حسب ولكن بالأحرى وقع للمحطات الفرعية والشبكة. وتم البحث عن النحاس كوسيلة سهلة لكسب المال إذ تحتوي الأسلاك الضخمة والمحولات على الكثير من النحاس الذي لا يمكن تتبع أصله ومصدره بعد إذابته مرة واحدة. كان العراق أول دولة في الشرق العربي تمتلك شبكة للموجات الدقيقة متكاملة تعمل في السبعينيات باستخدام الأسلاك المحورية ومحطات ترحيل الموجات الدقيقة التي تغطي الدولة بأكملها. وتم حفر أجزاء كبيرة من الأسلاك المحورية القيمة في التسعينيات وباعها المقاتلون الأكراد كنحاس في إيران. لم يكن من المستغرب أن تمتد هذه الممارسة على نطاق أوسع عندما تم غزو العراق وشجعت الولايات المتحدة / المملكة المتحدة على النهب أو لم تفعل شيئاً لوقفه. هكذا أبلغنا مكتب المفتش العام الأمريكي عن ذلك:
وأدى القصف الذي حدث قبل الغزو والقتال اللاحق إلى تدمير ما يقرب من 50 برجاً لنقل الكهرباء وبحلول منتصف حزيران 2003 تم تدمير 700 برج على أيدي اللصوص الذين جردوها من معادن ثمينة للبيع في إيران والكويت .
كانت النتيجة المباشرة لذلك تدهوراً حقيقيا ً في نظام 132 كيلوفولت الذي كان بحاجة إلى “إصلاحات واسعة النطاق وإعادة تأهيل وتوسيع لأنه سبب العديد من الانقطاعات في التيار الكهربائي خاصة في بغداد وحولها” كما أورده تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في عام 2011. لذلك فحتى لو تحسنت قدرة التوليد وهو ما لم يحدث فإن الإمداد بالكهرباء كان سيظل متقطعاً بسبب فشل نظام النقل. ولم يفعل بريمر ولا أي من حكومات العبيد التي تبعته في السنوات الثماني التي أعقبت الغزو بعد ذلك الكثير لتصحيح هذا الخلل. وكانت حكومة البعث في غضون عشر سنوات بين عامي 1970 و1980 لم تولد فائضاً من الكهرباء فحسب بل قامت ببناء وصيانة شبكة نقل وتوزيع لتغطية جميع أنحاء العراق.
أفادنا تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي نفسه بأن آفاق توصيل الكهرباء يتم تصويرها على أنها غير ممكنة بحلول عام 2015-2016 بسبب الفشل في تصحيح أوجه القصور في شبكة نظام التوزيع. هكذا يضعها التقرير:
يحتاج العراق إلى إجراء جرد وتقويم لحالة شبكة التوزيع بأكملها [تم تحليل عينة فقط من قبل شركة استشارية] كشرط مسبق وضروري لتصميم مشروع الاستثمار الضروري للغاية في إعادة تأهيل / استبدال المغذيات الفردية وشبكات التوزيع الثانوية. ويبلغ متوسط الاستثمار المطلوب لأنظمة التوزيع (الشبكات) 2.6 مليار دولار سنوياً بين عامي 2011 و2015 أو ما مجموعه 13.2 مليار دولار أمريكي خلال الفترة 2011-2015. ولكن أكثر من المال فإن هذا النوع من العمل الشاق يتطلب وقتاً ويجب أن يبدأ في جميع المجالات التي ستحصل على زيادات مهمة في التجهيز .
