الجزء الثاني – من ترجمة كتاب “الإبادة في غزو العراق واحتلاله”

تأليف: د. عبد الحق العاني و د. طارق العاني

ترجمة: د. طارق العاني

الدولة الوطنية الناجحة أو الفاشلة

لم تتحول الدول الوطنية التي تم إنشاؤها بعد الحرب العالمية الأولى إلى ما كان يأمله الاستكباريون إذ سرعان ما اتضح أن النتيجة على الرغم من الانقسامات والحدود المصطنعة لم تكن واعدة لتأمين المصالح الاستكبارية في العالم العربي. وولد بين الحربين العالميتين جيل جديد من العرب الطموحين، حصل الكثير منهم على التعليم والمعرفة والمعلومات مما فتح عقولهم ودفعهم للتشكيك في الوضع القائم. وكانوا قد أصيبوا بخيبة أمل من الحكومات العميلة التي أقامها الاستكباريون والتي لم تكن أكثر من مجرد ختم مطاطي لأوامر أسيادها للسماح لهم بالاحتفاظ بقواعد عسكرية ومنحهم مصادر طاقة رخيصة وأسواقاً استهلاكية لمنتجاتهم.

 

تحولت عملية الوعي هذه بين الجيل الجديد من ضباط الجيش والمثقفين إلى أعمال ثورية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ويمكن تلخيص أهم الأحداث على النحو التالي:

 

1. الانقلاب العسكري في مصر عام 1952 الذي أطاح بالملك فاروق وجاء بجمال عبد الناصر .

2. تأميم قناة السويس على يد عبد الناصر .

3. فشل الغزو العسكري لمصر عام 1956 من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل .

4. الانقلاب العسكري في العراق عام 1958 الذي أطاح بالنظام الملكي وحل حلف بغداد الذي تم إنشاؤه بين العراق وتركيا وباكستان وإيران تحت هيمنة المملكة المتحدة والولايات المتحدة .

5. إنشاء أول جمهورية عربية متحدة عام 1958 بين سورية ومصر .

6. الإجراء الأول نحو تأميم النفط العراقي في القانون رقم 80 (1961) الذي أخذ 99.5٪ من ملكية شركة نفط العراق وأنشأ شركة نفط وطنية عراقية للإشراف على تصدير النفط العراقي .

7. انتصار الثورة الجزائرية في 5 تموز 1962 وانتهاء الاستيطان الفرنسي في شمال إفريقيا .

8. صعود وانتصار حركة البعث القومية العربية في العراق وسورية .

9. ثورة الشعب الليبي عام 1969 وصعود معمر القذافي .

 

لم يقف الاستكباريون الغربيون مكتوفي الأيدي بينما بدت الخطط التي عملوا عليها لأكثر من قرن تبدو مهزوزة. فقد شجعوا أولاً المزيد من اليهود على الاستقرار في فلسطين ثم سلموا البلاد في نهاية المطاف في عام 1947 للجيش اليهودي القوي لإقامة دولة إسرائيل على حساب السكان الأصليين للأرض. وقاموا ثانياً بغزو مصر عام 1956 بعد تأميم قناة السويس على أمل أن يؤدي هذا الغزو إلى إسقاط حكم عبد الناصر. وتأمروا ثالثاً في عام 1961 ونجحوا في حل الجمهورية العربية المتحدة التي شكلتها مصر وسورية. ورابعاً شجعوا وساعدوا التمرد المسلح للأكراد في العراق والذي كان من شأنه أن يزعزع استقرار العراق ويساهم في العديد من الأعمال الكارثية التي انتهى بها الأمر إلى تقسيم العراق بحكم الأمر الواقع .وشرعوا خامساً في إنشاء المزيد من الدويلات الاصطناعية على طول الساحل الغربي للخليج العربي . إن الغرض من إنشاء مثل هذه الكيانات يخدم مصالح الاستكباريين في تأمين إمدادات رخيصة من النفط والغاز والسيطرة على توزيعها في أجزاء أخرى من العالم والحفاظ على القواعد العسكرية في شبه الجزيرة العربية وإنشاء أسواق استهلاكية لمنتجاتهم مع الاستمرار في تمكين ادعائهم بأن هذه الدويلات كانت تتعامل كدول ذات سيادة.

