صفحات من ترجمة كتاب “الإبادة في حصار العراق” – 12
تأليف: د. عبد الحق العاني و د. طارق العاني
ترجمة: د. طارق العاني
================================================
أثر الحرب الإيرانية العراقية على التنمية
ليس المقصود أن يكون هذا تحليلاً سياسياً للحرب الإيرانية العراقية. إن الغرض من هذا القسم هو تلخيص تأثير تلك الحرب على خطط التنمية وبناء العراق حتى يتمكن المرء من تقويم الأضرار الناجمة عن العقوبات لاحقاً من خلال الأخذ في الحسبان الأضرار الناجمة عن هذه الحرب.
اتبعت الحكومة العراقية بعد ثورة 1968 سياسة اقتصادية اشتراكية وازدهر الاقتصاد. وعلى الرغم من تضاعف الواردات أربع مرات بين عامي 1978 و1980 فقد استمر العراق في تراكم فوائض الحساب الجاري بما يزيد عن 10 مليارات دولار في السنة.
ألحقت الحرب الإيرانية العراقية 1980-1988 ضرراً شديداً بالعراق ونقلته من الرخاء إلى الصعوبات الاقتصادية. دعمت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة (وكذلك فرنسا والاتحاد السوفياتي) العراق في ذلك الصراع في أطول حرب تقليدية في القرن العشرين. وشمل الدعم مبيعات الأسلحة والمستشارين العسكريين وتبادل المعلومات الاستخبارية. وقدمت الولايات المتحدة من بين أمور أخرى المساعدة الاقتصادية والدعم السياسي والأسلحة والمعلومات الاستخباراتية من الأقمار الصناعية ومساعدة من عدد من المعارك البحرية الأمريكية. لكن إيران أثبتت أنها عدو مرن واستمرت الحرب بكلفة باهظة في الأنفس والبنية التحتية المادية. واستمرت الحرب، التي اعتقدت الحكومة العراقية بلا شك أنها ستكون قصيرة وناجحة، لمدة ثماني سنوات بعواقب إنسانية واقتصادية وخيمة عانى منها المجتمع العراقي. فإلى جانب الأضرار الجسيمة التي لحقت بالطرف الإيراني تسببت الحرب بين إيران والعراق في تدمير العديد من المدن العراقية وتعطل جزء كبير من نظام إنتاج وتكرير النفط العراقي وتوقف. كما تسببت الحرب في سقوط مئات الآلاف من الضحايا العراقيين وأضرار بيئية، وجردت الحكومة من النقد وأوقفت بناء البنية التحتية وبرامج الرعاية الحكومية وتسببت في نزوح بشري كبير.
كان العراق في عام 1979 أكبر دولة مصدرة للنفط في أوبك بعد المملكة العربية السعودية وبلغت صادراته في ذلك العام 3.3 مليون برميل يوميا أي 11.4 بالمئة من إجمالي صادرات أوبك. وبلغت عائدات النفط العراقي 21.4 مليار دولار أي 10.5 بالمئة من عائدات أوبك. وعندما بدأت الحرب مع إيران في أيلول/ سبتمبر 1980 كان الاقتصاد العراقي على أعتاب عقد آخر من النمو الاقتصادي بزيادة هائلة في عائدات النفط التي مكنت الحكومة من زيادة الإنفاق في وقت واحد على البنية التحتية وقطاعات إنتاج السلع والخدمات الاجتماعية والواردات والجيش. واحتفظ العراق باحتياطيات تقدر بنحو 35 مليار دولار.
زادت قيمة العقود مع الشركات الأجنبية للمشاريع غير العسكرية وفقاً لإحدى الدراسات بنسبة 64 في المائة من 14.8 مليار دولار في عام 1980 إلى 24.3 مليار دولار في عام 1981 . وعد هذا خطة سياسية في محاولة من الحكومة لتقليل أثر الحرب على مستويات المعيشة من خلال إتاحة السلع الاستهلاكية بكميات كبيرة وبالتالي إظهار أن كل شيء كان يسير كالمعتاد.
أدى التدمير الذي سببته الحرب لمنشآت النفط مثل محطات التحميل ومحطات الضخ والمصافي وخطوط الأنابيب إلى انخفاض إنتاج النفط بشكل حاد من 3.281 مليون برميل يومياً في آب/ أغسطس 1980 إلى 0.926 مليون برميل يومياً في عام 1981. وقد أدى ذلك بدوره إلى انهيار عائدات النفط العراقي من 26.1 مليار دولار عام 1980 إلى 10.4 مليار دولار عام 1981 أي بنسبة 60٪. ومع ذلك نجح العراق في إصلاح الأضرار التي لحقت بمعظم منشآته النفطية (باستثناء تلك الموجودة في المنطقة المباشرة للعمليات العسكرية) وارتفع الانتاج بحلول عام 1990 مرة أخرى إلى 2.1 مليون برميل في اليوم مع توقع المزيد من الاستثمارات والتوسعات.
