الجزء الثالث – من ترجمة كتاب “الإبادة في غزو العراق واحتلاله”

تأليف: د. عبد الحق العاني و د. طارق العاني
ترجمة: د. طارق العاني

الفصل الثاني
العراق عشية غزوه عام 2003

قد يكون من المستحيل فهم ما حدث في العراق منذ الغزو عام 2003 دون بعض الفهم الأساس للوضع في العراق عشية ذلك الغزو.

الخطط البريطانية للعراق
أوضحنا في الفصل السابق كيف حاولت بريطانيا خنق العراق الجديد حتى قبل إعادة هيكلته من بقايا الحكم العثماني. فبعد تنفيذ الخطط الواردة في اتفاقية سايكس بيكو والترتيبات اللاحقة مع فرنسا أدركت بريطانيا أنه ليس من الممكن سياسياً البقاء كقوة محتلة في العراق إلى أجل غير مسمى. وكان عليها لذلك أن تضع نظاماً بديلاً لضمان التبعية في المدى الطويل. كان عليها أن تبحث عن عراقيين مستعدين للتعاون معها حتى تتمكن من إقامة شكل من أشكال الإدارة التي يمكن أن تدعي الشرعية بينما تبقى بريطانيا محكمة قبضتها على العراق. كان العراق بعد قرون من الحكم العثماني القمعي في حالة سيئة فيما يتعلق بالتعليم والإعلام. فقد ضمن تتريك الحكم العثماني للعرب أن قلة من الناس في العراق كانوا قادرين على التحدث باللغة العربية بشكل صحيح. وكانت اللغة العربية في الواقع قد ماتت كلغة تواصل في معظم أنحاء العالم العربي لولا القرآن الكريم. وهكذا فقد كان المتعلمون الوحيدون في العراق باستثناء رجال الدين هم أولئك الذين تلقوا تعليمهم في اسطنبول. لم تستطع بريطانيا الاعتماد على رجال الدين المسلمين لأسباب واضحة لكنها وجدت متعاونين جاهزين بين الشباب العراقيين الطموحين الذين كانوا يعملون بالفعل لصالح العثمانيين. وليس مهماً لنا هنا معرفة ما إذا كان أشخاص مثل نوري السعيد وجعفر العسكري وياسين الهاشمي قوميين عراقيين حقيقيين اعتقدوا أن مصالح العراق تكمن مع ذلك في الاصطفاف مع بريطانيا أو كانوا مجرد انتهازيين أرادوا السلطة وغيروا مواقفهم من العثمانيين إلى البريطانيين، بل يكفي القول إن بريطانيا وجدت أن هؤلاء الشباب العراقيين المتعلمين كانوا على استعداد كامل للتعاون.

لا بد أن تكون بريطانيا قد وضعت في حسبانها أنها قد خدعت الحسين، شريف مكة، عندما فشلت في الوفاء بأي من الالتزامات التي تعهد له بها مكماهون. فعندما أعلن القوميون استقلال سورية ونصبوا فيصل ملكاً في آذار 1920 استولى الجنرال الفرنسي هنري غورو على دمشق وخلع الملك الجديد. وقرر وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل وزملاؤه خلال مؤتمر القاهرة في آذار 1921 تعويض فيصل عن خسارته للمملكة السورية من خلال منحه تاج مملكة العراق الجديدة. وقرر المسؤولون البريطانيون في المؤتمر نفسه منح أراضي شرق الأردن لشقيق فيصل عبد الله ين حسين كإغراء لعدم الانتقام لهزيمة فيصل في سورية ولأنهم كانوا وعدوا بأنه هو وليس فيصل سيكون ملك العراق. ومع أن هذا لم يكن سوى إصلاح جزئي للضرر الشخصي لحسين فإنه قد ضمن أيضاً أن ملك العراق، بصفته دخيلًا عليه، سيعتمد دائماً على البريطانيين من أجل بقائه.

