صفحات من ترجمة كتاب “الإبادة في حصار العراق” –16 

صفحات من ترجمة كتاب “الإبادة في حصار العراق” –16 

تأليف: د. عبد الحق العاني و د. طارق العاني

ترجمة: د. طارق العاني

================================================

 

هل كانت هناك فرصة حقيقية للسلام قبل هجوم “الحلفاء” عام 1991؟

أمر الرئيس بوش في الأشهر الأولى من توليه منصبه بمراجعة سياسة الأمن القومي والتي خلصت إلى ما يلي: “في الحالات التي تواجه فيها الولايات المتحدة أعداء أضعف بكثير فإن التحدي الذي نواجهه لن يكون مجرد هزيمتهم بل هزيمتهم بشكل حاسم وسريع. وبالنسبة للدول الصغيرة المعادية لنا قد يكون نزف قواتنا في صراع طويل أو غير حاسم أو إحراجنا عن طريق إلحاق الضرر ببعض العناصر البارزة لقواتنا هو النصر الكافي ويمكن أن يقوض الدعم السياسي للجهود الأمريكية ضدها.”

 

أصدرت فرنسا وثلاث دول عربية هي اليمن والجزائر وليبيا في 14 كانون الثاني/ يناير 1991 نداءات في اللحظة الأخيرة تحث الرئيس صدام حسين على إعلان انسحاب العراق من الكويت لتجنب حرب مع الولايات المتحدة وحلفائها. وأرادت المناشدات مقابل هذا الالتزام بالانسحاب أن يعد مجلس الأمن الدولي العراق بأنه لن يتعرض للهجوم وأن يشن حملة جديدة لحل النزاع حول فلسطين بين إسرائيل وجيرانها العرب. لكن موقفاً أمريكياً معادًياً استبعد أية فرصة لموافقة مجلس الأمن على الخطة الفرنسية. وقال توماس ر. بيكرينغ ممثل الولايات المتحدة إنه لا يتوقع أن يدعم مجلس الأمن الخطة الفرنسية مضيفاً: “نحن لا نعتقد أن الوقت مناسب أو الظروف مناسبة لمثل هذا البيان”.

 

كيف تكشف العقوبات التخطيط المسبق للهجوم على العراق

كانت الولايات المتحدة قد أنشأت قبل عام 1991 بعشر سنوات عشرين قاعدة جوية عاملة بالكامل في المطارات الحالية في المملكة العربية السعودية لقوة الانتشار السريع وأرسلت الطائرات الحربية من جميع أنحاء العالم إلى هذه القواعد كما استخدمت السفن الحربية الأمريكية تسعة موانئ بحرية معدة لها. سمحت هذه المرافق المتطورة ذات المعدات الأكثر تقدماً للولايات المتحدة بشن هذا النوع من الهجمات الضخمة التي لم يكن بإمكانها شنها في مكان آخر.  

 

وبحسب وزارة الدفاع الأمريكية فإن خطة عملية عاصفة الصحراء “تصور ابتداء الحرب بحملة جوية مركزة ومكثفة” تتضمن “هجمات على قلب العراق وضد القوات العراقية في الميدان”. وقد تم التخطيط للهجمات من أجل “شل قدرة القيادة العراقية على قيادة عمليات قواتها والسيطرة عليها هجومياً ودفاعياً لتدمير القدرة العراقية على تهديد أمن واستقرار المنطقة ولجعل القوات العراقية في [مسرح العمليات في الكويت] غير فعالة ولتقليل الخسائر في الأنفس”.