التوسع العسكري وتأثيراته على الاقتصاد
كان هناك تحول هائل بين السبعينيات والثمانينيات في العمالة من الاقتصاد المدني إلى العسكري وزيادة حادة في الإنفاق العسكري والاستيرادات العسكرية.
كان هناك في عام 1975 في القوات المسلحة 82000 شخصاً (أي 2.9٪ من القوى العاملة العراقية) وأصبح في عام 1980 في القوات المسلحة 430.000 شخص (أي 13.4٪ من القوى العاملة). وبحلول الوقت الذي انتهت فيه الحرب مع إيران عام 1988 كانت الحكومة توظف مليون شخص (أي أكثر من 21٪ من القوى العاملة) في القوات المسلحة.
وقد صاحب هذا النمو في القوات المسلحة ارتفاع حاد في حاجة الجيش إلى موارد العراق المالية. وهكذا بلغت في عام 1975 النفقات العسكرية 3.1 مليار دولار أي 13.8٪ من الناتج المحلي الإجمالي – وهي نسبة عالية حسب المعايير العالمية. وزاد الإنفاق العسكري بحلول عام 1980 بأكثر من ستة أضعاف ليصل إلى 19.8 مليار دولار أي 38.8 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي. هناك طريقة أخرى لقياس عبء الإنفاق العسكري وهي ربطه بإيرادات النفط في البلاد. ففي عام 1975 أنفقت الحكومة 38٪ من عائداتها النفطية على الجيش مقارنة بـ 75٪ عام 1980. وزاد هذا الإنفاق بشكل حاد بعد ذلك لاستيعاب ما بين 117٪ و324٪ من عائدات النفط بين عامي 1981 و1988. وبعبارة أخرى أنفقت الحكومة في عقد الثمانينيات عدة مرات إجمالي عائدات النفط في البلاد على المجهود الحربي. أما فيما يتعلق بالناتج المحلي الإجمالي فقد أنفقت الحكومة ما بين 23٪ و66٪ من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بين 1980 و1988 على الحرب مع إيران.
وصلت المصروفات الأجنبية غير المرتبطة مباشرة بالجهد الحربي في عام 1981 إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق وهو 23.6 مليار دولار حيث استمر العراق في استيراد السلع والخدمات لجهود التنمية واستمر البناء. كما كان العراق يدفع ما يقدر بنحو 25 مليون دولار يومياً للحرب. وعلى الرغم من أن دول الخليج ساهمت بمبلغ 5 مليارات دولار في المجهود الحربي من 1980 إلى 1981 فقد جمع العراق معظم الأموال اللازمة لأغراض الحرب من خلال سحب احتياطياته على مدى عدة سنوات.
تغيرت الاستيرادات أيضاً لصالح الاستيرادات العسكرية لأنه في حين بلغت الاستيرادات العسكرية في عام 1980 17 ٪ من إجمالي الاستيرادات وصلت النسبة إلى 83 ٪ بحلول عام 1984. وقد أقر صدام حسين بالعبء الهائل للاستيرادات العسكرية في مؤتمر القمة العربية في بغداد في أيار/ مايو 1990 قائلاً:
“ومع ذلك استمرت الحرب وارتفعت كلفتها إلى مستويات غير مسبوقة. بلغت قيمة المعدات العسكرية وحدها التي اشتراها العراق واستخدمها في الحرب 102 مليار دولار بالإضافة إلى نفقات عسكرية ومدنية هائلة أخرى في حرب مدمرة استمرت ثماني سنوات على طول جبهة امتدت 1200 كيلومتر.”
فهم التكاليف الاقتصادية للحرب العراقية الإيرانية
قدرت خسائر العراق نتيجة الحرب مع إيران بـ 452.6 مليار دولار. وكانت هذه الخسائر قد تضمنت فقدان عائدات النفط وانخفاض الناتج المحلي الكلي والإنفاق العسكري واستيراد الأسلحة وكلفة الأصول التالفة والمدمرة كما تضمنت الخسائر الضمنية مثل كلفة التضخم وفقدان الدخل من الأصول المدمرة وضياع فرص النمو واختلال التنمية. وتضمنت خسائر العراق العناصر التالية:
1. 91.4 مليار دولار من الخسائر المحتملة في الناتج القومي الكلي: الخسائر المتكبدة في قطاع النفط والصناعة والزراعة والطاقة والاتصالات والإسكان والصحة.
2. 197.7 مليار دولار خسائر عائدات النفط.
3. 78.8 مليار دولار خسائر في احتياطيات النقد الأجنبي بسبب خسارة 35 مليار دولار في الاحتياطيات الأصلية إلى جانب أرباح الفوائد المتراكمة طوال فترة الحرب.
4. خسائر محتملة بقيمة 80 مليار دولار في احتياطيات النقد الأجنبي الناتجة عن ارتفاع الإنفاق العسكري.