أنشئت إدارة جديدة للعراق حليفة لبريطانيا شكلها الملك فيصل الأول. لم يكن الخلاف والاقتتال الداخلي بين الفصائل السياسية المختلفة في العراق في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي يتعلق بالاستقلال أو السيادة أو الاقتصاد بل حول السلطة. كان كل الذين يعملون في الدوائر السياسية الرسمية حلفاء لبريطانيا وكان الوضع مشابهاً جداً لما أصبح عليه الحال في عراق ما بعد عام 2003 مع اختلاف رئيس واحد وهو أن السياسيين في العشرينيات من القرن الماضي لم يكونوا أشخاصاً فاسدين كما هو الحال اليوم. وبينما كان السياسيون في عشرينيات القرن الماضي يتقاتلون على السلطة كان السياسيون في فترة ما بعد عام 2003 يتقاتلون من أجل أكبر حصة من أموال النفط في العراق.

قاد النظام السياسي الجديد الذي أنشأته بريطانيا في العراق إلى معاهدة التحالف الأنجلو-عراقية عام 1922 والتي تلتها معاهدة موسعة لعام 1932 جعلت الشؤون الخارجية والعسكرية والمالية والقضائية خاضعة مباشرة للسيطرة البريطانية وسمحت الاتفاقيات الفرعية بإنشاء قواعد بريطانية في البلاد . والأهم من ذلك هو حقيقة أن بريطانيا قد أبرمت معاهدة منحت نفط العراق بأكمله للتنقيب البريطاني لمدة 75 عاماً. وأصبحت شركة النفط التركية (التي أصبحت فيما بعد شركة النفط العراقية (IPC)) والشركات المرتبطة بها المستكشفين والمصدرين الوحيدين لنفط العراق الذي كان على العراق أن يتلقى من خلاله المبالغ التي تقررها شركات النفط نفسها. كما أن سيطرة شركة نفط العراق على نفط العراق تعني أنها هي وحدها التي قررت خطط السوق التي تتبعها لاستغلال وإنتاج الموارد الطبيعية للعراق والتي مكنت بريطانيا بدورها من السيطرة على تنمية العراق طالما تمكنت من خلال السيطرة على عائداته النفطية الضئيلة .

وسرعان ما أدى الحرمان من الموارد الوطنية والكرامة والسيادة المحدودة إلى الاستياء في العراق. فبينما كانت بريطانيا منخرطة في القتال على عدة جبهات خلال الحرب العالمية الثانية قام عدد قليل من ضباط الجيش العراقي وبعض القوميين بانقلاب ضد الملك وحكومته. وسحقت بريطانيا التمرد بسرعة وبلا رحمة وأعادت النظام القديم الذي أعدم المؤامرين. وأصبحت ما سميت بثورة 1941 رمزاً للتطلعات القومية في العراق لعقود عديدة .

عندما بدأت حركتان قويتان وهما الشيوعيون والقوميون من العرب في تشكيل معارضة سياسية ذات مصداقية للنظام الموالي لبريطانيا رد البريطانيون بإنشاء نظام أمن جديد على شكل حلف بغداد في عام 1955. وكان هذا الحلف ظاهرياً بين العراق وإيران وتركيا وباكستان وأن كان فعلياً تحت إشراف وسيطرة بريطانية . وكان الغرض المعلن من الحلف هو حماية أعضائه من التهديدات الخارجية. إلا أنه نظراً لأن العدو الوحيد للعراق في ذلك الوقت كان دولة إسرائيل وبما أن حلف بغداد لم يكن مصمماً لمعارضة إسرائيل التي كانت بريطانيا قد ساعدت للتو في إنشائها فمن سليم القول هو الاستنتاج بأن الغرض من الاتفاقية كان إنشاء كتلة موحدة من الأنظمة القمعية الموالية لبريطانيا والتي قد تساعد بعضها البعض في حالة الإطاحة بالنظام في أي منها .

