تلاعب الاستكباريين بالعراق وإيران
يمكن تطبيق تصريح إرنست بيفين حول المصالح البريطانية في الشرق الأوسط المذكور في الفصل الأول على مصالح الفرنسيين في ذلك الوقت كما يمكن نطبيقه على المصالح الأمريكية المكتسبة حديثاً. وكانت إحدى طرق تأمين هذه المصالح هي الدعم الكامل وغير المشروط لإسرائيل. كان الهدف من العديد من السياسات الخارجية للمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا إلى حد ما – وهي لاعب مهم بنفس القدر في ترسيم الحدود الإقليمية للشرق الأوسط منذ نهاية الحرب العالمية الثانية – الحفاظ على إسرائيل كقوة عظمى لا مثيل لها في الشرق الأوسط بالإضافة إلى صرف النظر عن أي لوم لإسرائيل على معاملتها الهمجية للفلسطينيين على الرغم من الإساءة التي يسببها هذا للعالم الإسلامي. هذا الهدف الأساس المتمثل في حماية وحشية إسرائيل في نفس الوقت الذي تتم فيه إدانة إخفاقات أقل بكثير لحقوق الإنسان في الدول العربية يفسر معظم الانحرافات التي يمكن أن يشير إليها مراقب مستقل فيما يتعلق بالأحداث وتفسيرها في الشرق الأوسط على مدار الستين عاماً الماضية. ولهذا فإن ما حدث للعراق في سياق هذه الأحداث ليس استثناءً. كما إنه يفسر سبب تعرض العراق على مدار الستين عاما ً الماضية للمعارضة والهجوم من قبل الحكومات ووسائل الإعلام الغربية على الرغم من كونه النظام الأكثر علمانية في المنطقة وربما الأكثر “ليبرالية” بين جيرانه في العالم العربي بالمفهوم الأوربي بهذا المصطلح. أما الأنظمة الاستبدادية والشمولية الأخرى في نفس المنطقة ولا سيما المملكة العربية السعودية فقد قوبلت إما بالصمت أو الإذعان فيما يتعلق بسلوكها وأولوياتها في الحكم. كما يفسر هذا الصمت المشبوه في وجه ما حل بالجالية المسيحية القديمة في العراق منذ غزو عام 2003 خشية أن يكسف هذا عن الزمن الجيد من المساواة والتسامح التي تمتعت بها الأجيال السابقة من المسيحيين في العراق وخاصة في ظل حكم البعث.
استندت السياسات والخطط الاستكبارية في الشرق الأوسط العربي بعد الحرب العالمية الثانية على مبدأين أساسين: أولهما هو الدعم الكامل وغير المشروط لإسرائيل وثانيهما هو إنشاء أنظمة عملاء تتكون من دول تم إنشاؤها بشكل مصطنع تعمل كحراس لتدفق النفط كما يطلب الغرب والتي يكون سكانها مجتمعات استهلاكية غير منتجة ينفقون الأموال التي يكسبونها على استيراد السلع والخدمات التي ينتجها رعاتهم. تبقى الدول العربية التي تقع خارج هذه السيطرة محصورة بشكل أساس ضمن حدود معينة في التنمية والدفاع خشية أن تشكل تحديًا لهذه الهيمنة الأنجلو أمريكية. ومن الأمثلة على هذه الدول مصر تحت حكم ناصر وسورية تحت حكم آل الأسد والعراق تحت حكم صدام حسين. وعلى الرغم من أن الآراء السياسية لعامة الناس في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة تبدو قليلة الأهمية في الشؤون الدولية إلا أنه يبدو من المهم لما يسمى “بالديمقراطية الليبرالية” أن تعمل وأن يكون الجمهور متحمساً ومقتنعاً بأن مثل هذه السياسات صحيحة. ويبدو من المهم لتحقيق هذه الغاية إضفاء صفة الشيطنة على عنصر القيادة في الشرق الأوسط بما يمكن جعله يلخص شرور النظام. وتسلط وجهات النظر المختلفة حول ناصر والقذافي والخميني وصدام حسين وأحمد نجاد الضوء على هذه الظاهرة.