قدم رئيس أركان القوات الجوية الجنرال مايكل ج. دوغان في مقابلة مع صحيفة واشنطن بوست في 16 أيلول/ سبتمبر 1990 خططاً لاستخدام “قوة جوية غير محدودة لا يمكن أن تدمر صدام حسين وعائلته فحسب بل كل هدف في العراق سيجده الجيش ضرورياً لكسب الحرب في وقت قصير.” وذكر دوغان أنه لم يكن كافياً مهاجمة الدفاعات الجوية العراقية والمجالات الجوية والطائرات الحربية ومواقع الصواريخ المتوسطة المدى بما في ذلك صواريخ سكود أرض-أرض ومراكز الاتصالات والقيادة والمصانع الكيماوية والنووية والذخيرة وتشكيلات الدروع العراقية بل يجب استهداف أنظمة الطاقة العراقية والطرق وسكك الحديد وربما منشآت إنتاج النفط المحلية.  وهذا في رأينا هو بالضبط ما حدث في الهجوم الذي أعقب ذلك.

أجرى مراسل صحيفة واشنطن بوست بارتون غيلمان مقابلات مع عدد من كبار المخططين للحرب وأجرى بحثاً مكثفاً في كيفية تحديد الأهداف وكتب في 23 تموز/ يونيو 1991 ما يلي:

“ويقول المخططون الآن إن نيتهم ​​كانت التدمير أو الإضرار بالمنشآت المهمة التي لن تستطع بغداد إصلاحها بدون مساعدة أجنبية. وتم اختيار العديد من الأهداف في قلب العراق ما بين النهرين وقد نمت القائمة من حوالي 400 إلى أكثر من 700 هدفاً خلال الحرب وتم اختيارها فقط للمساهمة بشكل ثانوي في الهزيمة العسكرية لجيش بغداد المحتل للكويت. وقد أمل المخططون العسكريون في أن يؤدي القصف إلى تضخيم التأثير الاقتصادي والنفسي للعقوبات الدولية على المجتمع العراقي وأن يجبر الرئيس صدام حسين بالنتيجة على سحب القوات العراقية من الكويت دون حرب برية. كما كانوا يأملون في تحريض المواطنين العراقيين على التمرد ضد الرئيس العراقي … ولم يكن الضرر الذي لحق بالهياكل والمصالح المدنية بسبب هذه الأهداف والذي وصفه مقدمو الإحاطات أثناء الحرب بأنه “ضمني” وغير مقصود أيا من ذلك في بعض الأحيان.

 

قال ضابط تخطيط قابله غيلمان:

يقول الناس “ألم تدركوا أنها سيكون لها تأثير على المياه والصرف الصحي. حسناً: ما الذي كنا نحاول فعله بالعقوبات [الاقتصادية التي وافقت عليها الأمم المتحدة] – مساعدة الشعب العراقي؟ لا. ما كنا نفعله بالهجمات على البنية التحتية هو تسريع تأثير العقوبات.  

وافق العقيد جون أ. واردن الثالث نائب مدير السوق والمبادئ والخطط للقوات الجوية على أن أحد أهداف تدمير شبكة الكهرباء العراقية هو أنك “تخلق مشكلة طويلة الأمد للقيادة والتي عليها التعامل معها في وقت ما.” وقال واردن: “لا يمكن لصدام حسين استعادة الكهرباء وسوف يحتاج إلى المساعدة. فإذا كانت هناك أهداف سياسية لدى ائتلاف الأمم المتحدة فيمكن لهذا الائتلاف أن يقول ” يا صدام: عندما توافق على القيام بهذه الأمور فسوف نسمح للناس بالدخول وإصلاح الكهرباء، إنها سوف تعطينا سلطة تحكم طويلة الأمد.”   

انتهك الرئيس بوش، عن علم باستخدام الرشاوى والتهديدات والترهيب ضد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ومجلس الأمن لإجبارها على دعم العدوان على العراق، ليس فقط ميثاق الأمم المتحدة ولكن أيضاً دستور الولايات المتحدة والقانون الاتحادي.

 

عملية عاصفة الصحراء:

الأضرار واسعة النطاق وغير الضرورية تشير إلى نية تدمير العراق

بدأت القوات الأمريكية قصفاً جوياً للعراق والكويت في 17 كانون الثاني/ يناير 1991. وأدى هجوم بري بين 24 و27 شباط/ فبراير 1991 إلى طرد القوات العراقية من الكويت. كانت الأمم المتحدة خلال هذه العملية برمتها متفرجة تراقب جيوش التحالف التي تقودها الولايات المتحدة ترتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ضد دولة صغيرة. 