تقول الشائعات إنه لمدة يومين بعد انقلاب عام 1958 كان نوري السعيد ينظر إلى السماء بانتظار إنزال قوات حلف بغداد لإنقاذ النظام القديم. وعندما لم يأت الإنقاذ المنشود أعلن نوري أن البريطانيين كانوا وراء الانقلاب. وإذا كان نوري السعيد قد أعطى مثل هذا التصريح فلا بد أنه تم في لحظة يأس. كان الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه في حركة الضباط الأحرار عراقيين قوميين حقيقيين يطمحون لتحرير العراق من الهيمنة الأجنبية لكنه من الممكن أيضاً أن نتصور أن البريطانيين والأمريكيين كانوا على دراية بإمكانية حدوث انقلاب عسكري في العراق ولم يفعلوا شيئاً لمنعه او تنبيه نوري إليه. وكان العراق مع صعود الحركة القومية العربية الناصرية ربما سيسقط في أيدي القوميين مع احتمال قيام جمهورية عربية متحدة تضم مصر وسورية والعراق. كان هذا هو الكابوس الذي كان يخشاه البريطانيون في زمن محمد علي في مصر. وقد فضل الاستكباريون لتجنب مثل هذا المشهد المحتمل على الأرجح غض النظر عن انقلاب 1958 العسكري ثم استنزافه في الاقتتال السياسي بين الاقطاب المتطرفة للشيوعية والقومية العربية.

حكم عبد الكريم قاسم
أتثبت الأحداث التي تلت ذلك الخلاف الذي ذكرناه أعلاه. فقد تم التلاعب بالقيادة الساذجة وعديمة الخبرة لكل من الشيوعيين والقوميين العرب في صراع دموي بعد وقت قصير جداً من انقلاب تموز 1958. وتكشف الأحداث المؤسفة للحوادث الوحشية التي وقعت في العراق بين عامي 1959 و1963 عن بعض الخطوط العدوانية والبربرية في النفسية العراقية التي لم يتم فهمها أو دراستها بعد. وانتشرت حلقة مماثلة من الهمجية في العراق بعد غزو عام 2003. ويمكن أن نلاحظ بسهولة أن حلقات مماثلة من البربرية ظهرت في التاريخ خلال الثورات والاضطرابات مثل الثورة الفرنسية عام 1789 والثورة البلشفية عام 1907 و في الحرب الأهلية الإنجليزية عام 1649 أو الحرب الأهلية الأمريكية عام 1861. ولا داعي لأن نوضح على سبيل المثال كيف أخذ الجنود الأمريكيون آذان الضحايا الفيتناميين كتذكارات.

كانت هناك محاولة من قبل البعثيين لاغتيال قاسم نجا منها مع إصابة دائمة في ذراعه ونجا الجناة الذين تم القبض عليهم من حكم الإعدام. أما أولئك الذين فروا من العراق مثل صدام حسين فقد عادوا ليلعبوا دوراً رئيساً في العراق على مدى الثلاثين عاماً التالية. لكن الحادث الرئيس كان انتفاضة عسكرية في الموصل شمال العراق قتل فيها الكثير من الناس من الشيوعيين والقوميين وتم قمع الانتفاضة . وعلى الرغم من أن قاسم كان ضد إراقة الدماء لدرجة أنه لم يوافق إلا على إعدام أربعة من أعضاء النظام القديم إلا أنه اتخذ وجهة نظر مختلفة تماماً بعد فشل انتفاضة الموصل. وساهم قراره بالموافقة على إعدام نحو 20 من كبار الضباط العسكريين والمدنيين، بعضهم من أعضاء بارزين في حركة الضباط الأحرار، في التآمر ضده وفشله وموته في شباط 1963 .

لعب انقلاب عام 1958 دوراً رئيساً في تاريخ وأحداث العالم العربي في القرن العشرين. وعلى الرغم من أنه حدث على الأرجح بموافقة ضمنية من الغرب إلا أننا نعتقد أنه لم يكن بأي حال من الأحوال تحت وصايتهم. وهكذا سرعان ما أصبح قاسم يعتقد مثل العديد من القادة الطموحين الآخرين في العالم النامي بعد الحرب العالمية الثانية أنه كان القائد الموعود الذي كان مقدراً له تحقيق الاستقلال الوطني والخلاص والسلام والأمن والتنمية ومستوى معيشي لائق. وقد ساعدته في هذه المعتقدات الدعاية الشيوعية التي وصفته بـ “الزعيم الأوحد”.