عندما أرسل صدام حسين قواته بشكل غير حكيم إلى إيران كان لدى الاستكباريين فرصة ذهبية لإضعاف كلتا القوتين اللتين قد تشكلان تهديداً محتملاً. وأدى تورط عراق صدام حسين في حرب طويلة الأمد إلى تسليم فكرة قيادة العراق للعالم العربي إلى قوى أخرى كما استنفد رأس المال المادي والاجتماعي والاقتصادي والفكري للعراق مما جعل نتائج الحرب تتماشى مع أهداف السياسة الخارجية للصهاينة الجدد في الولايات المتحدة. وسمح ذلك أيضاً بتوطيد إسرائيل في المنطقة عن طريق إخراج العراق من الصراع العربي الإسرائيلي. كان العراق البلد الوحيد الذي شارك في الحرب القصيرة ضد إسرائيل عام 1948 لكنه لم يوقع على الهدنة التي وقعتها دول عربية أخرى مع إسرائيل. وهذا يعني أن العراق ظل في حالة حرب مع إسرائيل عندما كان العراق يحارب إيران في الثمانينيات . وكان كيسنجر قد عبر أفضل تعبير عن فرحة الولايات المتحدة بالحرب حيث قيل إنه قال إنه يريد أن يفوز كلا الجانبين . ولا يخفى على أحد أنه لتحقيق هذه الغاية دعمت الولايات المتحدة كلا الجانبين في تلك الحرب مما يشير إلى أنه طالما استمر النزاع فإنه سيكون في خدمة المصالح الأمريكية بغض النظر عن النصر أو الهزيمة لإيران أو العراق ومن شأنه أن يضعف عدوين لإسرائيل.
إن مبدأ الاحتواء، وهو السياسة الأمريكية الأصلية في بداية الحرب الباردة لكبح توسع الاتحاد السوفيتي، كان جزءً لا يتجزأ مما غرس في الخطط الرئيسة للاستكبار. وعندما كان يبدو من المستحيل احتواء الدول العربية أو السيطرة عليها فقد كان غالباً ما يتم وضع المرحلة الثانية من هذه الخطط موضع التنفيذ. وهذا يشمل تجزئة الدولة إلى دويلات على أساس الخطوط الطائفية أو المذهبية باتباع خطط مصقولة لسياسات: فرق تسد. وهذه العملية تضعف الدولة وتضمن الاقتتال الداخلي بين الدويلات على الموارد الطبيعية أو الحدود مما يزيد من تعزيز هيمنة الدولة الصهيونية والحجة القائلة بأنها ليست أكثر من دولة طائفية واحدة من بين العديد من الدول في الشرق الأوسط. هذا ما حدث في العراق ويمكن القول إنه نفس ما يحدث في لبنان وبدأ يتكشف في السياق السوري المعاصر.
