أهمية حركة البعث في الشرق الأوسط العربي
لم يكن لأية حركة سياسية التأثير العميق على تأريخ الشرق الأوسط خلال القرن العشرين مثلما كان للبعث. كان الحزب قد ولد في سوريا حيث استمر في الحكم منذ عام 1963 وحكم العراق بين 1968 و2003 وله فروع في كل دولة عربية تقريباً ولعب دوراً مهماً بدرجات متفاوتة في كل منها. ونسعى في هذا الكتاب لأن نوضح كيف أن البعث قد قام بالفعل ببناء دولة شبه صناعية كما قال وكيل الأمين العام للأمم المتحدة مارتي أهتيساري في آذار/ مارس 1991 1 وكيف تم تدميره من خلال عقوبات الإبادة الجماعية والحروب.
نرى أن من الضروري توضيح بعض الخلفية لتقدير أسباب صعود وسقوط حركة البعث في العراق. فقد تمت تغطية ولادة حركة البعث في سوريا وكيف ترسخت في العراق ولو لفترة وجيزة في كتاب آخر2 ولا ننوي استنساخها هنا. يكفي أن نكرر أسباب نجاح البعث في العراق ونعتقد أن هناك سببين رئيسين – كانت مبادؤه بسيطة وجذابة على الرغم من أن الأساليب المستخدمة لتنفيذها كانت قمعية تجاه المعارضة. إذ يعتقد البعث أن العرب هم أمة واحدة قسمتها هجمات استعمارية مختلفة. ويذكرون دعماً لهذا الاعتقاد اللغة والثقافة والتاريخ والدين والعدو المشترك. ويعتقد البعثيون أن الخلاص الوحيد للعرب هو أن يتحدوا. أما المبدأ الثاني لحزب البعث فهي دعوته إلى شكل من أشكال العدالة الاجتماعية سماها تماشياً مع مزاج القرن العشرين بالاشتراكية. ولا يحتاج المرء من أجل معرفة سبب جذب مثل هذا المبادئ للعرب سوى النظر إليها من منظور الجماهير العربية المحرومة من الذين ينظرون باشمئزاز إلى ثروتهم التي تبددها الأنظمة الفاسدة التي نصبها نفس الاستكباريين الذين خلقوا الانقسام بين العرب واللذين يسعون للحفاظ عليه.
دروس فشل البعث عام 1963
تولى حزب البعث السيطرة الكاملة على العراق في 30 تموز/ يوليو 1968 وبدأ عهده الثاني الأطول والأكثر أهمية في حكم العراق. وتم التوصل إلى تفاهم بين أقوى رجلين وهما أحمد حسن البكر وصدام حسين من أجل تجنب الصراع على السلطة حول القيادة حيث كان للبكر قدر كبير من الاحترام بين الضباط في الجيش العراقي وليس فقط البعثيين منهم.
كان صدام حسين بعثياً شاباً طموحاً تم حرمانه من أي دور في الحزب بسبب نفيه حتى عام 1963 إثر محاولة اغتيال قاسم الفاشلة عام 1959. وعندما تفكك الحزب في تشرين الثاني/ نوفمبر 1963 عمل صدام والبكر معاً لإعادة تجميع الأعضاء القدامى في منظمة جديدة ونجحا بعد توليهم السلطة في تموز/ يوليو 1968. وبدأت أعداد متزايدة من البعثيين السابقين في العودة إلى صفوف الحزب الجديد. كانت هذه الخطوة تتماشى مع الفرضية التي كررها صدام لرفاقه بأن الحزب سيبنى بمجرد توليه السلطة 3 . وتم التوصل إلى تفاهم بين صدام والبكر بمجرد تولي البعث السيطرة الكاملة على العراق في 30 تموز/ يوليو 1968 وبدأ صدام ببناء الحزب وإنشاء نواة أول جهاز استخبارات حقيقي في العراق وسيطر البكر على الجيش وإدارة الحكومة.