 

فلسطين والمشكلة اليهودية والصهيونية

 

وبرغم أن إنشاء دولة إسرائيل ليس موضوع هذا الكتاب إلا أنه من المناسب دراسة الجزء من الخطة السوقية الاستكبارية الذي خدم إنشاء الدولة. فليس سراً أن أوروبا كانت تعاني من مشكلة يهودية وأن العديد من المدن الأوروبية كانت بها أحياء خاصة باليهود. ولا علاقة بالسبب وراء نشوء هذه المشكلة أو من فعل ماذا بما نحن بصدده، ولكن يكفي القول إن العديد من الأوروبيين كانوا حريصين على إزالة المشكلة اليهودية متى وكيفما كان ذلك ممكناً. وقد فكرت الحركة الصهيونية في أيامها الأولى في فكرة إنشاء وطن يهودي في عدة أجزاء من العالم قبل أن تختار فلسطين .

 

وبينما كان الأوروبيون يفكرون في السبل المتاحة لحل المشكلة اليهودية في أوروبا كانت بريطانيا تفكر في السابقة الخطيرة التي خلقها الزعيم المصري محمد علي بإرسال جيشه إلى سورية. فقد أعرب البريطانيون عن قلقهم من إمكانية تشكيل اتحاد بين سورية ومصر . وعندما تم وضع فلسطين تحت الانتداب اتضح للاستكباريين البريطانيين أنه من الممكن تحقيق هدفي حل المشكلة اليهودية وفي نفس الوقت إنشاء حاجز مادي بين مصر وسورية من خلال إقامة دولة يهودية في فلسطين. وتم اختبار فاعلية ذلك في عام 1961 مع التآمر في سورية لفصل سورية عن الجمهورية العربية المتحدة. وكان من المستحيل فعلياً على مصر في ذلك الوقت أن ترسل وحدات من الجيش لإخماد هذا التمرد.

 

فالصهيونية حركة سياسية فاعلة ذات مبادئ فكرية واضحة وقد عملت لهذا جاهدة خلال القرن الماضي لاستغلال الأحداث لصالحها. إن تعاونها مع النازية لتحقيق هذه الغاية موثق بشكل جيد . وعلى الرغم من أن الصهيونية بدأت بالادعاء الباهت بأنها حركة تطمح إلى حماية اليهود وإنقاذهم من الاضطهاد إلا أنها أصبحت منذ ذلك الحين أقوى لاعب سياسي في العالم. ويمكن القول باختصار إن الحركة الصهيونية التي بدت منذ مائة عام على نحو مخادع كحركة تابعة للاستكبار هي اليوم أسوأ مظهر للاستكبار. فقد أصبح استكباريو الأمس اليوم أنفسهم خاضعين للصهيونية والنظام الرأسمالي الصهيوني يعمل على دفع الخطط السياسية الصهيونية إلى الأمام. لقد أصبح هدف الصهيونية المعلن الآن هو تحويل كل فلسطين إلى دولة يهودية بحتة . والسؤال هنا هو: كم عدد الليبراليين المزعومين في الغرب الذين خرجوا ليشجبوا علناً هذه الخطط باعتبارها غير مقبولة تماماً لمبادئ الديمقراطية الليبرالية التي تستند إليها أوروبا والتي كنا نستمع لمحاضرات عنها تلقى على بقية العالم خلال القرن الماضي؟ الجواب: ليس كثيراً . والسبب هو أن الصهيونية أصبحت قوية جداً لدرجة أنه حتى من يسمون بالليبراليين أصبحوا خائفين للغاية بحيث لا يستطيعون الاعتراض عليها. وباختصار أصبح الاستكبار الصهيوني هو الديكتاتورية الفكرية المطلقة.

 

تطور الرؤية الغربية الجديدة

لم تتغير خطط السوق الغربية للعالم العربي القائمة على الغزو والقهر خلال المائتي عام الماضية. وقد لخصها وزير الخارجية البريطاني في عام 1949 على النحو التالي:

لم تتغير المصالح البريطانية في الشرق الأوسط إلا قليلاً في المائتي عام الماضية وهي صالحة اليوم كما كانت في زمن نابليون. وهي اليوم أيضاً إلى حد كبير جدا مصالح العالم الغربي كله. فالشرق الأوسط هو جسر بين آسيا وأفريقيا وطريق بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي … وقد أعطى النفط للشرق الأوسط قيمة جديدة وخطيرة لكن الجغرافيا ما تزال هي السيد .