لقد تغيرت طبيعة اللعبة وقواعدها منذ نجاح إيران في ترسيخ أول دولة إسلامية شبه شعبية وتحويل نفسها إلى قوة إقليمية. ولعل أهم تغيير في الشرق الأوسط بعد الحرب الباردة كان اعتقاد الأنظمة المعارضة للهيمنة الأمريكية أنه لا توجد قوة عظمى يمكنهم الاعتماد عليها للدفاع أو الردع بالطريقة التي اعتمدوا بها على الاتحاد السوفيتي خلال حقبة الحرب الباردة. كان هذا إدراكاً مبكراً من قبل الأسد في سورية الذي رأى تذبذب السوفييت حتى قبل زوالهم واختار التحالف مع إيران. وقد شكل هذا التحالف الذي نجا من ثلاثة عقود من محاولات التفكيك من قبل أوروبا ودول الخليج تهديداً حقيقياً لسياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ولو تمكنت القوى الإقليمية الصغيرة من الاتحاد والنجاح في معارضة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط فسيتعين على الأخيرة مراجعة خطط السوق والتعبئة. وكانت كل من سورية وإيران وحليفتيهما حزب الله وحماس تنسجم بشكل كبير مع الجماهير العربية والمسلمة. فقد كانوا يريدون حلاً بسيطاً: أن تترك الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون لشعوب الشرق الأوسط تقرير طبيعة النظام السياسي والاقتصادي الذي يريدون العيش في ظله وهو مطلب مفهوم ومقبول على نطاق واسع من قبل الجماهير في المنطقة. وعندما تتهم الولايات المتحدة سورية وإيران بقمع شعبيهما فإن رد فعل الجماهير في شوارع الشرق الأوسط هو سخرية معادية لأمريكا ويردون بأن الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين يدعمون أكثر الأنظمة استبداداً في العالم في شبه الجزيرة العربية والأراضي المقدسة والخليج. وقد اتفقت كل من سورية وإيران على وجوب تحدي إسرائيل وهي القاعدة الأمامية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وتحديد توسعها ومضاهاة تفوقها وقد تبنتا، تحقيقاً لهذه الغاية، خطة سوق سياسية وعسكرية جديدة. فقد أدركتا عسكرياً أنه لا توجد تقنيات في العالم يمكن أن تضاهي التفوق الجوي الأمريكي والمتوفر بشكل فوري ومجاني لإسرائيل. وحيث إن الصواريخ أرخص وأسهل في التصنيع ولا تحتاج إلى طيارين مدربين وقد تجعل القوات الجوية الإسرائيلية بأكملها عديمة الفائدة فقد شرعتا بدلاً من ذلك باتباع هذه الخطة وحققتا تقدماً فيها منذ ذلك الحين. وتتناسب هذه الخطة مع الانتشار الجغرافي الذي تمتلكه كل من إيران وسورية مقارنة بإسرائيل ما يترك إسرائيل تفكر بجدية في الخيار النووي الذي لا يمكن تصوره.
نجحت الخطط السوقية لسورية وإيران سياسياً على جبهتين. أولاهما أنها كشفت سياسات الولايات المتحدة في الدعم الأعمى وغير المشروط لإسرائيل لجعلها (أي الولايات المتحدة) تبدو وكأنها العدو الحقيقي للعرب والمسلمين. وهذا ليس هو شعور الثوار في دمشق وطهران وحدها بل هو شعور الناس العاديين في شوارع عواصم دول الخليج وهو ما اكتشفه واحد من مؤلفي هذا الكتاب لدهشته الكبيرة خلال السنوات القليلة الماضية. وثانيهما تبين أن استخدام حلفاء سورية وإيران في العراق ولبنان وفلسطين كان فعالاً وبكلفة قليلة بالنسبة لهما. وهم يستشهدون لإثبات نجاحاتهم بالخروج القسري للولايات المتحدة وبريطانيا من العراق رغم أن الكلفة الاقتصادية والبشرية للولايات المتحدة كانت ضئيلة مقارنة بالكارثة التي تعرض لها العراق. وأشاروا إلى جانب ذلك إلى نجاح حزب الله وحماس في مواجهة الهجومين الإسرائيليين المكثفين في عامي 2006 و2008 على التوالي. ويوجد تفنيد فكري لاتهامات إسرائيل والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية بأن سورية وإيران تتدخلان في الشؤون الداخلية لدول أخرى في الشرق الأوسط. ذلك أن سورية (على أساس قومي عربي) وإيران (على أساس ديني إسلامي) تؤمنان وتعلمان وتجادلان وإن لم يكن في سياسة معلنة أن الأمة هي واحدة (عربية و/ أو إسلامية) تم تقسيمها بالسياسة الاستعمارية الأوروبية وخلاصها يكمن في وحدتها. ويشير قبول هذه الفرضية إلى أنه يمكن استخدام أية وسيلة لتحقيق تلك الوحدة سواء كان ذلك تدخلًا سياسياً أو تلاعباً فاسداً أو حتى تدخلاً عسكرياً. وهكذا تجادل سورية / إيران وحلفاؤهما في العالم العربي بأنه في حين أن التدخل السوري وإلى حد أقل الإيراني هو أمر مشروع فإن تدخل الولايات المتحدة وحلفائها غير مقبول بشكل أساس. وعندما لفت الكاتب المصري محمد حسنين هيكل انتباه آية الله الخميني إلى مسألة القانون الدولي أعرب هذا عن عدم اكتراثه بهذا القانون: وهو شعور يشترك فيه ملايين العرب / المسلمين في العالم.