كان الشيء الوحيد الذي لن يتسامح فيه البعث الجديد هو الانشقاق داخل الحزب. فبسبب وجود عدد قليل من الأعضاء الذين لديهم موهبة صياغة المبادئ والتأمل فيها كان الاختلاف الوحيد الذي كان يمكن أن ينشأ مرتبطاً بالولاءات الشخصية وطموحات السلطة. وعملت سياسة القضاء على المعارضة بشكل لا يرحم لصالح حزب البعث في بعض الأحيان وضده في حالات أخرى كما سنرى لاحقاً.
كان صدام حسين الذي كانت لديه رؤية عظيمة لبناء عراق قوي قد فهم أهمية النفط في تحقيق هذه الرؤية وتولى شؤون النفط منذ البداية. فأنشأ ورأس لجنة متابعة عقود النفط التي منحته سلطة وتفوقاً في جميع الأمور التي تتعامل مع النفط وخاصة المفاوضات القائمة والوشيكة مع شركات النفط. وبينما كانت أوبك تتفاوض مع شركات النفط وهي المفاوضات التي أدت إلى حصول الدول الأعضاء في أوبك على حصة في إنتاج النفط بنهاية عام 1972 كان صدام حسين يخطط لشيء أكبر. وفي حزيران/ يونيو 1972 أمم العراق امتيازات شركة نفط العراق (IPC). وأمم العراق بعد الحرب العربية الإسرائيلية في تشرين الأول/ أكتوبر 1973 المصالح الأمريكية والهولندية في شركة نفط البصرة (BPC) وتم بحلول عام 1975 تأميم جميع المصالح النفطية الأجنبية في العراق. وأنشأ العراق الشركة العراقية للعمليات النفطية (ICOO) لتشغيل وإدارة حقول النفط المؤممة. “وهكذا حقق العراق أخيراً بعد خمسة وخمسين سنة من اتفاقية سان ريمو المهينة السيادة الكاملة على حقوله النفطية.”4
أدى تسلسل الأحداث من اتفاق طهران إلى نجاح أوبك المتواضع إلى التأميم في العراق ولادة عهد جديد لحزب البعث في العراق. فبعد حوالي ست سنوات من توليه السلطة وبعد سنوات قليلة من التقشف كان البعث ينعم بمجد النجاح بعد أن رفع عائدات النفط العراقي من 214 مليون دينار عراقي (حوالي 710 ملايين دولار) في عام 1970 إلى 1.7 مليار دينار عراقي (حوالي 6 مليارات دولار أمريكية) عام 1974. ارتفعت عائدات النفط من 16٪ من الناتج القومي الإجمالي العراقي عام 1970 إلى 57٪ عام 1976.5
نجاح البعث في تجميد المشكلة الكردية
أدرك صدام حسين حتى قبل توليه السلطة عام 1968 أن البعث لن يكون قادراً على تنفيذ خططه لبناء العراق الذي يريده طالما كانت المشكلة الكردية تتفاقم. نشأت المشكلة الكردية من شعور بالظلم بين أكراد العراق ثم بين أكراد إيران وتركيا لعدم امتلاكهم وطنهم القومي. وتاريخ المشكلة طويل ومعقد للغاية ولا يتسع المجال هنا لمناقشته. يكفي القول بأن صدام حسين ورفاقه أرادوا بصدق وضع حد للقتال والذي كان متقطعاً منذ أيلول/ سبتمبر 1961 في شمال العراق بين القوات الحكومية والمتمردين الأكراد.
لعل أحد أوائل المؤشرات على حسن النية من جانب قادة العراق الجدد كان قرار مجلس قيادة الثورة رقم 677/1969 الذي شكل لجنة برئاسة نائب الرئيس لتنسيق تنفيذ القوانين والمراسيم المتعلقة بالمنطقة الكردية وأعقب ذلك عفو عام عن جميع المدنيين والعسكريين الذين شاركوا في التمرد في شمال العراق. ومن بين المراسيم الأخرى التي أشارت إلى رغبة حقيقية في معالجة بعض المظالم الوطنية المشروعة للأكراد: اللامركزية من خلال قانون المحافظات؛ إنشاء محافظة دهوك الجديدة؛ بناء جامعة السليمانية؛ تأسيس المجلس العلمي الكردي؛ تأسيس مديرية الثقافة الكردية، وجعل عيد النوروز عطلة رسمية في العراق6.