 

لقد ثبت أن الاستكباريين الغربيين (القدامى والجدد) سرعان ما اكتشفوا أن نموذج الدولة الوطنية لم يكن يعمل كما كان مأمولاً منه فولدت حركات ثورية جديدة تتحدى أمن مصالحهم في المنطقة. وشرع الاستكباريون لغرض تشويه سمعة الأنظمة الثورية الجديدة في مصر والعراق وسورية والجزائر وليبيا إلى الإشارة مراراً وتكراراً إلى نقص سلطة الشعب في هذه الدول. لكن السؤال الذي كانوا يأملون ألا يطرحه أحد والذي يتأكد الإعلام الغربي من عدم طرحه على الإطلاق هو عن الافتقار إلى الديمقراطية في الأنظمة الاستبدادية في شبه جزيرة العرب والخليج وشمال إفريقيا التي يدعمها الغرب بالكامل.

 

وعندما أدرك الغرب فشل خطة إقامة دول وطنية صغيرة كان الهدف منها في البداية منع أية محاولة للوحدة العربية كان عليه أن يخرج بخطة سوق جديدة. كان أحد الإجراءات التي تمت الإشارة إليها سابقًا هو إنشاء دويلات في الخليج بهدف جعلها تتولى دوراً رائداً في العالم العربي من خلال قوتها النقدية.

وكان الإجراء الثاني الذي لا يقل أهمية هو دعم الحركات الإسلامية والذي بدأ بدعم جماعة الإخوان المسلمين في مصر (جأم). لم تعارض (جأم) التي أُنشئت في مصر عام 1928 النظام الملكي في مصر بجدية لكنهم بمجرد أن تولى عبد الناصر السلطة فإنهم لم يعارضوا حكمه القومي فحسب، بل حاولوا أيضاً اغتياله في عام 1954 .

دعم الاستكباريون الإخوان المسلمين في سورية (جأس) ضد نظام البعث القومي في انتفاضتهم العسكرية الأولى عام 1982 . وأدى سحق (جأس) الذي أعقب ذلك إلى فقدهم جيلاً قبل أن يتمكنوا من إعادة إطلاق حملة أكثر شراسة ووحشية في عام 2011 .

كانت حركة القذافي القومية في ليبيا تسبب المتاعب ليس فقط في ليبيا نفسها، ولكن أيضاً في الدول الأفريقية المجاورة. كان هناك القليل من المعارضة السياسية في ليبيا ولكن سرعان ما تمكن الاستكباريون بدعم من حكام الخليج الذين أصبحوا أقوياء بمالهم من دعم الحركة الإسلامية الضعيفة للقيام بانتفاضة وأرسل الغرب آلة التدمير (الناتو) للقضاء على النظام. ودمرت ليبيا وهي الآن في قبضة الفصائل المسلحة والانتماءات القبلية البدائية .

تم استخدام خطط تعبوية مشابهة جداً في العراق. وسنناقش كيف تم التلاعب بالإسلام لتدمير حكم البعث ومن ثم تحويل المسلمين ضد بعضهم البعض بسبب الاختلافات المذهبية. ويكفي هنا القول بأن تمكن البعثيين الكامل في العراق قوبل بمعارضة الغرب من خلال الدعم المباشر للحركات الإسلامية فيه. فقد وسع الاستكباريون خلال سنوات العقوبات من 1990 إلى 2003 دعمهم للأحزاب الدينية في العراق وحافظوا على اتصالات ولقاءات مستمرة حتى غزو العراق واحتلاله عندما تم جلب قادة هذه الحركات الدينية لحكم العراق. وعقد حزب الدعوة الشيعي اجتماعات أسبوعية منتظمة مع مكتب العراق في وزارة الخارجية كان يديرها ضابط استخبارات من مكتب MI6. وأصبح إبراهيم الجعفري الذي مثل حزب الدعوة في هذه الاجتماعات فيما بعد رئيس وزراء العراق بينما مثل الإخوان المسلمين السنة في العراق (جأع) في مجلس الحكم محسن عبد الحميد في حين أصبح حاجم الحسني، وهو من نفس الحزب والذي جاء مع الأمريكيين من كاليفورنيا، فيما بعد رئيساً لمجلس النواب العراقي الجديد . كما إن من يسمى برئيس وزراء المعارضة السورية في المنفى اليوم هو أيضاً مواطن أمريكي .