عندما انتهت حرب العراق مع إيران في 8 آب 1988 بخسارة كلا الجانبين (وهو التأثير المنشود لهنري كيسنجر) توقع صدام حسين بصدق أن حلفاءه في الخليج والغرب سيساعدون في إعادة بناء العراق المصاب بالكدمات. لكنه سرعان ما واجه حقيقة المخطط الاستكباري للعالم العربي. لن تكون هناك إعادة بناء للعراق وسيتم تفكيك صناعته العسكرية ما لم يوافق صدام حسين ودول الخليج ومصر والأردن على الاستسلام التام للصهيونية وقبول الهيمنة الإسرائيلية.
الأحداث التي أدت إلى غزو الكويت
أن تسلسل الأحداث بين آب 1988 وآب 1990 موثق بشكل جيد . فقد انتهت الحرب العراقية الإيرانية في 8 آب 1988 بنتائج كارثية لكلا البلدين . وبمجرد انتهاء الحرب بدأت حملة منسقة ضد العراق. واتضح لاحقاً أن صدام حسين قد تراجع عن التفاهم في أنه سيتم دعمه في الحرب ضد إيران شريطة أن يدخل في اتفاقية سلام مع إسرائيل . وبدأت الحملة بصدور كتاب يبدو أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية قد كتبته ونسب للمهندس العماري العراقي كنعان مكية الذي قيل إن مكتبه في لندن كانت لديه العديد من الأعمال الاستشارية في العراق .
أخذت الحملة منعطفاً سيئاً عندما تم تشجيع الكويت على فرض تخفيض في عائدات النفط العراقي عن طريق سحب النفط العراقي من الحقول العابرة للحدود ومطالبة العراق بسداد ديونه المزعومة للكويت التي تكبدها أثناء الحرب مع إيران. لكن العراق كان قد فهم ذلك الدين كمساهمة من الكويت مع العراق لدفاعه عنه في مواجهة طوفان ثورة الخميني الوشيكة .
لقد أظهر لنا التاريخ أن الخنق الاقتصادي يمكن أن يؤدي إلى الحرب كما جسدته التجربة الألمانية في فترة ما بين الحربين. كان العراق في عام 1990 قد شعر بآثار الإجراءات الكويتية التي منعته من إعادة بناء اقتصاده الممزق. وفشلت محاولات العراق لإقناع الكويتيين بتغيير سياساتهم من خلال وسطاء عرب ومكاتب جامعة الدول العربية إنما بدلا من ذلك زاد تشدد الكويتيين كلما توسل العراق. وكان من المحير أن نرى كيف يمكن للكويت أن تشعر بثقة كبيرة في اتباع هذا الطريق دون الخوف من العواقب، إلا إذا كانت قد حصلت على تأكيدات على أنه مهما حدث فإنها ستستفيد من حماية الولايات المتحدة الأمريكية. وبالنظر إلى مدى الأدلة المتاحة التي سبقت دخول القوات العراقية إلى الكويت فقد بدا غريباً لجامعية مطلعة مثل جوي غوردون أن تؤكد أن “العراق غزا الكويت في عام 1990 دون استفزاز .”
هناك أدلة تشير إلى أن الولايات المتحدة لم تشجع الكويتيين فقط على اتباع هذا المسار العدائي بل إنها عرقلت وساطة جامعة الدول العربية وضللت العراق من خلال نصيحة السفيرة جلاسبي لصدام حسين قبل مغادرة بغداد بأن الخلاف مع الكويت كان شأناً محلياً بين جارين وأن الولايات المتحدة لن تتدخل .