أدت المفاوضات إلى بيان للحكم الذاتي للأكراد وقعه صدام حسين ممثلاً للحكومة ومصطفى البارزاني ممثلاً للأكراد أصبح يعرف باسم بيان 11 آذار/ مارس 1970. كان البيان بالتأكيد بياناً ثورياً منح الأكراد العراقيين حقوقاً ومكانة أكبر بكثير منها في كل من إيران وتركيا المجاورة حيث يبلغ إجمالي عدد الأكراد حوالي عشرة أضعاف سكان العراق. وكان من بين فقرات البيان الاعتراف بأن العراق يتكون بشكل رئيس من أمتين (كردية وعربية) وأن الدستور يجب أن يتضمن ذلك. كما نص البيان على أن تصبح اللغة الكردية اللغة الرسمية الثانية في المنطقة الكردية وتدرس جنباً إلى جنب مع اللغة العربية (لاحظ أنه حتى اليوم لا يتمتع الويلزيون ولا الاسكتلنديون في بريطانيا بهذه الحقوق)؛ وأن تدرس اللغة الكردية كلغة ثانية في المدارس العربية في العراق؛ وأنه يجب ألا يكون هناك تمييز ضد الأكراد في المناصب الحكومية الرسمية أو القيادة العسكرية؛ وأن أولئك المعينون في المناصب السيادية في المناطق الكردية يجب أن يكونوا أكراداً أو على الأقل عرباً أتقنوا اللغة الكردية؛ وأن يتم تعيين كردي نائباً لرئيس الجمهورية؛ وأن يكون للأكراد تمثيل نسبي في الهيئة التشريعية. وحدد البيان أربع سنوات لتنفيذ أحكامه 7.
شكل مجلس قيادة الثورة في بغداد في 12 أيار/ مايو 1971 لجنة برئاسة صدام حسين لتنفيذ البيان الذي كان نجاحه يخدم الحكومة في بغداد. كما تم، كجزء من محاولة البعث لتهدئة المجال السياسي من أجل المضي قدماً في خطة التنمية الطموحة، تأسيس الجبهة الوطنية التقدمية (NPF) كجبهة سياسية للأحزاب السياسية الرئيسة في العراق تضم البعث والشيوعيين والأكراد وبعض الأحزاب السياسية الصغيرة الأخرى8. وذهب البعثيون إلى أبعد مما توقع أحد فوقعوا في عام 1972 معاهدة صداقة وتعاون مع الاتحاد السوفييتي والتي نصت المادة الأولى فيها على أن هدف المعاهدة كان تطوير التعاون الواسع بين العراق والاتحاد السوفيتي في المجالات الاقتصادية والتجارية والعلمية والتقنية ومجالات أخرى على أساس “احترام السيادة والسلامة الإقليمية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للطرف الآخر. . ” وحصل العراق بموجب المعاهدة على مساعدة تقنية واسعة ومعدات عسكرية من الاتحاد السوفيتي9 .
كان البارزاني مع اقتراب الموعد النهائي لتطبيق بيان 11 آذار/ مارس مصراً على عدم التفاوض أكثر حتى يتم قبول مطالبه الجديدة (بما في ذلك إدراج كركوك في منطقة الحكم الذاتي الكردية وإلغاء مجلس قيادة الثورة). وقام كلا الحزبين في الجبهة الوطنية القومية أي البعث والشيوعيون بالمضي في التشريع وفقاً لذلك. وتم في 11 آذار/ مارس 1974 أي بعد أربع سنوات من إعلان بيان 11 آذار/ مارس إصدار قانون الحكم الذاتي وتم تعديل الدستور المؤقت وفقاً لذلك. ودعت الحكومة في 12 آذار/ مارس 1974 البارزاني للانضمام إلى الجبهة الوطنية لكنه رفض. إلا أن الحكومة برغم ذلك وكدليل على حسن النية وتماشياً مع بيان وقانون 11 آذار/ مارس عينت عبد الله الابن الأكبر لمصطفى البرزاني عضواً في مجلس الوزراء وطه محي الدين معروف نائباً للرئيس.