ولكن ما هي القصة الحقيقية فيما يخص التوليد؟ يقال لنا بأن “المدد الكلي من شبكة العراق في عام 2012 المأخوذ من جميع المصادر بلغ متوسطه حوالي 8400 ميجاوات وهو ما يزيد بمقدار 3.225 ميجاوات عن إجمالي الناتج من محطات الطاقة الحكومية” . يقودنا الحساب البسيط إلى استنتاج أن محطات الدولة العراقية كانت تولد 5175 ميغاواط في 2012. لكننا نعلم أنه عشية غزو 2003 وعلى الرغم من الحصار والدمار كان العراق ينتج أكثر من 4000 ميغاواط. ويبدو أنه بعد تسع سنوات من إقامة “الديمقراطية” والمبالغ الضخمة المخصصة للكهرباء من كل من الولايات المتحدة والعراق تمكنوا من زيادة الإنتاج بمقدار 1175 ميجاوات فقط. وهناك تفسيران محتملان فقط لمثل هذا الأداء البائس: إما أن هناك إرادة حازمة لمنع أي إعادة بناء حقيقية أو أن الفساد كان هائلاً لدرجة أن السؤال الحقيقي الذي يجب طرحه مرة أخرى هو: أين ذهبت كل الأموال؟
إن الفرق بين ناتج مصانع الدولة والإنتاج المتاح جاء من ثلاثة مصادر أخرى:
- محطات الطاقة الخاصة في كردستان التي أنتجت ما يقرب من 2000 ميغاواط بحلول صيف 2012. كان هذا المشروع متماشياً إلى حد كبير مع خطة بريمر لخصخصة جميع المرافق في العراق. وجرت بعض المحاولات لتشجيع الحكومة المركزية في بغداد على محاكاة التجربة لكنها واجهت مقاومة شديدة لأن الجمهور العراقي سيجد صعوبة في قبول مفهوم الكهرباء المخصخصة.
- البواخر التركية في البصرة التي زودت اكثر بقليل من 200 ميجاوات بحلول عام 2012.
- بلغ استيراد الكهرباء بحدود 1000 ميغاواط وكانت بشكل رئيس من إيران إلا أنه لم يتم بسلاسة وقد لا يتكرر. والسبب هو عدم قيام المصرف العراقي للتجارة بتحويل المبالغ المستحقة لإيران بسبب رفض البنك الأمريكي المقابل تنفيذ الصفقة بموجب العقوبات الاقتصادية الأمريكية ضد إيران .
ونظراً لأن توليد الكهرباء وتوزيعها أمر تقني للغاية فإن بعض أجزاء الأحجية قد لا تكون واضحة ولا يمكن فهمها بسهولة من قبل عامة الناس. وأحد هذه الأمور هو التصريح المضلل بأن قدرة التوليد الحالية بحدود 8000 ميجاوات في العراق تعادل نصف الطلب الحالي ذلك أن العلاقة بين السعة الحالية والطلب الفعلي أكثر تعقيداً من تلك مما يجعل بيانات شاملة قصيرة حول تلبية الطلب المتوقع في غضون عامين تبدو ادعاءات فارغة. ويضعها تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2011 على النحو التالي:
يحتوي نظام الطاقة الكهربائية العراقي على حدود لكل من السعة (الميغاواط المركبة و / أو المطلوبة) والطاقة (ميغاواط ساعة المولدة و / أو المطلوبة) وبالتالي فإن التقدير بعدم تلبية 50٪ من الطلب هو على الأرجح أقل من التقدير الإجمالي
… سيكون العجز بنسبة 50٪ دقيقاً إذا كان كل من ذروة الطلب وقدرة التوليد القصوى صحيحة وكانت الطاقة المولدة (بالميجاوات ساعة) بالضبط 50٪ من الطاقة المطلوبة (بالميجاوات ساعة). لذلك فإن العجز أكبر بكثير من 50٪ عند حسابه بدقة .
على الرغم من هذا التحذير من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي فإن لدينا رأي مكتب المفتش العام الأمريكي أن:
كان لدى وزارة الكهرباء التابعة للحكومة العراقية اعتباراً من أيلول 2012 41 محطة طاقة قيد الإنشاء. ويمكن أن تزيد هذه المحطات الجديدة من قدرة التوليد إلى 22000 ميغاواط بحلول نهاية عام 2015. وبافتراض عدم حدوث أي تأخير فقد قدرت وكالة الطاقة الدولية أن توليد الكهرباء في العراق على أساس الشبكة سيحقق طلب الذروة بحلول عام 2015 .
