ما العمل؟
قد يظن من يظن أني يائس أو مستسلم بسبب ما أسلفت. لكنني أود أن أؤكد قبل البحث في “ما العمل؟” أني لست كذلك. ذلك أني أؤمن أن أهل هذي الأرض باقون في أرضهم ما دامت السموات والأرض، فهم فيها منذ دون التاريخ ولا بد أنهم كانوا قبل ذلك. وقد مرت عليهم آلاف السنين وهم يتمازجون وينزحون ويستوطنون الأرض فذابت أعراق في أعراق واختفت لغات وسادت اللغة العربية لساناً لأهل هذي الأرض لأن القرآن العظيم حفظها ولو أن الأناجيل الأربعة كتبت بالآرامية بدل اليونانية لربما كانت الآرامية هي اللغة السائدة اليوم لكنه تعالى شاء غير ذلك. فأهل هذي الأرض باقون فيها مهما تعددت الهجمات والغزوات. فقد استباحها أقوام من الشرق ثم جاء المغول من الغرب في الغزوات الصليبية ثم اغتصبوا فلسطين بتواطئ عثماني ثم غزو العراق واحتلوه. وقد يأتي غزاة غيرهم. لكن الأمر لن يتغير. فكما دخل هولاكو مزبلة التأريخ سوف يدخل قادة الغرب وأفكارهم المادية البائسة مزبلة التاريخ بعد أن يرحلوا عن أرضنا، وإني على يقين أنهم سوف يرحلون عن أرضنا. وقد يسأل سائل: لماذا تكتب إذن؟ وجوابي أني أستعجل التاريخ لقوله تعالى “وخلق الإنسان عجولا”. وحيث إننا نجهل الغيب فإننا نعمل بما نؤمن به، مهتدين بقوله تعالى: “يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب”. وهذا يقتضي أن أعطي رؤية لما أعتقده طريقا لنا.
وحيث إني قد أسلفت بأن الحكام العرب هم إما صهاينة وإما متحالفون مع الصهيونية فإنه يصبح من العبث دعوة أي حاكم عربي لمواجهة سيده. لذا فإن خطابي هو للإنسان العربي فهو باق في استمراريته ونسله سواء أبقي الحكام أم زالوا.
وهناك سبيلان للعمل أولهما يتمثل في سلوك سلبي والثاني في سلوك إيجابي.
العمل السلبي
لست أطلب من الإنسان العربي أن يفعل المستحيل لكن الذي أطلبه هو أن يسأل نفسه ما إذا كانت صيانة كرامته تستحق شيئا من التضحية! وفي الإجابة على هذا السؤال يجب مواجهة عدد من الحقائق. وأولها الإقرار باننا غير قادرين اليوم على هزيمة الصهيونية عسكريا لأسباب قد يصعب تعدادها لعل أدلها حقيقة أنه لا يمكن لأية قوة عسكرية تقليدية أن تهزم قوة عسكرية نووية وهو ما لم يحدث قبل ولن يحدث مستقبلا. كما أنه لا يمكن لمن لا ينتج سلاحه أن يحارب من ينتج أكبر وأخطر سلاح في العالم وهو ما اكتشفه العراق بكلفة عالية بعد عام 1990. كما أن الحكام العرب الأغبياء، بمن فيهم من ادعى وانتسب للمشروع القومي، كانوا يتسابقون في التصديق على معاهدات نزع السلاح والتفتيش عنها في الوقت الذي كان عدو الأمة لا يفعل أيا من ذلك!
إن طغيان الصهيونية يقوم على أساس تفوقها العسكري في أنها قادرة على ضرب أي مكان في العالم متى شاءت. وهذا التمكن لم يأت بسبب أنها تنتج عقولا غير موجودة في مكان آخر وإنما يأت من هيمنتها المطلقة على المال في العالم. وهذه الهيمنة التي تجتلب العقول والطاقات ليس مردها أن الصهيونية تتحكم بعملات أكثر أهل الأرض حسب وإنما بسبب أنها أوجدت نظاما يمكنها أن تصنع ثروة من عدم وذلك من خلال طبع الدولار الذي توزن به عملات الآخرين من دون غطاء، وهذا يعني عمليا أنها تأخذ ثروات الآخرين مجاناً.