 

خطة السوق الجديدة للاستكبار

لقد أدرك الاستكباريون الغربيون أن الدولة الوطنية قد أسفرت عن ولادة حركات قومية عربية قوية على شكل حركة الناصريين والبعث. كان كل من الناصريين والبعثيين قوميين واشتراكيين وبالتالي مناهضين للرأسمالية ومعادين للاستكبار واتضح أن احتواءهم أمر صعب للغاية. وسرعان ما انتشر نفوذهم في بقية العالم العربي مع انعكاساته في شمال إفريقيا (مؤدياً إلى تولي القذافي السلطة في ليبيا) وانتفاضات في جنوب الجزيرة العربية على سبيل المثال لا الحصر. كانت الحركات السياسية القوية الأخرى في هذه البلدان متحالفة مع الشيوعية لكنها لم تكن أقل عداءً للتصميم الاستكباري من عداء القوميين العرب.

 

كان على الاستكباريين تغيير الخطط السوقية ومحاربة القومية العربية بأدوات جديدة. وعلى الرغم من أنهم دعموا الحركات الإسلامية في وقت مبكر جداً عن طريق معارضة الأنظمة القومية العربية إلا أنهم لم يعدوا هذه الحركات بديلاً قابلاً للتطبيق لحكم هذه الدول. إن التغيير في خطط السوق الذي جاء لاحقاً ولد من إدراكات جديدة وبدا أنه الوسيلة الوحيدة الممكنة لخدمة المخطط الاستكباري.

 

فقد أدركوا أولاً أن الإسلام السياسي لا يشكل تهديداً لمصالحهم وشعروا بالارتياح لملاحظة أن جميع رجال الدين في الأنظمة العميلة في شبه الجزيرة العربية كانوا يضمنون أن الجماهير ستطيع حكامها المستبدين وفقاً للقيود الدينية على الرغم من هدر الأصول الوطنية ومع وجود القوات الأجنبية في المنطقة. وكان رجال الدين هؤلاء أنفسهم مستعدين لإيجاد مسوغ ديني لأية إجراءات ينفذها هؤلاء الحكام نيابة عن الاستكباريين من السلام الضمني مع إسرائيل إلى مهاجمة وتدمير دولة مسلمة. وفي هذا المناخ لم يشعر الاستكباريون بأي ضغط لإيجاد مسوغات لأفعالهم. وعندما كانت الحكومات العربية تطالب هي نفسها بتدمير العراق لم تكن هناك حاجة كبيرة لبوش وبلير لتفسير أفعالهما .

 

وشكل ظهور الإسلام السياسي في تركيا ثانياً أكبر علامة أمل للاستكباريين الغربيين. فعندما انتهت الإمبراطورية العثمانية الإسلامية رسميًاً في عام 1924 كان الغرب متخوفاً من إحياء المشاعر الإسلامية في تركيا المشكلة حديثاً واستمر لذلك في دعم نظام أتاتورك وأتباعه. لكن يبدو أن الحركة الإسلامية السياسية الجديدة التي ظهرت في التسعينيات لا تشكل مثل هذه الأخطار على المصالح الاستكبارية الغربية. فقد دخلت تركيا خلال حكم الزعيم الإسلامي أربكان في عام 1996 في اتفاقية تعاون في الصناعة العسكرية مع إسرائيل كانت أساسية في توقيع “اتفاقية سرية” مع الصناعات العسكرية الإسرائيلية لتحديث قسم دباباتها وتحديث أسطول طائراتها العمودية وطائراتها القتالية (F-4 and F-5). ودخل البلدان بدورهما في مفاوضات تهدف إلى إقامة اتفاقية التجارة الحرة والتي دخلت حيز التنفيذ في عام 2000. وفي عام 1997 أطلقت إسرائيل وتركيا “حواراً شاملاً” يتضمن عملية نصف سنوية من المشاورات العسكرية رفيعة المستوى من قبل نواب رئيس الأركان . لقد كانت تركيا الإسلامية مرتبطة بحلف شمال الأطلسي وأوروبا أكثر من ارتباط أتاتورك به حيث كان لبعض قادة تركيا أيام أتاتورك بعض المشاعر القومية والتي لم تكن دائماً متوافقة مع مخططات الغرب.