لكن أياً من هذه الإجراءات السياسية لم تفلح في العمل وعاد الأكراد مرة أخرى إلى الجبال لاستئناف تمردهم. وكان القتال هذه المرة شرساً لأن الأكراد تمكنوا من الحصول على أسلحة جديدة وثقيلة من شاه إيران. وكان واضحاً للقيادة في بغداد أن السبيل الوحيد لوقف التمرد الذي كان يصرف الحكومة في بغداد عن خططها التنموية هو وقف الإمدادات الإيرانية وكان السبيل الوحيد لتحقيق ذلك هو إبرام صفقة مع شاه إيران. وتوسطت الجزائر في اتفاق مثل هذا تم التوقيع عليه خلال اجتماع أوبك في الجزائر العاصمة في 6 آذار/ مارس 1975 من قبل صدام حسين وشاه إيران. وتنازل العراق بموجب هذا الاتفاق عن جزء من ممره المائي في شط العرب لإيران مقابل إغلاق الأخيرة حدودها ووقف جميع الإمدادات والدعم للتمرد الكردي. وبمجرد أن تم التوقيع على الاتفاقية تبخر التمرد الكردي مما يثبت أنه تم تثبيته من قبل شاه إيران. فر مصطفى البرزاني في 18 آذار/ مارس 1975 من العراق إلى إيران ثم إلى الولايات المتحدة حيث توفي في 2 آذار/ 1979 رجل مكسورا كئيباً. كان الانهيار الذي تلا ذلك داخل الهيكل السياسي الكردي قاسياً جداً لدرجة احتاج الأكراد لأكثر من خمسة عشر عاماً وغزوتين صهيونيتين للعراق لإعادة لم صفوفهم. وهناك أدلة على تعاون ومساعدة صهيونية للأكراد من إسرائيل. وقد كتب العديد من الكتب والمقالات التي توضح بالتفصيل هذا التعاون مع صور للبارزاني والعديد من مساعديه وغيرهم من القادة الأكراد مع المسؤولين الإسرائيليين في شمال العراق أو في إسرائيل نفسها 10.
وبرغم أن اتفاقية الجزائر لعام 1975 يتم الاستشهاد بها بانتظام عند مناقشة المشكلة الكردية إلا أننا نعتقد أنها لم يتم الاعتراف بأهميتها الحقيقية فيما يتعلق بالأحداث اللاحقة في العراق على الإطلاق. صحيح أنها مكنت البعث من تهدئة البلاد كلها والشروع في خطته التنموية وأنها أوقفت إراقة الدماء والدمار من كلا الجانبين. إلا أنه صحيح أيضاً أنها كانت إحدى أسباب الحرب الإيرانية العراقية التي شملت إيقاظ الشيعة بعد ثورة الخميني وما تلاها من منافسة داخل العراق بين الحركة القومية العربية والإسلام السياسي والذي كانت له قبضة أكبر على الكثير من الشيعة وكل ما تلا ذلك من محاولة استعادة الكويت إلى العقوبات المدمرة إلى الغزو والاحتلال المفجع لعام 2003. كان من غير المتصور أن يتخلى قومي عربي مثل صدام حسين عن أرض عربية في الأوقات الصعبة دون التخطيط من البداية لاستعادتها يوم ما. لقد كان غزو إيران عام 1980 من جملة أمور محاولة صدام لعكس إذلال اتفاق الجزائر لعام 1975. ربما كان قد رأى نفسه على أنه قومي عربي فخور أجبر على تقبيل يد الإمبراطور الفارسي العدو الذي يعكس الآن انتصار القادسية عام 637 م عندما اجتاح الإسلام الإمبراطورية الفارسية الساسانية.
