إذا كانت سياسة إيران الخارجية اليوم يديرها، كما يبدو، محمد جواد ظريف فإن إيران ليست بصدد أي موقف ضد الصهيونية، لأنه صهيوني الهوى، ومن أراد التحقق من ذلك فما عليه سوى العودة الى فترة إستيزاره للخارجية الإيرانية حيث يكفي أن تعد عدد زياراته الى أنقرة في تلك الفترة مع ملاحظة أنه لم يزر دمشق (وهي الحليفة) ولو مرة واحدة. فرئيس الجمهورية الإيرانية قد يكون جراح قلب جيد لكنه يبدو واضحا من تصريحاته السياسية أنه ساذج فيها. أما عباس عراقتشي فقد قضى أسبوعه الأخير في نيويورك يقبل أيادي وزراء الخارجية الأوربيين ليصدقوا أنه مخلص في التأكيد على تمسك إيران بالإتفاق النووي، دون أية جدوى.
لكن إيران فيها دولة ثانية هي دولة “ولاية الفقيه” التي يقودها السيد علي خامنئي. والتي أنشأها السيد الخميني. وإن كانت لم تعد تمتلك قاعدة شعبية حقيقية فلو جرى استفتاء سليم بين شعوب إيران حول قبول مشروعية ولاية الفقيه لما نجح المقترح اليوم. لكن هذا ليس مهما هنا إذ يكفي أن هذه الحقيقة قائمة وان ذراعها العسكري المتمثل في “الحرس الثوري” قوة لا يستهان بها.
ولا بد هنا من تذكير الذين يعرفون وتعريف الذين لا يعرفون بأن قواعد تقليد الفقيه في المذهب الجعفري تعني الإستشارة والطاعة في أمور الدنيا والدين. ولا أعتقد أن أحدا يشك بأن المرحوم السيد نصر الله (السيد) كان مقلدا تقليدا تاما للسيد الخامنئي فلا أعتقد أني سمعت له يوما خطابا لم يذكر فيه تلك الحقيقة. وتقليد السيد للخامنئي ليس في دفع “الخمس” وتقبيل اليد بل هو تقليد كامل في القبول والطاعة لإيمانه بأن هذا ركن من أركان الفقه الجعفري. كما أن من المعروف عن المرحوم السيد انه كان شديد الحساسية في موضوع تعريض أية نفس بريئة الى الموت لإيمانه بقوله تعالى “أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا”. لذا فإنه لا يمكن أنه دخل المواجهة المسلحة يوم 8 تشرين أول 2023 دون استشارة وإذن من السيد الخامنئي. وهذا الإذن يقضي شرعا بقبول الخامنئي بكل ما يترتب على العمل من نتائج.
وها وقد قتلت الصهيونية السيد وانتقلت الى مرحلة تحويل لبنان الىالأرض الخراب كما فعلت في غزة، إضافة الى خلق عوامل سآتي عليها قد تنهي “حزب الله” الى الأبد، فلم يعد يكفي مجرد الترحم على السيد ودعوة الآخرين لنصرة لبنان كما حدث في غزة. إنما تقضي نتائج الإذن بدخول المواجهة العمل على الإسناد الفعلي والدفع العملي في سد أي نقص. ذلك إن عدم المقدرة على فعل ذلك بحجة أنه قد يؤدي الى حرب شاملة بين إيران والصهيونية ليست الأولى مستعدة لها بينما تتمتع فيها الثانية بكل أدوات القوة، ليس مقبولا ذلك لأن هذا كان لا بد أن يكون أحد الإحتمالات في منح السيد الإذن بدخول المواجهة. فهل خدع الخامنئي المرحوم السيد نصر الله أم أنه أخطأ التقدير؟
لست ممن يعتقد أن الخامنئي خدع المرحوم السيد حين أذن له بالمواجهةمتعهدا في ذلك بالدعم المطلق على قاعدة “وكان حقا علينا نصر المؤمنين“. وهذا يعني أن الخامنئي أخطأ في تقدير الموقف معتقدا، كما اعتقد كثيرون في العالم، أن حرب “التحريك” التي بدأها ثوار غزة الأبطال يوم 7 تشرين الأول سوف تقود لموقف عالمي يوقف القتال ويدفع لتحرك سياسي يكسر الجمود الذي أوشك أن يقود لإعتراف عربي تام باغتصاب فلسطين.