قامت القوات الجوية للتحالف بأكثر من 120 ألف طلعة جوية بشكل كلي بمعدل مرة واحدة كل 30 ثانية مما أدى إلى إسقاط أكثر من 88500 طن من المتفجرات متجاوزة بذلك الهجوم الجوي المشترك للحلفاء في الحرب العالمية الثانية. وتم القيام بأكثر من 35 ألف طلعة قتالية ضد أهداف في المسرح العسكري الكويتي العراقي بينما تم تنفيذ ما يقرب من 32200 مهمة هجومية ضد أهداف في “قلب العراق”. وتم تنفيذ ما يقرب من 60 في المئة من الطلعات الجوية من قبل القوات الجوية الأمريكية. وتم من إجمالي عدد الضربات الجوية الأمريكية تنفيذ 23 بالمائة بطائرات من البحرية الأمريكية ومشاة البحرية الأمريكية.

 

أسقطت طائرات B-52s حوالي 30 ٪ من إجمالي حمولة القنابل وتم استخدامها ضد مناطق التخزين الكيميائية والصناعية والمطارات ومعسكرات القوات ومواقع التخزين ويبدو أنها استخدمت ضد مناطق كبيرة مأهولة بالسكان في البصرة. وتم استخدام هذه القاذفات الضخمة من الليلة الأولى للحرب إلى الأخيرة فهي كان تحلق على ارتفاع حوالي 12 ألف متر وتسقط 40-60 قنبلة تزن كل منها 250 أو 350 كيلوغراماً وكانت الوظيفة الوحيدة التي يمكن أن تكون هي القصف الماسح لمناطق بأكملها.

 

كانت حرب الخليج عام 1991 أول فرصة للقوات الأمريكية والبريطانية لاختبار أسلحة اليورانيوم المنضب (DU) في ظروف القتال. ومن المعروف أن الولايات المتحدة استخدمت 14 ألف قذيفة DU و940 ألف إطلاقة من الطائرات التي استهدفت الدبابات. … فقد تم نشر غبار كميته 564 ألف رطل من اليورانيوم المنضب أو ترك دون تفجير. “فقد تحول 70٪ من قذائف اليورانيوم المنضب إلى جزيئات دقيقة يمكن أن تحملها الرياح لأميال عديدة. … ” وأصبح العراقيون منذ ذلك الحين يعانون من معدلات غير طبيعية للغاية من السرطان والعيوب الخلقية والإجهاض …وخاصة في محيط البصرة”. 

 

ومن المقبول على نطاق واسع أن القوات الأمريكية استخدمت قنابل الوقود الحارق (FAE) ضد القوات العراقية. وذكرت صحيفة واشنطن بوست في 3 شباط/ فبراير 1991 “تعرضت جميع القوات العراقية في الخطوط الأمامية لقصف واسع النطاق بما في ذلك العديد من التفجيرات من 10 ألف رطل من قنابل BLU-82 تحتوي على قنابل الوقود الحارق”. وتم استخدام إحدى عشر قنبلة BLU-82 بين 7 شباط/ فبراير 1991 وبدء الأعمال العدائية البرية. 

 

وقد استخدمت الولايات المتحدة القنابل العنقودية على الرغم من حقيقة أن استخدامها غير قانوني بموجب القانون الدولي بسبب طبيعتها العشوائية. وقدرت منظمة هيومن رايتس ووتش أن القنبلة النموذجية B-52 التي تسقط حمولة كاملة من 45 قنبلة عنقودية تحتوي كل منها على 650 ذخيرة فرعية يمكن أن تنتج ما معدله 1700 ذخيرة فرعية غير منفجرة حتى مع افتراض معدل “ذخيرة فاشلة” منخفض يبلغ 5 في المائة. وتم استخدام 46 قنبلة عنقودية وقذائف DU على “طريق الموت السريع” سيئ السمعة – الطريق من الكويت إلى البصرة في جنوب العراق حيث تم قصف قافلة طولها 12 كيلومتراً من الجنود والمدنيين والعمال الأجانب الفارين بلا رحمة من قبل القوات المتحالفة. وقدر الجيش الأمريكي أن 25 الفاً منهم لقوا حتفهم في هذه الهجمات على الطرق السريعة. 