وسواء كانت لدى صدام حسين خيارات أخرى غير العمل العسكري ضد الكويت أم لا لوضع حد لما أسماه “قطع الرقاب العراقية من قبل الكويتيين” أو ما إذا كان قد اختار أسوأ لحظة في النصف الثاني من القرن العشرين للقيام بذلك يبقى سؤالاً يجادل المؤرخون به. ونحن نرى أنه مهما كانت حقوقه أو أخطاؤه في استعادة الكويت إلى العراق ضد حكم المستعمرين بأن حدودهم المصطنعة والمفروضة لا تُمس فإنه كان عليه أن يسحب قواته في غضون يوم أو يومين دون انتظار مفاوضات أو قرارات جديدة من مجلس الأمن وكان من شأن ذلك أن يجهض محاولات إصدار قرار من مجلس الأمن لمهاجمة العراق. عندها كان من الصعب على الولايات المتحدة أن تحصل على الدعم الذي تحتاجه من جامعة الدول العربية. وفي أسوأ الأحوال وحتى لو تبع ذلك هجوم أمريكي فإنه لم يكن ليكون بهذه الشراسة وكان سيعد انتهاكاً للقانون الدولي. وباختصار كان بإمكان صدام حسين أن ينقذ العراق من مصائب العشرين سنة التي تلت لو انسحب من الكويت بعد أيام أو أسابيع قليلة من استعادتها. كان يكفي أن يعرض وجهة نظره ويحقق بعض النجاح في إعادة تفعيل رفض العراق للحدود الاستعمارية.
الغزو الأول للعراق عام 1991
يثير الهجوم على العراق عام 1991 والحصار الكامل لواردات وصادرات البلد بأسره الكثير من التساؤلات الأخلاقية والقانونية. وقد تمت معالجة بعض الأسئلة القانونية في الجزء الأول من كتاب الإبادة الجماعية في العراق ولكن القليل منها عالج الأسئلة الأخلاقية. وفي الواقع قوبلت الأسئلة الأخلاقية عموماً باللامبالاة في أوروبا ما جعل بعض من كتبوا في الموضوع ينتقدونها باعتبارها رفضاً للإنسانية المشتركة .
تبرز أولا وقبل كل شيء من بين الأسئلة القانونية حقيقة أن الهجوم والحصار كانا يتعارضان مع أهداف الأمم المتحدة. فقد أُنشئت الأمم المتحدة “لإنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب” و “في سبيل هذه الغايات اعتزمنا أن نأخذ أنفسنا بالتسامح وأن نعيش معا في سلام وحسن جوار” إن حظر استخدام القوة المسلحة والالتزام المقابل بتسوية النزاعات بالطرق السلمية ركيزة أساس من ركائز هذه الأهداف .
عندما تعجز الدول عن التوصل إلى تسوية وفقاً للمادة 35 من ميثاق الأمم المتحدة فإن عليها طلب تدخل مجلس الأمن الذي قد يقدم توصيات لتسوية سلمية . ويبدو واضحاً أن العرف السائد هو عدم اللجوء إلى الفصل السابع قبل استنفاد الوسائل السلمية لتسوية النزاع حتى لو لم ينص الميثاق صراحة على ذلك . ولا بد أن نشير لدعم هذه الفكرة إلى أن نصوص المادتين 41 و42 من الميثاق تبحث في وسائل أخرى باستثناء استخدام القوة لتسوية النزاع حتى عندما يخلص المجلس إلى وجود تهديد للسلام. وقد اتبع مجلس الأمن هذه الممارسة في تعامله مع القضية الفلسطينية. فقد اقتلع الفلسطينيون من جذورهم وتشتتوا في الشرق الأوسط منذ 65 عاماً وعلى الرغم من حقيقة أن وجودهم في هذه البلدان كان تهديداً للسلام فقد أصر المجلس باستمرار على وجوب اللجوء إلى المفاوضات السلمية لتسوية مطالبهم في العودة إلى ديارهم بدلاً من المطالبة بوقف عمليات الاستيلاء الإسرائيلية غير القانونية على الأراضي والهجمات ضد المدنيين. لم يُسمح بمثل هذا التساهل في حالة العراق بل إن الأحداث في الواقع كشفت عكس ذلك. ويشير الحشد الهائل للقوات منذ البداية إلى أن العمل العسكري كان مخططاً له قبل وقت طويل من السماح باختبار أي من الإجراءات المنصوص عليها في المادتين 41 و42.