لكن السيد الخامنئي أخطأ في هذا كما أخطأ الكثيرون في الإعتقاد بأن حرب تشرين 2023 ستكون كحرب 2006. ذلك أن مشروع الشرق الأوسط الجديد والذي وضع ونشر في نهاية القرن الماضي للهيمنة التامة علىمنطقتنا والذي كانت حلقة تنفيذه الأولى خراب العراق ثم غزوه واحتلاله وأعقبه خلق “الدولة الإسلامية” الموالية للصهيونية ثم خراب سورية وليبيا، هذا المشروع وصل الى مرحلة تسوية كاملة لإستيطان أوربي كامل لفلسطين. وقد حان الوقت للتنفيذ وهذا يعني جر الآخرين للمواجهة العسكرية. ولا بد من تذكير الناس أن الصهيونية لا يهمها عدد الضحايا حتى إذا كانوا من جانبها فهي لا تعير الإنسان أية قيمة وتكفي نظرة واحدة لخسائر الصهيونية في حروب القرن الماضي لفهم هذه الحقيقة. وقد أكدت حقيقة أنها ليست معنية بمن يموت ممن أسموهم “الرهائن”. فهذه أرقام لا تعني شيئا في مشروع الإنتصار الصهيوني في الهيمنة الأوربية والتي تجدد حلم إحياء الدولة الصليبية الأولى في أرضنا.
وهنا قد يبدو حديثي غير مقبول للعديد من أصحابي حيث سآتي على أمر صعب القبول لكن الكثير مما حدث في التأريخ كان صعب القبول حتى انكشف أمره. ذلك أني أعتقد أن الصهيونية لم تكن تقدر أن تهاجم غزة دون مسوغ وتحولها الى ارض خراب يتركها أهلها طوعا كي يستوطنها أوربيون جدد وهو ما سيحدث! لذا فكان لا بد من إيجاد المسوغات والأعذار لحرب الإبادة. وكانت غزة مهيئة عسكريا للقتال بل ربما كانت تغلي لأية مواجهة. وهنا جاء دور “قطر” وهي أكبر قاعدة صهيونية في أرض العرب. فجرى تشجيع القيادة السياسية لحركة حماس، والتي تركت حماية سورية العربية لها لعقود لتسقط في حضن قطر الصهيونية، لتحريك الجمود بعمل عسكري محدود. وقد يقول من يقول إن في هذا انتقاصا من ثوار غزة وفلسطين ولبنان، لكنه في حقيقة الأمر ليس هناك أي انتقاص بل هناك خديعة سقط فيها الثوار فلست أشك لحظة أن ثوار غزة وشهداءها الأبطال أو شهداء لبنان لم يكونوا صادقين في القتال والشهادة. لكني أقول إن هذا ما كانت تريده الصهيونية أن يحدث وأعدت له، كي تنهي كل مقاومة في فلسطين وتنهي حزب الله كي تكمل مشروع تطهير كل فلسطين واعتراف العرب بيهودية الدولة في فلسطين، كل فلسطين.
وهنا أضع أمام أي عاقل أسئلة سوف يسألها أي دارس تأريخ. أيعقل أن حركة حماس التي خططت لعملية 7 تشرين أول 2023 قامت بتلك العملية الواسعة دون تنسيق وموافقة قيادتها السياسية في قطر؟ أيعقل أن قيادة حماس في قطر كانت تعمل في السر دون علم، إن لم نقل موافقة، حكومةقطر؟ أيعقل أن حكومة قطر، وهي أكبر حليف للصهيونية في أرض العرب وفيها واحدة من أكبر قواعد الصهيونية في العالم، تعمل دون علم وموافقة حليفها الصهيوني؟ وإذا افترضنا حسن النية في الإجابة على السؤال الأخير فهل يعقل أن الصهيونية التي تمتلك أكبر قاعدة لها في شبة جزيرة العرب في “العديد” يمكن أن تسمح باي نشاط معاد يحدث على أطراف القاعدة دون علمها أو رصدها له؟
إن من يجب بموضوعية وعقلانية على هذه الأسئلة سوف يفهم ما قلته!