 

ولعل أخطر تقرير هو للصحفي الكندي الحائز على الجوائز ويليام توماس الذي أفاد بتفجير سلاح نووي على بعد 11 ميلاً شرق البصرة في وقت ما بين 2 و5 شباط/ فبراير.

  

أدى الهجوم غير المسبوق كما هو ملخص إلى الأضرار والخسائر التالية:

  • تم تدمير 85٪ من جميع عمليات توليد الطاقة مما ترك اثنتين فقط من محطات توليد الكهرباء العشرين في العراق عاملة وأدى إلى توليد أقل من 4٪ من إنتاج ما قبل الحرب البالغ 9000 ميغاوات.

 

  • تم تدمير ما يقرب من نصف خطوط الهاتف في العراق البالغ عددها 900 ألف خط و14 بدالة مركزية لحقت بها أضرار لا يمكن إصلاحها و13 أخرى اخرجت من الخدمة لأجل غير مسمى. 

 

  • تعرضت سدود العراق الثمانية الرئيسة متعددة الأغراض لضرب متكرر وتضررت بشدة. 

 

  • دمرت أربع محطات ضخ مياه رئيسة من أصل سبع في العراق وأصيبت 31 محطة مياه وصرف صحي بلدية بالقنابل والصواريخ 20 منها في بغداد وحدها. 

 

  • شملت أهداف القصف 139 جسراً 26 منها في البصرة وحدها.

 

  • تعرض مصنع مسحوق حليب الأطفال العراقي في أبو غريب وهو المصنع الوحيد من نوعه في المنطقة للهجوم ثلاث مرات: في 20 و21 و22 كانون الثاني/ يناير 1991.

 

  • تمت مهاجمة صوامع الحبوب والمزارع في جميع أنحاء البلاد مما أدى إلى تدمير أكثر من 30٪ من قطعان الأغنام والماشية وتدمير إنتاج الدواجن في البلاد.

 

  • قصفت الولايات المتحدة 28 مستشفى مدنياً و52 مركزاً صحياً مجتمعياً.

 

  • تم تدمير مرفق رئيس لإنتاج الحقن الطبية في الحلة بواسطة الصواريخ الموجهة بالليزر.

 

  • تمت مهاجمة 676 مدرسة ودمرت 38 منها بالكامل 8 منها كانت منشآت جامعية.

 

  • تم في بغداد وحدها قصف 25 مسجداً و31 مسجداً آخر في أماكن أخرى من البلاد. 

 

  • دمرت كنيسة القديس توما التي يبلغ عمرها 900 عام في الموصل والتي تبعد أكثر من 1600 كيلومتر عن الكويت وكذلك المدرسة المستنصرية القديمة وهي من أقدم المدارس الإسلامية في العراق. 

 

  • تم استهداف قطاع الصناعة على وجه التحديد وألحقت الأضرار بـ 7 مصانع نسيج و5 مصانع هندسية و5 مرافق بناء و4 مصانع لتجميع السيارات و3 مصانع للكلور ومرفق رئيسي لتصدير الأمونيا و16 مصنعاً للكيمياويات والبتروكيماويات والفوسفات.

 

  • تمت مهاجمة 11 مصفاة نفط و5 خطوط أنابيب نفطية ومنشآت إنتاج، وتم إغراق 3 ناقلات نفط وإضرام النار في 3 أخرى.

 

يمكن رؤية الهدف الحقيقي للحملة غير المسبوقة من وسائل الإعلام الأمريكية والتقارير الرسمية التي نلخص بعضها أدناه.