جلبت خطط التنمية التي سيتم دراسة تفاصيلها في فصول لاحقة والتي نفذها البعث بين 1975 و1980 رخاءً للعراق لم يكن معروفا من قبل. ويتذكر معظم العراقيين الذين عاشوا خلال تلك الفترة اليوم بالحنين إلى الماضي. وتمكن حكام بغداد جنبا إلى جنب مع العمالة الكاملة والبنية التحتية الصلبة من تسليح جيشهم إلى درجة وتطور لم يسبق لهما مثيل في تأريخ العراق حتى اليوم.
وبحلول نهاية عام 1979 وبينما كان الخميني يكافح لبناء إيران إسلامية جديدة مع تفكك الجيش الإيراني تقريباً شعر صدام حسين بالقوة وأنه لا يمكن إيقافه تقريباً. ورأى أن الوقت أصبح مناسباً لتصحيح إهانة وظلم اتفاق الجزائر 1975. واعتقد صدام حسين أن محاولة إيران تصدير الثورة الإسلامية وانتهاك الحدود بما في ذلك تبادل إطلاق النار كان مسوغاً كافيا للجيش العراقي للغزو. وكان يعتقد بصدق أن إيران كانت ضعيفة للغاية وأنه كان على وشك الإطاحة بالخميني وتولي السيادة في جميع أنحاء الخليج. ونحن هنا لا نتكهن ولكننا نبني هذا الاستنتاج على التصريحات التي أدلى بها لهذا الغرض إلى عدد قليل من مساعديه الأقربين 11 .
ليلة السكاكين الطويلة في العراق
كان أحد العناصر الأساس لصعود وسقوط البعث في العراق هو طموح صدام حسين منذ البداية لقيادة الحزب وحكم العراق وبالتالي العالم العربي. وكان العضو المحترم في الحزب الذي كان يقلق صدام حسين دائماً هو عبد الخالق السامرائي الذي كان عليه إزالته من أجل الانفراد بالمسرح لنفسه. كان عبد الخالق بعثياً مقدراً ومحبوباً من قبل معظم أعضاء الحزب الذين عرفوه. وكان مهذباً ومطلعاً على القضايا العراقية والدولية. وعندما انضم صدام حسين إلى حزب البعث في عام 1959 كان عبد الخالق عضواً رفيع المستوى في الحزب وكان في عام 1968 عضواً في كل من القيادة القطرية والقيادة القومية لحزب البعث. وظهر أول انشقاق كبير في البعث بعد عام 1968 في عام 1973 عندما زعم أن ناظم كزار مدير جهاز الأمن العراقي وعدد قليل من أعضاء الحزب الآخرين خططوا لاغتيال أحمد حسن البكر وصدام حسين في مطار بغداد لدى وصول الأول من زيارة لبلغاريا وتم اتهام عبد الخالق بكونه أحد المتآمرين. وسواء كان السبب هو ضعف الأدلة أو لأن أعضاء في القيادة القومية العربية توسطوا نيابة عنه فإنه تم إنقاذه من الموت الذي أصاب ناظم كزار والمتآمرين الآخرين واقتصرت عقوبة عبد الخالق على الإقامة الجبرية بدلاً من ذلك. كانت تلك أولى محاولات صدام لإزاحة عبد الخالق. وعزز انقسام عام 1973 من سيطرة صدام على الحزب وأزال بعض الأشخاص الذين كان يحتاج إلى دعمهم قبل عام 1968 لكنهم أصبحوا منذ ذلك الحين خصومه.