 

ثالثًا وهو الأهم أن أصبح من الواضح أن الغرب لا يستطيع أن يجادل في جدوى دولة قومية متعددة الثقافات في الشرق الأوسط بينما كانت الصهيونية تعلن عن نواياها بوجود دولة يهودية بحتة في فلسطين. إن الدولة الدينية البحتة ستكون غير متوافقة مع فكرة الدولة القومية القائمة على المساواة والحرية التي اعتقد الغرب أنها ستسوقها في الشرق الأوسط. وعندما تم الوصول إلى هذه المرحلة في إسرائيل حان الوقت لخطة سوق جديدة تقوم على شرق أوسط مكون من دويلات صغيرة على أساس تقسيمات طائفية أو عرقية. وسوف تتنافس كل واحدة من هذه الدويلات المشكلة حديثاً لتأمين الحماية من الاستكباريين من خلال تقديم المزيد والمزيد من التعاون وسيكون الفائز في كل هذا دولة إسرائيل اليهودية التي تتمتع بشرعية راسخة كواحدة من بين العديد من الكيانات الطائفية من ناحية بينما تبقى من ناحية أخرى القوة النووية الأقوى والوحيدة من بينها. كان ذلك بمثابة نهاية التاريخ في العالم العربي بسبب نجاح الصهيونية .

ظهرت العلامات المبكرة لهذه الخطط الجديدة عندما تم تنفيذها في العراق في التسعينيات حين اقتنع صدام حسين في خضم يأسه باستخدام الإسلام لحشد الدعم من الناس داخل العراق وخارجه. وقد أطلق ما يسمى بـ “الحملة الإيمانية” التي تم فيها منح رجال الدين من جميع الطوائف بمن فيهم الوهابيون حرية التصرف في الدعوة إلى العودة إلى الأصول الإسلامية . لكن تصرف صدام حسين الخاطئ فشل في ثلاث تهم أساس. أولها أنه انتهك مبادئ البعث العلمانية الأساس التي كان الحزب يعلمها للعرب على مدى خمسة عقود. وثانيها أنها خلقت رد فعل عنيفاً في العراق عموماً وفي الحزب بشكل خاص بين الطائفة الشيعية لأن معظم رجال الدين في “الحملة الإيمانية” كانوا من السنة الأصوليين وبعضهم كانوا من السلفيين وهم العدو التام للشيعة. وهي ثالثاً عانت من انعدام المصداقية. وسيناقش الكتاب بالتفصيل حرية الأحزاب الإسلامية في العراق بعد الغزو والاحتلال.

 

ما تزال تتكشف أمثلة أخرى على تنفيذ خطط السوق الجديدة في العالم العربي. فقد أدرك الاستكباريون منذ غزو العراق واحتلاله مدى ضعف الحركة القومية العربية وانقسامها. ومن الصعب للغاية قبول الوصف البسيط للاضطرابات في العالم العربي على أنها استياء عفوي من قبل الجماهير العربية المحرومة. لا شك أن النظام السياسي العربي قد فشل وصحيح أيضاً أن الشباب العربي في جميع أنحاء العالم العربي لا يتوقعون أي مستقبل لائق. لكن هذه الحقائق كانت موجودة منذ فترة ما. لكن الذي برز هو حقيقة أن هذه الانتفاضات جاءت متزامنة كما لو أن هناك خطة رئيسة لتحريضها معا حركة واحدة من الفوضى.