 

فقد تم قصف البصرة بأكملها بلا رحمة بينما عانت بغداد أقل من الأذى. وذكرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز في 5 شباط/ فبراير 1991:

هدم قصف الحلفاء الهائل لمدينة البصرة العراقية بحسب شهود عيان كل مراكز الاتصالات في تلك المدينة الجنوبية المهمة وجميع مصافي النفط الكبرى ومعظم المباني الحكومية وبعض الأحياء المدنية ومئات مستودعات الذخيرة ومستودعات المواد الغذائية …. ويقول الشهود إن الغارات الجوية في العاصمة بغداد المحاصرة تواصل ضرب أهداف عسكرية غالباً للمرة الثانية والثالثة وتدمير المنشآت الرئيسة والمستودعات المليئة بكل شيء من الأدوية إلى آلات الحرب – ولكن أيضاً تسوية بعض كتل المدينة بأكملها في الأحياء المدنية.

 

قال برنارد ديبوسمان من رويترز: “من بين ما لا يقل عن ستة مركبات محترقة أو متضررة على الطريق الصحراوي السريع كان من الواضح أن سيارة واحدة فقط من التي تعرضت للقصف كانت سيارة عسكرية … وأخبرني السكان المحليون أن قصف الطريق كان متكرراً وكانت الأهداف دائماً تبدو تقريباً شاحنات مدنية أو سيارات خاصة.

 وقال الجنرال ماكبيك لصحيفة (Defense Week): “إن الأهداف التي كنا نسعى لتدميرها منتشرة بشكل واسع. كانت ألوية وفرق وكتائب في ساحة المعركة، وهي أهداف منخفضة الكثافة. لذلك فإن نشر القنابل- والقصف الماسح ليس تعبيري المفضل لذلك- يجب أن يتناسب مع الهدف. فهل هو شيء فظيع؟ نعم. وهل تقتل تلك القنابل الناس؟ نعم.” 

وقال الصحفي بول ويليام روبرتس الذي سافر مع القبائل البدوية في العراق أثناء القصف في شهادة أمام لجنة التحقيق (برئاسة رمزي كلارك) في مونتريال في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1992:

 

جاءت ثلاث موجات من القصف ليلاً. وقد شهدت قصفاً في كمبوديا لكن ذاك لم يكن شيئاً مثل هذا … بعد 20 دقيقة من القصف الماسح كان يسود الصمت ثم تسمع صراخ الأطفال والناس ثم يتم جر الجرحى. وجدت نفسي مع الآخرين أحاول علاج الإصابات لكن حالة الناس بشكل عام كانت حالة صدمة تامة. كانوا يتجولون مثل الأموات الأحياء وكنت كذلك لأن الآثار المربكة للقصف نفسها شكلت حربا نفسية إذا أردت وصفها … ولكن إذا كنت مستيقظاً كل ليلة طوال الأيام العشرة الماضية كما كان الجميع فإنك تبدأ في فقدان منظورك للواقع. 

 

لعل واحدة من أكثر الهجمات وحشية في الحرب في بغداد وقعت في الساعات الأولى من يوم 14 شباط/ فبراير 1991 حين أصابت القنابل الدقيقة التي أسقطتها الطائرات الأمريكية ملجأ العامرية المدني. كانت بغداد في ذلك الوقت بدون كهرباء وكان الملجأ يعتمد على مولد الطوارئ. أصابت القنبلة الأولى عمود التهوية وبدأت الحرائق في الداخل. تسبب الهجوم كما كان مقصوداً في تصميمه في إغلاق أبواب الملجأ على الفور. وبينما كان رجال الإطفاء يحاولون يائسين فتح الأبواب وإخماد الحرائق وقع الهجوم الدقيق الثاني. وكان هذه المرة أكثر شناعة وتدميراً. فقد كانت القنابل المستخدمة قنابل اختراق خاصة غير معروفة على الأرجح للمصمم الفنلندي الذي قام بتصميم الملاجئ.