لقد غير قاسم الأمور بالفعل إلى درجة أن الأمر تطلب غزواً كاملاً للعراق لعكس مسار هذه الأمور. فقد أنهى اعتماد العملة العراقية على الجنيه الإسترليني حتى جاء غزو 2003 وربطها مرة أخرى بالدولار. ودق المسمار الأخير في نعش حلف بغداد إلى أن ربطت الحكومة الدمية لنوري المالكي العراق مرة أخرى بالمعسكر الاستكباري. وشكل أول وحدة من جيش التحرير الفلسطيني اعتقد أنها ستستمر لتحرير أرضها المغتصبة .

أنه من الواضح أن عبد الكريم قاسم أيد الاعتقاد العراقي الراسخ بأن الكويت انفصلت بشكل غير قانوني عن العراق تحت الانتداب البريطاني. وهكذا أرسل في 20 حزيران 1961 رسالة إلى شيخ الكويت رحب فيها بشكل غير مباشر بعودة الكويت إلى العراق بعد أن أعلن البريطانيون عن نيتهم ​​الانسحاب . وطالب قاسم في مؤتمر صحفي يوم 25 حزيران بعودة الكويت كقضاء عراقي وجزء من البصرة. ووزعت الحكومة العراقية يوم 26 حزيران مذكرة على سفراء الدول العربية والأجنبية في بغداد تشرح تاريخ الكويت وتعلن أن الكويت جزء من العراق ويجب أن يعود إليه . وتسبب هذا التصريح في رد فعل سريع من بريطانيا بشكل نشر مكثف للقوات البريطانية في الكويت كدليل آخر على خطتها الشاملة لخنق العراق .

لكننا نعتقد أن الإجراء الثوري الأهم الذي اتخذه قاسم كان إصدار القانون رقم 80 (1961) والذي استعاد 99٪ من العراق من أيدي شركات النفط . وقد مكن هذا القانون بالنتيجة العراق من استكشاف نفطه وإنتاجه وتصديره لصالح العراق حتى غزو عام 2003 حين استولت الشركات الاستكبارية مرة أخرى على نفط العراق وحصل كبار السياسيين على حصص في السرقة العلنية لموارد العراق .

وعندما ننظر إلى الخلف إلى العراق على مدى السنوات ما بين 1959 و2003 تبدو الرسالة الرئيسة من الاستكبار الى الشعب العراقي هي أن كل نضال وتضحيات تلك الحقبة ذهبت سدى لأنهم اليوم في وضع أسوأ مما كانوا عليه في عام 1958!

لقد آمن قاسم على غرار معظم قادة العالم النامي في عصره، وبسذاجة يعود جزء منها إلى نجاحه، بقدرة الدعم الشعبي العام. فقد عززت المظاهرات الشعبية التي نظمها الشيوعيون في الغالب ودعموها إيمانه بأنه حقًا “الزعيم الأوحد” فلم يكن بحاجة إلى تنظيم سياسي لدعم شرعيته وحكمه. وعلى الرغم من أنه كان واسع الاطلاع فقد فاتته حكمة علي بن أبي طالب العظيمة التي نقل فيها قوله قبل نحو ثلاثة عشر قرناً عن الغوغاء في أنهم:

​”هم الذين إذا اجتمعوا غلبوا، وإذا تفرقوا لم يعرفوا.”

وعندما تجمهر ضده كل أعدائه من البعثيين والقوميين العرب والإسلاميين والعملاء الاستكباريين صباح يوم 8 شباط 1963 لم تكن هناك حشود تدعمه باستثناء أعضاء الحزب الشيوعي الذين خرجوا إلى الشوارع بقيادة الأمين العام للمكتب السياسي لمحاربة ما وصفوه بالمؤامرة الاستكبارية الرجعية ضد العراق. وكانت النتيجة سريعة ووحشية فقد تم إعدام قاسم وأقرب مساعديه دون محاكمة. وتم قتل أو سجن العديد من الشيوعيين. وفي الواقع لم تتعافَ أبداً وطنية قاسم العراقية ولا الشيوعيون العراقيون من الدمار الذي حدث في شباط 1963.

وللحديث صلة…
عبد الحق العاني
www.haqalani.com

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image