وقد حدث الانقسام الرئيس الثاني في الحزب عام 1979 عندما خلص صدام حسين إلى أنه أسس سلطته السياسية بما يكفي ليتحكم بالكامل في الحزب والدولة. واجه صدام حسين أحمد حسن البكر ببعض القرارات الصعبة بما في ذلك مواجهة مقترحة مع إيران لإلغاء اتفاق الجزائر عام 1975 مع شاه إيران. وعندما رفض البكر تنفيذ ما أراده صدام أخبره الأخير أن فترة ولايته قد انتهت وأنه لم يكن لديه خيار سوى تسليم الحزب والدولة. لقد أدرك البكر الذي كان هو نفسه أحد أكثر المتآمرين شهرة في تاريخ الحزب أن سيطرة صدام أصبحت في كل مكان ولا رجعة فيها. فأصدر البكر في 16 تموز/ يوليو 1979 إعلانه عبر التلفاز والإذاعة بتسليم الحزب والدولة لصدام حسين. ويبدو لنا أنه لم يكن لدى أحد في الحزب شك حقيقي في أن صدام حسين كان مسيطراً فقد كان في ذلك الوقت قد بنى الحزب وآلية الدولة. وكان صدام أيضاً قد رفع أنصاره إلى الخط الثاني في التسلسل الهرمي للحزب ليضمن ولاءهم له.
إلا أن بعض أعضاء قيادة البعث وبعضهم كانوا أعضاء في الحزب قبل صدام حسين والذين لم يتم التشكيك في ولاءاتهم لحزب البعث ناقشوا الحاجة إلى ترتيب يكون بموجبه صدام حسين زعيماً مع واحد منهم كنائب بنفس الطريقة التي كان صدام حسين فيها نائبا للبكر. لكن صدام حسين رأى في ذلك بداية مؤامرة تهدف إلى تقليص سلطته وبالتالي عرقلة خططه. دعا صدام إلى مؤتمر الحزب في 22 تموز/ يوليو 1979 عرض فيه ما زعمه اعترافاً بمؤامرة ضده مدعومة من عدوه اللدود حافظ الأسد من سوريا وطرد حوالي خمسين عضواً أصلياً في المؤتمر وأنشأ محكمة حزبية غامضة. وأُعدم المحكوم عليهم بالإعدام على أيدي أعضاء الحزب وحكم على آخرين بالسجن لمدة طويلة. وبحلول 8 آب/ أغسطس 1979 كان قد تم إعدام واحد وعشرين عضواً من كبار قادة الحزب وسجن عشرين آخرين بأحكام طويلة. وتوفي بعض السجناء في وقت لاحق في السجن – وكان من أبرزهم وزير الخارجية السابق مرتضى سعيد عبد الباقي.
وضمن صدام حسين هذه المرة أن يكون عبد الخالق السامرائي من بين المتآمرين الذين أعدموا. ولم نسمع لحد الآن أي تفسير من أي بعثي حول الكيفية التي كان يمكن فيها لعبد الخالق السامرائي، الذي كان محجوزاً في مبنى واحد دون أي اتصال بالعالم الخارجي منذ عام 1973، أن يكون متآمراً.
أصبح ما يعرفه الكثير من البعثيين باسم “مذبحة الحزب” في تموز/ يوليو – آب/ أغسطس 1979 حدثاُ فاصلاً لم يتعاف منه الحزب أبداً. وانتهى عملياً وجود حزب البعث كما في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. وتحول الحال من دولة الحزب إلى حزب الدولة يسيطر فيها صدام حسين على كل شيء. كان هذا بالنسبة لنا هو الفصل الأول من الدمار في العراق بغض النظر عن كل التطور الاقتصادي والازدهار الذي حققه النظام. فعند قراءة نص مقابلة تايه عبد الكريم مع قناة البغدادية الفضائية لا بد للمرء أن يتساءل عن كيفية عمل الحزب. فعلى الرغم من أنه كان عضواً في القيادة القطرية إلا أنه يبدو أنه لا يعرف الكثير عما حدث. ويزعم أن محاولة الانقلاب المزعومة لناظم كزار لم تتم مناقشتها قط ولم يتم الكشف عنها لهم بشكل مفصل 12. ويذكر أن الشخص الوحيد الذي تحدث خلال الجلسات كان رئيس المحكمة نعيم حداد بينما التزم الآخرون الصمت. وقال إن الأحكام قد تم البت فيها في مكان آخر وجاءت في قصاصات ورقية إلى رئيس المحكمة لإعلانها 13. ونحن نعتقد أنه كان يقول الحقيقة وأنهم مجرد دمى كانوا يفعلون ما أمروا به.