إن أسهل طريقة لفهم حجم هذه الخسارة هي ربطها بإيرادات النفط العراقية. فبين عام 1931 عندما تلقت الحكومة الدفعة الأولى لتصدير النفط وعام 1988 عندما انتهت الحرب مع إيران بلغ العائد التراكمي من النفط 179.1 مليار دولار. وهذا يعني أن الخسائر التي سببتها الحرب بلغت حوالي 254٪ من إجمالي عائدات النفط التي تلقاها العراق على مدى سبع وخمسين سنة. أما الطريقة الأخرى لقياس حجم خسائر الحرب فهي ربطها بالناتج المحلي الإجمالي للعراق والذي بلغ خلال الفترة 1980-1988 433.3 مليار دولار. وبربط كلفة الحرب البالغة 452.6 مليار دولار بهذا الرقم سيتضح أن الخسارة الاقتصادية بسبب الحرب تجاوزت الناتج المحلي الإجمالي لفترة الحرب بمقدار 19.3 مليار دولار.
انتعش قطاع النفط في عام 1986 بما يكفي للمساهمة بنحو 33.5 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي في حين استحوذ القطاع غير النفطي بما في ذلك الخدمات والتصنيع والزراعة على الباقي. وكان أكبر مكون للناتج المحلي الإجمالي غير النفطي هو خدمات الأعمال الذي بلغت حوالي 23 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي. كما شكلت الزراعة حوالي 7.5 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي والتعدين والتصنيع أقل من 7 ٪ بقليل والبناء حوالي 12 ٪ والنقل والاتصالات حوالي 4.5 ٪ والمرافق 1 – 2 ٪. وكان الناتج المحلي الإجمالي المقدر لعام 1986 يعادل 35 مليار دولار.
قدر الخبراء أن ديون العراق عام 1986 بلغت ما بين 50 مليار دولار و80 مليار دولار. وكان العراق مديناً من هذا المبلغ بنحو 30 مليار دولار للسعودية والكويت ودول الخليج الأخرى. وقد نتج معظم هذا المبلغ من مبيعات النفط الخام نيابة عن العراق. ووعد العراق بتقديم تعويضات عن النفط بعد الحرب لكنه توقع أن تتنازل دول الخليج عن طلب السداد.
وقدرت شركة وارتون للتوقعات الاقتصادية القياسية في عام 1986 أن الدين العراقي المضمون من قبل وكالات إئتمانات التصدير بلغ 9.3 مليار دولار منها 1.6 مليار دولار ديون قصيرة الأجل و7.7 مليار دولار ديون متوسطة الأجل.
كانت ديون العراق للحكومات الغربية في مجال الديون الحكومية على مشترياتها من العتاد العسكري كبيرة. فقد كان العراق مديناً لفرنسا بأكثر من 1.35 مليار دولار مقابل الأسلحة والتي كانت تسددها من خلال السماح لشركتين نفطيتين تابعتين للحكومة الفرنسية هما (ألف أكويتين) و (توتال) بتحميل 80.000 برميل من النفط يومياً من محطة دوريتول قرب الاسكندرونة في تركيا. وأخيراً كان العراق مديناً للاتحاد السوفييتي ودول شرق أوروبا. وقدرت ديون العراق للاتحاد السوفيتي بمبلغ 5 مليارات دولار في عام 1987. [لم يكن العراق يشتري أسلحة من الولايات المتحدة / المملكة المتحدة في ذلك الوقت ولهذا التالي لم تكن هناك ديون].
ويجب أخذ هذا في الحسبان عندما ننظر في كيفية تدمير العقوبات للعراق. وتلحق العقوبات أضراراً بأصح الاقتصادات ولكنها ستلحق دون شك أضرارا بالغة باقتصاد تأثر بالفعل بثماني سنوات من الحرب.
ربما تكون أفضل طريقة لفهم التطور في العراق هي أن تسمع كيف قيمه أعداء نظام البعث. فلم يستطع كنعان مكية الذي كان ناقداً قوياً لنظام البعث حين كتب تحت الاسم المستعار (سمير الخليل) سوى الاعتراف بالتطورات التي تم تحقيقها بين عامي 1968 و1990 بغض النظر عن انتقاده الشديد للنظام. ويستشهد مكية بكتاب “الطبقات الاجتماعية” لحنا بطاطو و”قوة الدولة” لجو ستورك كمصادر تظهر أنه يجب أن تكون قد حدثت زيادة حقيقية كبيرة في مستوى المعيشة. وربما تكون كلماته أفضل نهاية لهذا الفصل:
لقد حقق نظام الرعب في الواقع زيادة شاملة في مستوى المعيشة في العراق وحسن بشكل كبير الكثير من الطبقات الأكثر حرماناً مما عزز تسوية فروق الدخل التي بدأت بعد عام 1958. وكانت التغييرات مذهلة: استقرت أسعار معظم الضروريات الأساس من خلال دعم الدولة؛ وتم رفع الحد الأدنى للأجر اليومي بشكل كبير فوق معدل التضخم الذي ظل منخفضاً؛ ووفرت قوانين العمل الجديدة الأمن الوظيفي الكامل؛ وأصبحت الدولة الملاذ الأخير لجميع الخريجين طالبي العمل؛ وتم توفير التعليم والرعاية الصحية المجانية؛ وارتفع الدخل القومي للفرد من 195 دي
نار عراقي في 1970 إلى 7564 دينار عراقي في 1979.