يبقى أن نرى ما إذا كان العراقيون سيحصلون أخيراً على بعض إمدادات الكهرباء اللائقة التي لم يحصلوا عليها منذ عام 1991 أم أن هذا سيكون بمثابة وعد آخر فاشل مثل الوعد الذي قطعه بريمر كما أفاد مكتب المفتش العام الداخلي:
حددت سلطة الائتلاف المؤقتة في تموز 2003 أهداف زيادة قدرة التوليد إلى 4000 ميجاوات بحلول تشرين الأول 2003 وإلى 5000 ميجاوات بحلول كانون الثاني 2004 وإلى 7000 ميجاوات بحلول عام 2005 وإلى 14000 ميجاوات بحلول عام 2009. ووضعت سلطة الائتلاف المؤقتة في نفس الشهر المزيد من التوقع الطموح في قولها: ستعود إمدادات الكهرباء إلى مستويات ما قبل الحرب البالغة 4400 ميجاوات بحلول تشرين الأول 2003 .
واتضح أن هذا سراب مثل العديد من وعود بريمر!
الماء
لم يكن الإمداد بمياه الشرب العذبة أفضل حالاً منذ الغزو رغم أن الأمر لم يكن شديد الخطورة بسبب حقيقة أن الطبيعة كانت طيبة مع العراقيين في تزويدهم بالعديد من مصادر المياه العذبة.
فقد شرعت الحكومة خلال السنوات الذهبية لازدهار العراق في السبعينيات في خطة لتوفير مياه الشرب للأجزاء النائية من البلاد. وتم تزويد القرى التي لم تكن مغطاة بشبكة مياه عذبة بوحدات مجمعة تلبي احتياجات القرية المعينة. ويُذكر أنه بحلول الثمانينيات من القرن الماضي كان أكثر من 90٪ من جميع العراقيين يتمتعون بإمكانية الوصول المستمر إلى مياه الشرب النظيفة . وتأثرت المياه مثلها مثل أي ضرورة أخرى للحياة بالحصار – و كان ذلك الهدف الغرض من فرضه. وتدهورت الخدمة في التسعينيات بسبب عدة عوامل منها الحظر المفروض على استيراد قطع الغيار وحتى الكلور. ويبدو أن نفس الأشخاص الأشرار في لجنة العقوبات الذين قرروا عدم السماح بدخول أقلام الرصاص إلى العراق، لأنه يمكن استخدام الجرافيت فيها في المفاعلات النووية كما زعموا، كانوا هم أيضاً من صانعي القرار فيما يتعلق بالكلور واعتقدوا أنه يجب حظر الكلور لأنه زعموا أنه يمكن تحويله إلى سلاح كيميائي!
وهكذا انخفضت بحلول منتصف التسعينيات نسبة العراقيين الذين يحصلون على المياه العذبة إلى 81٪ . وتدهور الوضع أكثر عندما شهد هذا القطاع وفقاً لـ SIGIR “بحلول عام 2003 تدهوراً مدمراً. تدهورت خطوط توزيع المياه بسبب قدمها وسمحت المنظومة المتآكلة للملوثات بالدخول مما تسبب في ارتفاع حاد في معدلات الأمراض . واعترفت اليونيسيف أنه بحلول عام 2002 كان ما يقرب من 25٪ من جميع وفيات الأطفال في العراق ناجمة عن البكتيريا المنقولة عن طريق المياه والتي كانت بسبب فشل إمدادات المياه العذبة والكيماويات ومرافق معالجة المياه .