كان صدام حسين بحلول نهاية آب/ أغسطس 1979 قد قضى على جميع خصومه المحتملين. وصعد ابن عمه وتابعه علي حسن المجيد مثل النجم في وظائف الحزب والدولة العليا. ولم يعد حتى الوزراء بحلول عام 2003 قادرين على الوصول إلى صدام حسين دون الحاجة إلى المرور عبر حارس بوابته.
وللحديث صلة….
1 “فقد جلب الصراع الذي حدث مؤخراً نتائج تشبه أحداث يوم القيامة على الهياكل الأساسية لما كان حتى شهر كانون الثاني/ يناير 1991 مجتمعاً حضرياً يعتمد على الآلات إلى حد بعيد. أما الآن فإن معظم الوسائل الداعمة للحياة الحديثة قد دمرت أو أصبحت هزيلة. لقد أعيد العراق إلى عصر ما قبل الثورة الصناعية وسيظل كذلك فترة من الزمن، لكن مع كل أوجه العجز التي يتسم بها الاعتماد على الاستخدام الكثيف للطاقة والتكنولوجيا في عصر ما بعد الثورة الصناعية.” تقرير عن الاحتياجات الانسانية في العراق في بيئة ما بعد الأزمة مباشرة مقدم من بعثة أوفدت إلى المنطقة برئاسة السيد مارتي أهتيساري وكيل الأمين العام لشؤون الإدارة والتنظيم، 10-17 آذار/ مارس 1991
http://www.moqatel.com/openshare/Wthaek/FreeDocs/GeneralDoc5/AGeneralDocs37_2-1.htm_cvt.htm
2 عبد الحق العاني، محاكمة صدام حسين، الفصل الأول
3 كانت إحدى الحكايات المتداولة بين البعثيين هي أنه قبل عام 1968 عندما كان أعضاء الحزب يشكون من انخفاض مستوى الدعم الشعبي كان صدام حسين يقول: أعطوني سلطة سياسية وسأعطيكم حزباً.
4 Mukhtar, K.E., ‘The Genesis of Iraqi Oil Industry and The Role of the IPC Ltd’/ Sanford, op cit. 2006, p. 5.
5 Alnasrawi, Abbas, op cit, Chapter 1, p.11
6 <http://www.kurdefrin.com/vb/t6444.html
7 نبيل إبراهيم، تأريخ العصابات البرزانية والطالبانية وتآمراتهم على العراق، الجزء الثالث، شبكة المنصور
https://www.thiqar.net/drasat/DR-Nabeel14-05-09.htm
8 “A Charter for National Action, prepared by the Ba’ath Party, was published in the press for public discussion and became the basis for cooperation with the ICP and other parties. In March 1972 Ba’thist and ICP leaders met to discuss the content of the charter and express their views about basic principles such as socialism, democracy, and economic development. A statute was drawn up expressing the principles agreed on as the basis for cooperation among the parties of the NPF. It also provided for a 16-member central executive com-mittee, called the High Committee, and a secretariat. The NPF officially came into existence in 1973. ”http://www.britannica.com/EBchecked/topic/293631/Iraq/22908/The-revolution-of-1968
9 http://countrystudies.us/iraq/82.htm
10 http://abutamam.blogspot.com/2005/12/corrosive-israeli-mossad-in-iraqi. html
<http://israelkurdistannetwork.blogspot.com/2007/09/kurdish-israeli-political-relations.html>
11 وقد روى صلاح عمر العلي إحدى هذه القصص وهو أحد أقرب مساعدي صدام حسين لأحد المؤلفين وادعى أنه خلال مؤتمر عدم الانحياز السادس في أيلول/ سبتمبر 1979 في كوبا أكد له صدام حسين أن إيران كانت ضعيفة لدرجة أن كل ما تحتاجه هو دفعة واحدة حتى تنهار من الداخل.
<http://www.albaghdadia.com/programs/history/4723-2009-05-25-15-00-59. html>
12 http://www.albaghdadia.com/programs/history/4730-2009-05-25-17-55-39. html
13 المصدر السابق.