 

كان الاستكباريون مدركين لعدم وجود أي حركات سياسية جادة ومنظمة في العالم العربي والتي يمكن أن تشكل تحدياً للأنظمة القائمة باستثناء جماعة الإخوان المسلمين. وكان خطر السماح باستمرار هذا الوضع غير مقبول خوفاً من ولادة حركات ثورية جديدة مثل ولادة الحركة القومية العربية بين الحربين العالميتين. ونحن نعتقد بالرغم من عدم وجود دليل لدينا حتى الآن أن الاستكباريين كانوا محرضين على أجزاء من هذه الانتفاضات بينما دعموا أجزاء أخرى. وكان الهدف إنشاء نظام جديد من الدول المنتسبة إلى العقائد الفكرية الغربية والتي تعني في الواقع الخضوع لهذه الدول. وإذا لم يتم تأمين مثل هذه النتيجة فستترك الدولة في حالة من الفوضى السياسية والاجتماعية مما يضمن الاستغلال من قبل الغرب وترسيخ مصالحه.

 

يعتقد الدكتور جيمس ترينغ أنها مؤامرة دبرتها مجموعة الأزمات الدولية التي أسسها زبيغنيو بريجنسكي وربيب روتشيلد جورج سوروس لزرع الفتنة بين الشباب الساخط. وقد شجعهم “تحالف حركات الشباب” الذي أسسه الصهاينة المتحمسون جاريد كوهين وجو ليبمان في نيويورك. وقد أُعطي هذا غطاء من الاحترام من خلال غرس دعوات “الديمقراطية/ سلطة الشعب” وإدانات القادة الحاليين على أنهم “مستبدون”. وقد تم تنظيم هذا وتمويله من قبل “الوقف الوطني للديمقراطية” الذي يديره الجنرال الإسرائيلي السابق كارل غيرشمان في نيويورك. كان من المفترض أن يكون الدافع الخفي للاستفادة من هذا التدخل هو الوصول إلى الموارد مثل النفط والذهب حين تسود الفوضى. ومن المرجح أيضا صواب الرأي القائل بأن تعطيل الدول العربية سوف يصرف انتباهها عن دعم دولة فلسطينية في طور النشوء .

 

انحاز الاستكباريون في تونس إلى حزب النهضة الإسلامي وزعيمه راشد الغنوشي الذي بدأ عهده بإعلان علاقاته القوية مع الأمريكيين على الرغم من خطابه حول الاستكبار الأمريكي أثناء تدمير العراق. أما في ليبيا فقد كانت هناك حركة إسلامية ضعيفة ونظام قوي إلى حد ما. وكان على الغرب أن يختلق قصة وهمية عن قيام القذافي بمهاجمة سكانه المدنيين بطائرات عسكرية وانتهى الأمر بتدمير ليبيا جواً وبحراً وتمكين عصابات صغيرة من الإسلاميين القتلة والسفاحين غير المتدينين من تدمير البلاد. وليبيا اليوم في حالة فوضى عارمة لكن كل نفطها في أيدي الشركات الغربية .

كان الوضع في مصر مختلفاً بعض الشيء. إذ لا يجب أن ننسى أن مصر كانت قاعدة رئيسة لحركة القومية العربية في عهد عبد الناصر بين عامي 1952 و1970. إلا أن حركة القومية العربية في مصر على عكس العراق وسورية كانت تركز بشكل أساس على عبد الناصر شخصياً. وهدأت بمجرد وفاته ببطء خاصة بعد أن أبعد السادات ومبارك نفسيهما عنها. إلا أنه اتضح أن مفهوم القومية العربية ما يزال باقياً في وعي ولا وعي الناس. ففي الانتخابات الرئاسية الأخيرة نجح المرشح الذي يمثل بشكل فضفاض المُثل الناصرية في الحصول على أكثر من 5 ملايين صوت . كانت جماعة الإخوان المسلمين في مصر هي الحزب السياسي المنظم الوحيد الذي يتمتع بقرابة 80 عاماً من الخبرة السياسية وشبكته القوية من المساجد وشبكات التلقين الديني المستمر. وقد أشرنا في وقت سابق إلى أن (جأم) كانت مدعومة من قبل الاستكباريين البريطانيين ضد عبد الناصر، ولهذا بدا من اللائق جدا دعمهم للاطاحة بنظام مبارك الذي تجاوز هدفه وأصبح عائقاً. وأعلنت (جأم) بمجرد فوزها في الانتخابات تمسكها باتفاقية كامب ديفيد التي هي معاهدة الاستسلام لإسرائيل؛ وعبروا عن كراهيتهم لعبد الناصر وكل ما يمثله؛ ودعوا إلى إسقاط نظام البعث القومي في سورية .