يذكر مكتب المفتش العام SIGIR بأن حكومة الولايات المتحدة أنفقت أكثر من 2.71 مليار دولار لإعادة تأهيل وتحسين قطاع المياه والصرف الصحي في العراق . وما الذي حدث بالفعل لتلك الأموال ليس واضحاً ولكن النتائج النهائية بحلول عام 2012 ليس لديها الكثير لتظهره وسننظر في مثال واحد. تم منح مشروع تزويد المياه في الناصرية في نيسان 2004 واكتمل في أيلول 2007 بتكلفة قدرها 277 مليون دولار . وقد صُمم المشروع لخدمة حوالي 500 ألف شخص في خمس مدن مجاورة. ويعلمنا مكتب المفتش العام الدولي أنه تم تنفيذه بشكل جيد وتم تسليمه للسيطرة العراقية. ولكن بعد ذلك بوقت قصير قام المفتش العام للأمم المتحدة بزيارة المشروع والتقى بالسكان المحليين والمسؤولين وخلص إلى أن المنظومة كانت تنهار وتعاني من أعطال منتظمة بسبب سوء التشغيل والصيانة .
كيف يمكن أن يكون العراقيون قد تمكنوا لعقود من تشغيل وصيانة أنظمة إمدادات المياه الخاصة بهم دون أية مشكلة قط ليجدوا بعد عام 2003 أنهم لا يستطيعون صيانة محطة صغيرة لمعالجة المياه في الناصرية؟ أليس هذا بسبب الغزو الذي قتل أو سجن أو نفى كل العاملين المهرة؟
إذن ما هو الوضع الحالي لإمدادات المياه العذبة في العراق؟
أفادت الأمم المتحدة في آذار 2011 أنه في حين أن العراق لديه ثاني أكبر كمية مياه متاحة للفرد في الشرق الأوسط فإن جودة المياه كانت سيئة ومنتهكة لمعايير الوطنية العراقية وإرشادات منظمة الصحة العالمية .
ووجدت دراسة استقصائية لما يقرب من 30 ألف أسرة أجريت في عام 2011 من قبل وزارة التخطيط العراقية وهيئة إحصائيات إقليم كردستان والأمم المتحدة ونشرتها شبكة المعرفة العراقية (IKN) ما يلي:
… حصل أكثر من ربع السكان على المياه من الشبكة العامة لأقل من ساعتين في اليوم ، وصنف ما يقرب من نصف السكان جودة خدمات المياه في منطقتهم بأنها سيئة أو سيئة للغاية .
وأورد تقرير مكتب المفتش العام للكونغرس بأن محطة الناصرية بدأت تعاني من الأعطال بعد فترة وجيزة من نقلها إلى السيطرة العراقية . ولا نعرف ما إذا كان الكونغرس قد حقق في أسباب الفشل آخذين في الحسبان أن العراق تمكن من إدارة وحدات المياه بشكل جيد لأكثر من ثمانين عاماً وحتى خلال السنوات الصعبة من الحصار التام ونقص قطع الغيار. ويذهب تقرير مكتب المفتش العام الدولي في الواقع إلى أبعد من ذلك ويذكر أن:
بعد أن سلمت الولايات المتحدة مشاريع المياه الكبيرة للسيطرة العراقية اكتشف مسؤولو إعادة الإعمار أنه في كثير من الحالات لم يكن العراقيون يديرون هذه المشاريع بشكل صحيح. وشملت أوجه النقص سرقة المعدات وسوء تدريب الموظفين وسوء ممارسات التشغيل والصيانة وعدم كفاية إمدادات الكهرباء والمواد الكيميائية المعالجة .