إن هزيمة الطغيان الصهيوني يتم من خلال هدم هيمنتها على اقتصاد العالم. وهنا يأتي دور الإنسان العربي للمشاركة في هذا. فلا يقولن قائل إن هذا لن ينفع بل سينفع ذلك لأن الإنسان هو أكبر راس مال فهو حقيقة، أما الدولار فهو اصطناع.
إن على الإنسان العربي الذي يحرص على استعادة كرامته المهدورة أن يبدأ بنفسه في مقاطعة الصهيونية في كل عمل أو سلوك من شراء المنتج الى زيارة أي بلد صهيوني الى المشاركة في أي نشاط اجتماعي أو ما يسمى ظلما نشاطا ثقافيا. وقد يكون المطلب صعب التحقيق في خطوة واحدة لذا فإن العقل يقضي بالتعامل مع العدو بالتدرج من الأسوأ الى السيء. وليس غائبا عني أن هناك تداخلاً بين اقتصادات الدول لكن كل خطوة تصب في إيذاء الاقتصاد الصهيوني يجب أن تسلك.
وأول ما يبدأ به في التدرج هو مقاطعة الدول الأنكلوساكسونية الخمس بكل ما يصدر عنها أو له علاقة بها ثم يأتي بعدها من حيث السوء دور دول حلف شمال الأطلسي في المقاطعة. فليس من الضروري، على سبيل المثال، شراء سيارة أمريكية إذا أمكن شراء سيارة صينية وقد يقول من يقول بأنها قد لا تكون بالجودة نفسها ولكن هذه هي التضحية البسيطة التي تطلب من الإنسان العربي إذا كان لكرامته قيمة. وليس من الضروري طلب العلاج في لندن إذا أمكن الاستعاضة عنه في جنوب شرق آسيا. وهل يعقل أن العرب الذين صدروا “البن” للعالم يحتاجون اليوم الى مغتصب صهيوني في القارة الأمريكية أن يعلمهم كيف “يحمصون” البن كي يشربوه في “مقاهي ستاربك” التي تتعثر بها في مدن مجلس التعاون الخليجي. إن هذه ليست محاولة لإحصاء الطرق التي يمكن فيها لأربعمائة ألف ألف عربي أن يبين للصهيوني كيف يمكنه أن يضر باقتصاده بل هي مؤشر على الطريق. فكيف إذا قرر الإنسان العربي انه لن يصعد في طائرة من صنع شركة “بوينك” على سبيل المثال؟ كما أن الاقتصاد الصهيوني هو حصيلة سلسلة من عمليات الإنتاج يعتمد بعضها على بعض. فإذا ما ضعفت صناعة السيارات لضعف الطلب عليها فإن ذلك سيؤدي الى ضعف عشرات من الصناعات التحويلية التي تغذي صناعة السيارات.
إن المغتصب المتعالي في القارة الأمريكية إذا أدرك أن سبب تضاعف سعر الوقود هو بسبب دعمه لمغتصبة فلسطين فقد يفكر أكثر من مرة في الاستمرار في ذلك. إن ما يدفعه للاستمرار في شعوره في التفوق والدعم المطلق للمشروع الصهيوني هو استسلام العربي المطلق ورضوخ العرب للذل. فلماذا يفكر الصهيوني المغتصب بك إذا كنت راضيا بالذل؟ أما إذا أدرك الأوربي، وأعني به ليس ساكن أوربا فقط وإنما كل أوربي اغتصب أرضا واستوطنها، إذا أدرك أن ثمن الاحتفاظ بمغتصبة فلسطين، الذي يريده حكامه الموظفون لدى الصهيونية، غال جدا وانه يتم على حساب راحته ورفاهيته فإنه قد يبدأ بالتفكير جديا بأنه لا يريد أن يتحمل هذا العبء. وهذا الشعور لن يبدأ بالتأثير إلا إذا كان سلوك العربي ضاغطاً في هذا الاتجاه في رفع أسعار الطاقة والمواد الأولية والتي تؤدي بدورها الى عسر في حياة الأوربي.
وللحديث صلة
عبد الحق العاني
29 تشرين أول 2024