 

نعتقد أن ما حدث في ليبيا كان مقدمة للهجوم الكبير على سورية آخر معقل للقومية العربية. فسورية مختلفة جداً عن بقية العالم العربي إذ حكمها حزب البعث لخمسين عاماً ولديه جيش متماسك جداً ومُلقن عقائدياً بمبادئ القومية العربية. وقد أدرك الاستكباريون أن الحملة لمحو سورية ستكون مختلفة عن تلك التي تستهدف العراق أو ليبيا. ومع ذلك فقد فشلت الخطط حتى الآن لسببين رئيسين. أولهما: أخطأ الغرب في تقدير المزاج الدولي مع توقع قبول تكرار هجوم كبير لحلف شمال الأطلسي على سورية مشابه للهجوم على ليبيا. ولكن عندما رفضت كل من روسيا والصين لعدة أسباب الموافقة على منح مثل هذه السلطة لمجلس الأمن واجه الغرب خياراً صارخاً إما بغزو سورية، أو السماح لمعارضي سورية، أو مساعدتهم في قتال أقوى جيش عربي. لكن العالم كان قد تغير منذ غزو العراق عام 2003. فبالإضافة إلى الحالة الكارثية للرأسمالية العالمية فإن الهجوم العسكري على سورية يهدد بعواقب لا يمكن السيطرة عليها قد تشمل إيران وإسرائيل في حرب كبرى لا يمكن التنبؤ بنتائجها.

ثانيًا وعلى الرغم من التجنيد العلني للمتعصبين المسلمين من جميع أنحاء العالم والدعم المالي والعسكري الهائل من الخليج وشحنات الأسلحة الضخمة للمتمردين وتدريب هؤلاء المتعصبين من قبل موظفين أمريكيين وبريطانيين وفرنسيين في الأردن وتركيا والحرب الإعلامية الضخمة غير المسبوقة إلا أن المرونة السياسية والعسكرية للنظام السوري صدمت خصومه. فقد تم حتى كتابة هذه السطور قصم ظهر التمرد العسكري وتبخرت توقعاتهم في الانتصار على حزب البعث. ومع ذلك فقد أعيدت سورية عشرين عاماً إلى الوراء في قوتها الاقتصادية والعسكرية. أما عن الاضطرابات الاجتماعية فلا يستطيع المرء تقدير حجم الضرر ليس فقط للبنية التحتية المادية، ولكن للنسيج النفسي للمجتمع. وهكذا وعلى الرغم من عدم قدرتهم على محو سورية كما كانوا يأملون إلا أن الاستكباريين نجحوا في جرح سورية بشدة لدرجة أن إسرائيل يمكن أن تتنفس الصعداء من التهديد القادم من سورية بعد أن تم تحييدها لبعض الوقت دون إطلاق رصاصة أو دون فقد جندي رغم أنهم ألقوا عدة قنابل على الدفاعات السورية ومراكز المخابرات والقوافل ومنشأة الأبحاث العسكرية في دمشق. كما أُجبرت سورية على التخلي عن أسلحتها الكيماوية وقدراتها التصنيعية التي كانت رادعاً لأي استخدام إسرائيلي محتمل لأسلحة الدمار الشامل.

إن من المعقول أن نستنتج حتى كتابة هذه السطور أن الاستكبار حاول تغيير خطط السوق للسيطرة على العالم العربي من مبدأ الغزو والاحتلال العسكري المباشر إلى الاعتماد على الإسلام السياسي والدعم الكامل من أموال نفط الخليج. وهذا ليس ببساطة أقل كلفة بالنسبة للغرب من حيث الأفراد والمال، ولكنه يبدو أيضاً أنه يحمل التظاهر الحضاري بدعم الانتفاضات الشعبية والمثل العليا. وما يزال يتعين علينا رؤية إلى أي مدى تم إيقاف هذه الرؤية بسبب الانقلاب العسكري في مصر ضد حكومة الإخوان المنتخبة شعبياً والتي حاولت بالفعل اتباع مبادئ إسلامي بدلاً من المبادئ الغربية بينما تواصل الحكومات الغربية العمل كالمعتاد مع الحكومة الجديدة والتي هي ليست سوى نظام ع

سكري قديم.

 

عبد الحق العاني

www.haqalani.com

 

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image