وفي حين أن معالجة جميع إخفاقات البنية التحتية في عراق ما بعد 2003 سيتطلب كتاب كاملاً لإنصاف هذا الموضوع إلا أننا ما زلنا نشعر بضرورة الرجوع إلى مسألة سد الموصل لتسليط الضوء على الفشل في التعامل مع هذا الوضع الخطير. ففي عام 1984 وأثناء الحرب العراقية الإيرانية أكمل العراق بناء سد الموصل على نهر دجلة لتزويد المنطقة بمياه الشرب والإرواء والسيطرة على الفيضانات والطاقة الكهرومائية. ولاحظت السلطات المسؤولة عن السد في أواخر الثمانينيات أن التربة تحته تتعرض للتآكل وكان هناك خوف حقيقي من انهيار السد وخلق فيضان توراتي قد يغمر وادي دجلة من الموصل إلى شمال بغداد . وحاول العراقيون حل هذه المشكلة عن طريق القيام ببرامج الحشو لملء التجاويف تحت السطحية تحت هيكل السد لوقف خطر الانجراف. لكن المعالجة فشلت وكانت هناك حاجة حقيقية لخبراء دوليين لإنقاذ العراق. لكن ذلك كان في التسعينيات وحال الحصار الشامل دون ذلك. وتقدم العراق بعدة طلبات إلى لجنة العقوبات لدعوة مستشارين دوليين لتقييم الخطر والتوصية بحلول علاجية لكن الولايات المتحدة عرقلت الطلب العراقي دون إبداء الأسباب كما كانت الممارسة السائدة في لجنة العقوبات . وغني عن القول أنه بالإضافة إلى الخطر الجسيم لانهيار سد الموصل فأن إصلاح السد لا يمكن أن يعزز قدرة العراق على تطوير أسلحة الدمار الشامل التي كانت العذر المزعوم لفرض الحصار.
لم تبدأ الحكومة الأمريكية، إلا عام 2005، مشروعاً يتألف من 21 عقداً بقيمة 27 مليون دولار للتخفيف من أوجه القصور في السد. لكن هذا المشروع سار تماماً مثل المشاريع الأخرى بعد عام 2003. وقد تُرك دون أي هيئة مراقبة أو مساءلة لدرجة أن مفتشي SIGIR أفادوا في عام 2007 بأن:
“خلص التفتيش إلى أن ما يقرب من 19.4 مليون دولار من المعدات والمواد لتنفيذ التحسينات على عمليات الحشو لم يتم استخدامها ” .
كان هناك، كما أوضحنا في العرض المختصر في هذا القسم، فشل عام في توريد المرافق وتقديم الخدمات في العراق. والسؤال الذي يبرز هو: لماذا فشل المحتلون والحكومات المتعاونة معهم بشكل كبير مقارنة بالنظام السابق على الرغم من توفر الأموال والخبرة الفنية الدولية والدعم السياسي والعسكري الدولي الهائل؟
نعتقد أن هناك سببين لهذه الإخفاقات. أولهما هو سياسة اجتثاث البعث والاغتيالات والتخويف والتهديدات التي استنزفت العراق من النخبة المثقفة، بما في ذلك المهندسين والفنيين المهرة مما ترك العديد من المرافق ليديرها شبه متعلمين فارين من الجيش عادوا من إيران وأماكن أخرى وكافأهم بريمر لخدمتهم المصالح الأمريكية في محاربة صدام حسين . وثانيهما أنه منذ عام 2003 أصبح الفساد هو القاعدة في العراق وأصبح من المعتاد أن تدفع لشخص ما مقابل كل شيء حتى لو كنت تتقدم للحصول على نسخة من شهادة ميلاد شرعية. وقد حوكم خلال حكم البعث في العراق مسؤولون تم القبض عليهم وهم يقبلون رشاوى وخاصة من الشركات الأجنبية وأعدموا. وكان الوافدون الجدد بعد عام 2003 والذين جاءوا مع الغزاة من الولايات المتحدة وأوروبا وإيران وسورية يديرون الدوائر الحكومية. لقد كان معظم هؤلاء المسؤولين الجدد محرومين لفترة طويلة لدرجة أن الأموال الطائلة كانت مغرية.فساد السلطة والفساد عملية تآكلية تسللت ببطء إلى كل قسم حتى أصبح المعيار المقبول أنه لا يمكن منح أي مشروع بدون رشوة. وهذه الحالة الفوضوية للفساد كانت مدفوعة بحقيقة أن العديد من المسؤولين والمتعاقدين الأمريكيين هم أنفسهم متورطون في الفساد وقليل منهم تم فضحهم من قبل مكتب SIGIR.