فقد سار الجميع الى الفخ الذي نصبته الصهيونية. وكما سبق وفعلته الصهيونية في تأريخ عدوانها على منطقتنا أنها انفردت بكل ساحة قبل أن تنتقل لأخرى. فما أن انتهت الصهيونية من القضاء على القوة العسكرية في غزة وتحويلها الى أرض خراب لا تصلح لسكن أهلها حتى انتقلت الى جبهة لبنان لفعل الشيء نفسه. لا شك عندي أن هناك فرقا بين قوة الفلسطينيين في غزة وقوة حزب الله في لبنان. لكن الصهيونية حشدت كل طاقاتها في الولايات المتحدة وقواعدها في منطقتنا مع حلفائها في حلف شمال الأطلسي وكل أجهزة استخباراتها وأقمار الرصد لضرب لبنان وتخريبه، وهكذا تفعل اليوم.
ليس عندي شك في أن رجال حزب الله سوف يقاتلون، لكن المعركة غير متكافئة وهم قادرون على الاستمرار بالقصف الجوي دون حدود. ومهما قيل ويقال فإن رحيل السيد سوف يحدث وهنا كبيرا في خطط المواجهة لأسباب عدة. ولعل خطرا كبيرا ينتظر مقاتلي حزب الله قد لا يقدر خلف السيد أن يتعامل معه بمقدرة ألا وهو نية الصهيونية ومقدرتها على النجاح في تأليب بقية اللبنانيين ضد حزب الله. ففي حين كانت أغلب غزة مع المقاتلين فليس أغلب لبنان مع حزب الله والسيد رحل ولا بديل للمحافظة على تأييد أو تحييد الآخرين غيره. فموارنة فرنسا ضد حزب الله ودروز إسرائيل هم ضد حزب الله وسنة السعودية هم ضد حزب الله وهؤلاء بمجموعهم هم أغلبية أهل لبنان. وهذا التأليب سوف ينتهي بأن مقاتلي حزب الله سوف يجدون أنفسهم وهم يتعاملون ليس فقط مع القصف الصهيوني وإنما مع الرفض الداخلي اللبناني لإستمرارهم في القتال، بل ربما الى قتال داخلي لا يمكنهم معه مواجهة الهجمة الصهيونية.
إن حالا كهذه سوف تكون انتحارا لا مسوغ له لا عقلا وشرعاً.
إن منع نتيجة كهذه هي بيد السيد علي الخامنئي وهي واجب شرعي عليه أن يقوم به. فما دام قد أذن للسيد بمواجهة الصهيونية فعليه أن يحمي لبنان من خراب محقق والطريق لفعل ذلك هو في ضرب إسرائيل ضربة تجبر الصهيونية على التوقف ومراجعة النتائج التي لم تكن في الحسبان. وقد تتضرر إيران كثيرا لكن هذا ثمن التقليد وقبوله والإذن وما يترتب عليها.
فلا ينفع الحديث عن حتمية انتصار حزب لبنان وكل الحقائق تؤكد انه إذا قاتل وحده فلن يكون مصيره سوى مصير مقاتلي حماس وسوف يصبح لبنان أرضا خرابا مثل غزة.
إن على السيد الخامنئي أن يأمر الحرس الثوري بعمل عسكري الآن وليس غدا، وبعكس ذلك يصبح كل ما قاله الأعراب عن مشروع إيران للمنطقة حقاً.
والسلام على من اتبع الهدى.
عبد الحق العاني
29 أيلول 2024