اخترقت القنابل طبقة الأرض التي يصل سمكها إلى متر ومرت عبر متر واحد من الطبقة الخرسانية المسلحة عبر الطابق العلوي وعبر متر آخر من طبقة خرسانية مسلحة إلى الطابق السفلي. تسبب تأثير القنبلة في انفجار كل المياه وخزانات الوقود والمسخن مما أدى إلى ملئ الطابق السفلي بمزيج من الماء المغلي والوقود على ارتفاع مترين. وقتل جميع أفراد الفريق الطبي على الفور وتم تدمير مصدر طاقة الطوارئ مما جعل جميع أنظمة دعم الحياة معطلة. وولدت القنبلة في الطابق العلوي حرارة هائلة تقدر بحوالي 4000 درجة أحرقت الناس. كان هناك في وقت الهجوم أكثر من 1500 مدني في الملجأ. ونجا من بين هؤلاء الأشخاص 11 شخصاً فقط بعد تعرضهم لدرجات مختلفة من الجروح والحروق والصدمات النفسية. تم القضاء على عائلات بأكملها كما كان يمكن رؤيته بعد ذلك من منازلهم المغلقة في العامرية. وتم العثور على جثث أفراد الفريق الطبي عائمة في خليط الوقود المائي في الطابق السفلي. ويقول القائمون على رعاية الملجأ أن الجدران السوداء المحترقة ما تزال تحتوي على جلد بشري ولحم ملتصق بها.

فقد العراق ما بين 125 ألف و150 ألف جندي. وقالت الولايات المتحدة إنها خسرت 148 في القتال 37 منهم بسبب نيران صديقة. وتم تدمير أو شل فاعلية 42 فرقة عراقية وأغرقت البحرية العراقية بأكملها وتم تدمير أو فرار حوالي 50 ٪ من الطائرات المقاتلة إلى إيران وتم أسر أكثر من 82 ألف جندي – كل ذلك في 43 يوماً من العمليات الهجومية وبحد أدنى من الخسائر لقوات التحالف.   نقلت صحيفة لوس أنجلوس تايمز عن “مصدر مطلع” قوله:

 

ربما قتلنا أكثر من 100 ألف شخص دون احتلال المنطقة. لم نأخذ الخطوط ونتقدم إلى الأمام. لقد مررنا بها يوماً بعد يوم وهذا نوع من الحروب مختلف تاريخياً عما خضناه على الإطلاق. 

 

قال الجنرال شوارزكوف في مؤتمر صحفي في الرياض في 18 كانون الثاني/ يناير 1991: “لن أخوض أبداً في أمر عد الجثث”. وعندما انتهت الحرب أمر البيت الأبيض الجنرال كولين باول بتقدير عدد القتلى العراقيين. وصرح باول للصحفيين بأنه “ليس لديه تقدير على الإطلاق” بعدد الجنود العراقيين الذين قتلوا مضيفا: “أعلم أن هناك اهتماما كبيراً بالموضوع. ليس لدي أدنى فكرة ولا أخطط حقاً لبذل أي جهد حقيقي لمعرفة ذلك “.

وذكر كلارك أن اللفتنانت جنرال ويليام باجونيس قال: “هذه هي الحرب الأولى في العصر الحديث حيث يتم حساب كل مفك للبراغي وكل مسمار.” وعندما يتعلق الأمر بالبشر قال: “لا أعتقد أن أي شخص سيكون قادراً على وضع حساب دقيق عن القتلى العراقيين”. 

كانت التقديرات الأوروبية للقتلى العسكريين أعلى دائماً من التقديرات الأمريكية وربما يكون هذا بسبب وجود رقابة أقل في أوروبا على وسائل الإعلام إذا ما قيست بالولايات المتحدة. فقد قدرت الاستخبارات المتحالفة وفقا لصحيفة التايمز اللندنية في 3 آذار/ مارس 1991 عدد الجنود العراقيين الذين قتلوا بـ 200 ألف. وذكرت صحيفة “التايمز” أنه “دفن آلاف الجنود في المخابئ والخنادق”. وأعطى مصدر في المخابرات العسكرية الفرنسية صحيفة (Nouvelle Observateur) الرقم ذاته.