(هذه العبارة لم أجدها مطابقة للنص في صفحة 206 من الكتاب خصوصا رقم الهامش)
ازدهرت خدمة واحدة فقط في العراق منذ الغزو وهي الهواتف المحمولة. فقبل عام 2003 لم يكن لدى العراق خدمة الهاتف المحمول ولكن ما إن هبط الغزاة حتى ظهرت العديد من الشركات التي تقدم مثل هذه الخدمة المتطورة للاتصالات لشعب العراق الذين لم يكن لدى بعضهم هاتف قط. إن سبب هذا الاستثناء في تقديم خدمة جيدة للعراقيين خلافا لجميع الخدمات الأخرى يكمن في حقيقتين: من يملكها وما هي الإيرادات التي تدرها!
تأسست أول شركة اتصالات متنقلة في العراق آسياسيل في مدينة السليمانية في شمال العراق في عام 1999. وحيث إنها واحدة من أكبر مزودي خدمات الاتصالات إذ تغطي شبكتها 99٪ من سكان العراق وتتمتع بحصة سوقية تبلغ 43٪. . والمساهم الرئيس في آسياسيل هو شركة اتصالات قطر (Ooredoo) التي تمتلك 64.1٪ من الشركة. وبلغ صافي ربح آسياسيل في 19 نوفمبر 2013 نحو 471.8 مليار دينار عراقي (حوالي 383 مليون دولار) .
الشركة الثانية هي Korek Telecomوهي ثالث أكبر مشغل للهاتف المحمول في العراق والتي تأسست عام 2000 في أربيل في شمال العراق وبالتالي فهي ثاني أقدم شركة اتصالات في العراق . في آذار 2011 استحوذت فرانس تيليكوم أورانج على 20٪ من أسهم الشركة بينما تمتلك شركة أجيليتي وهي شركة تدبيرية كويتية حصة غير مباشرة تبلغ 24 في المائة. لدى كورك حوالي 3 ملايين عميل للهاتف المحمول . ويُزعم أن الشركة مملوكة للحزب الديمقراطي الكردستاني وزعيمه مسعود بارزاني. وقد نفى المدير الإداري لشركة Korek هذه الادعاءات . ولا توجد أرقام أرباح متاحة للشركة.
المشغل الرائد الآخر هو زين العراق وقد تأسست في كانون الأول 2003 وتخدم حالياً أكثر من 13.5 مليون عميل بشبكة تغطي أكثر من 98٪ من السكان . تعود ملكية 76٪ من الأسهم لمجموعة زين التي تأسست في الكويت عام 1983 وهي اليوم شركة رائدة في مجال الهواتف المحمولة والخدمات ومشغل خدمات البيانات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتوفر المجموعة ابتداءاً من 30 أيلول 2013 خدمات الصوت والبيانات المتنقلة لأكثر من 44.3 مليون عميل من الأفراد والشركات. تم الإبلاغ عن صافي دخل زين العراق للأشهر التسعة الأولى من عام 2013 بمبلغ 261 مليون دولار أمريكي .
آخر شركة اتصالات تعمل في العراق هي “اتصالنا عبر العراق”. إنها أحدث شركة اتصالات وطنية للاتصالات الصوتية والبيانات في العراق وقد تأسست في عام 2007 ونجحت في عملها من خلال تعميم شبكة حلقة محلية لاسلكية من خلال استخدام تقنية (CDMA) يقع المقر الرئيس للشركة في عمان ـ الأردن. وتدعي الشركة وجود أكثر من مائتي ألف عميل لديها ولا توجد معلومات مالية رسمية متاحة عن الشركة.
إن من الواضح أن هذه الصناعة قد ازدهرت لأن قلة من العراقيين الأقوياء يحققون أرباحاً ضخمة جنباً إلى جنب مع المستثمرين الأجانب. وتم ابعاد شركة الاتصالات العراقية المملوكة للدولة عن الميدان بقرار سياسي.