حصار الإبادة الجماعية
تمت تغطية أكثر من اثني عشر عاما من العقوبات المفروضة على العراق بشكل واسع. فقد ناقشنا في الجزء الأول من كتاب الإبادة الجماعية في العراق هذه السنوات من حصار الإبادة الجماعية التي لم يُشهد مثلها من قبل. لقد جادلنا بعدم شرعية الحصار الكامل لبلد ما، والتعاون الإجرامي للدول والأشخاص في هذه الأعمال، والجبن والتواطؤ من بقية العالم عن طريق الإذعان، وفشل مجلس الأمن في التصرف وفقاً لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، والإساءة المخفية في مراقبة العقوبات لصالح مصالح مختارة مع التظاهر بأنها موضوعية، والإفلاس الأخلاقي لوسائل الإعلام الغربية والمثقفين في تعاملهم مع الإجرام ضد العراق. كما وازنا بين بناء ونهضة العراق من قبل إدارة البعث وبين تدمير العراق بواسطة حصار الإبادة الجماعية الذي فرضه الغرب. وقمنا إلى جانب ذلك بإيجاز الإجراءات الجنائية التي يمكن وينبغي اتخاذها ضد أي شخص متورط في ارتكاب تلك الجرائم البشعة ضد ملايين المدنيين الأبرياء في العراق.
بعد عشر سنوات من الحصار الشامل الذي منع الأطفال من الحصول على الأدوية والعناصر الغذائية الأساس أو حتى أقلام الرصاص للمدارس اكتشف الاستكباريون أن خطط سوق تدمير العراق لم تكن تسير وفق الخطة لأنها لم تحقق هدف شل الدولة وتفكيكها إلى دويلات طائفية بل إنه كانت هناك مؤشرات على أن العراق كان في الواقع قادراً على النجاة من العقوبات والتقليل من آثار الإبادة الجماعية. وقد نجح العراق في إقامة معاهدات تبادل ثنائية مع عدد قليل من الدول (مثل الأردن وتركيا والمملكة العربية السعودية) حيث كان قادراً على تبادل البضائع وتأمين بعض الاحتياجات الأساسية الدنيا . كان الاشمئزاز الدولي من آثار الحصار الشامل يتزايد ويخلق مزيداً من الضغط على الاستكباريين لتخفيف بعض الإجراءات الوحشية. واضطر مجلس الأمن إلى اتخاذ ترتيبات جديدة لتسهيل استيراد بعض المواد الأساس إلى العراق دون الحاجة إلى المرور عبر لجنة العقوبات الديكتاتورية . لقد أصبح واضحاً للاستكباريين أن الحصار الشامل سوف يزول قريباً مما يعني أن نظام البعث كان من المرجح أن ينجو منه وكان هذا بمثابة كابوس بالنسبة لهم. كان تفكيك العراق محورياً في خطة تقسيم العالم العربي إلى دويلات طائفية مذهبية والقضاء على أي نظام يقوم بمساعدة فلسطين.
قرر الاستكباريون بقسوة أنه لا ينبغي السماح باستمرار التحسينات في الوضع الراهن وتطوره المحتمل. وجاء القرار المتغطرس بغزو العراق واحتلاله من أجل الشروع في خطة التفكيك عبر زرع الانقسام المذهبي وهي خطة عبرت عن نفسها منذ ذلك الحين في شمال إفريقيا وسورية. سنتناول في الفصل التالي الاستعدادات والأعذار المختلقة للغزو.