فقد وصف مايك إرليتش عضو شبكة الاستشارة العسكرية، في جلسات الاستماع التي عقدها البرلمان الأوروبي في آذار/ مارس – نيسان/ أبريل في نهاية حرب الخليج، إعدام الجنود المهزومين قائلاً: “بدأ المئات وربما الآلاف من الجنود العراقيين في السير نحو الموقع الأمريكي غير مسلحين وقد رفعوا أذرعهم في محاولة للاستسلام. ومع ذلك فإن أوامر هذه الوحدة لم يكن أخذ أي سجين … بدأ قائد الوحدة بإطلاق النار. وعند هذه النقطة بدأ الجميع في الوحدة بإطلاق النار. لقد كانت بكل بساطة مجزرة”. 

دخلت بعثة من سبعة أشخاص مشتركة بين منظمة الصحة العالمية واليونيسف العراق عبر الحدود الإيرانية صباح يوم السبت 16 شباط/ فبراير 1991 وفي ذروة الهجمات وجلبت معها قافلة من 12 شاحنة تحمل 54 طناً من الإمدادات الطبية والصحية الأساسية. وقد تم تقديم نتائج البعثة في تقرير وزعه الأمين العام للأمم المتحدة على جميع أعضاء الأمم المتحدة.

كانت مهمة البعثة هي “تسليم شحنة من الإمدادات الطبية الطارئة للمساعدة في رعاية الأطفال والأمهات والتأكد من الاحتياجات الصحية الأساس” والنظر في الاحتياجات الفورية لمزيد من الإمدادات الطبية للحماية من الأمراض المعدية؛ في حالة الإمدادات والصرف الصحي؛ وفي الاحتياجات الصحية الأخرى للأطفال والأمهات.

 

لخصت بعض نتائج المهمة على النحو التالي:

  • لقد توقفت الحياة الطبيعية تقريبا. 

 

  • الخوف من الأوبئة التي تنتقل عن طريق المياه والتي يمكن أن تنتج عن الاستخدام العام الواسع الانتشار لنهر دجلة والنظم المائية الأخرى كثيرة التلوث للشرب. 

 

  • أدى التوتر والقلق الناجم عن القصف إلى فشل الرضاعة الطبيعية.   إن من المؤكد أن ارتفاع حالات الإصابة بالإسهال والتهابات الجهاز التنفسي العلوي إلى جانب نقص الغذاء ستؤدي إلى سوء التغذية الصريح خاصة بين الأطفال الذين تتراوح أعمارهم من سنة إلى ثلاث سنوات. 

 

  • أدى الافتقار إلى وسائل النقل نتيجة لعدم توفر الوقود إلى فشل المتخصصين والمساعدين الطبيين في العمل. 

 

  • تم إغلاق الخدمات المختبرية في المراكز الصحية في بغداد بما في ذلك تلك المخصصة للنساء الحوامل مثل سكر الدم والألبومين وكذلك اختبارات الهيموغلوبين. 

 

  • تم رفض ما يصل إلى 20 طفلاً في أحد المراكز الصحية بسبب نقص اللقاحات. وتم إيقاف الجرعات المعززة والجرعة الثالثة من اللقاح الثلاثي وشلل الأطفال من أجل إدامة الإمدادات. 
  • مهدت ظروف إمدادات المياه الرئيسية الملوثة ومياه الصرف الصحي غير المعالجة الطريق لظهور بعض الأمراض المعدية مثل التيفوئيد والتهاب السحايا والحصبة وشلل الأطفال والتهاب الكبد A والملاريا بنسب وبائية.
  • تم تدمير جميع محطات توليد الطاقة الكهربائية المهمة في العراق. وحصل هذا في بلد كان أكثر من 95 بالمائة من الماء فيه ناتجاً عن معالجة مياه النهر التي توفرها سبعة مصانع آلية كهربائية تعمل جميعها بالطاقة الكهربائية والمواد الكيميائية اللازمة للمعالجة.

 

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image