صفحات من ترجمة كتاب “الإبادة في حصار العراق” – 1

تأليف: عبد الحق العاني وطارق العاني

ترجمة: طارق العاني

العراق ضمن العالم العربي

إن الأحداث التي وقعت في العراق بين عامي 1990 و2003 والتي تسببت فيها جزئياً الحرب الإيرانية العراقية السابقة بين عامي 1980 و1988 كانت ذات أهمية تاريخية في أكثر من وجه. فقد وفر الوضع في العراق أولاً بداية اختبار للنظام الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وزوال الحركة الشيوعية في جميع أنحاء العالم. فقد حولت الولايات المتحدة خلال تلك الفترة مجلس الأمن إلى ختم مطاطي لسياساتها كما شهد بذلك بول كونلون المسؤول السابق في لجنة العقوبات على العراق. فقد صاغ المسؤولون الأمريكيون بحسب كونلون كل قرارات مجلس الأمن بفرض وتطبيق العقوبات على العراق في السنوات الأولى من نظام العقوبات .  وانتهكت حتى “القواعد القسرية” لما يسمى بالقانون الدولي عندما وضع مجلس الأمن نفسه خارج نطاق سيادة القانون بعد أن أعلنت الولايات المتحدة أن اتفاقيات جنيف التي صممت لوضع قواعد الحرب لم تعد ذات أهمية بعد الآن . ويتمتع العراق ثانياً بمكانة فريدة في الإسلام لأن أهم الطوائف في الإسلام تنظر إليه على أنه المهد المقدس لفقهها. والعراق ثالثاً هو الدولة العربية الوحيدة التي شاركت في القتال عام 1948 لكنها لم توقع على معاهدة سلام مع إسرائيل. لذلك أصبح من الضروري لكل من الولايات المتحدة ومخططي سياستها للشرق الأوسط في تل أبيب أن لا يسمح باستمرار مثل هذه الحالة. لم يكن توقيع العراق على مثل هذه المعاهدة ضرورياً فحسب بل أصبح تفكيك قواته المسلحة بالكامل فرصة ذهبية لا يمكن تفويتها. وأخيراً ونتيجة للحقائق السابقة فإن اجتياح العراق كان سيفتح الباب للشرق الأوسط الجديد الذي تصوره الاستكباريون في تل أبيب وعمل عملاؤهم في واشنطن على تنفيذه 

حقق تدمير العراق بعد ثلاث عشرة سنة من الحصار والغزو والاحتلال بعض هذه الأهداف ولكن ليس كلها. وهكذا عندما فشلت خطة إنتاج نظام مطيع بالكامل يقوم على فهم تبسيطي للعراق تم تبني خطط جديدة. وقد أدرك الاستكباريون أنهم بينما كانوا يخبرون الناس أنهم يهتمون كثيراً بحكم الشعب لنفسه (الديمقراطية) لدرجة أنهم سيخوضون الحرب لإرساء هذه الغاية فأنهم كانوا يدركون تماماً أن حكم الشعب الحقيقي لنفسه في العالم العربي يعني نهاية خططهم. ذلك أن الحلفاء الحقيقيين الوحيدين للاستكباريين الأمريكيين في الشرق الأوسط هي تلك الأنظمة الاستبدادية في شبه الجزيرة العربية والخليج التي ليس لها دساتير أو إذا كانت لديهم فهي مجرد ستار يغطي ابتعادها لسنوات ضوئية عن حقوق الإنسان . وكان على الاستكباريين بعد أن أدركوا أنه من المستحيل دفع الشعب المتحضر في مصر أو الشعب السوري المتسامح إلى تبني مثل هذه الأنظمة الاستبدادية وإدراك استحالة الحكم المباشر بعد الفشل في العراق أن يتوصلوا إلى خطط جديدة تحافظ على خططهم الشاملة النهائية الهادفة إلى إخضاع العالم العربي كله. وقد أطلقوا كخبراء عالميين في تصميم الاختصارات وتأليف العبارات إلى مصطلح “الفوضى الخلاقة” وهي خطة تعني باختصار هو أنه إذا لم تتمكن من حكم المنطقة فعليك تركها في حالة من الفوضى وهذه هي بالضبط الطريقة التي غادرت بها الولايات المتحدة العراق.

اتخذت الخطط الجديدة تحت مسمى “الفوضى الخلاقة” أشكالاً مختلفة في بلدان مختلفة. فقد شجعوا في تونس ومصر ما أطلقوا عليه فيما بعد اسم “الربيع العربي” مما مكنهم من التخلص من عبئين هما زين العابدين وحسني مبارك اللذين دعموهما لعدة عقود ليظهروا وكأنهم مع إرادة الشعب. وعلى الرغم من وجود توقعات واستياء حقيقيين بين الناس في كلا البلدين إلا أنه تبقى حقيقة أن الفراغ السياسي الناشئ عن رحيل الزعيمين لا يمكن أن تملأه جماهير من المتظاهرين بل من قبل الأحزاب السياسية المنظمة. وكانت الأحزاب شبه المنظمة الوحيدة هي أحزاب الإسلاميين الذين تمكنوا على الرغم من حظر الأنشطة السياسية من استخدام المساجد لصالحهم وتنظيماتهم. واكتشف الاستكباريون فجأة أن الإسلام السياسي لم يكن يمثل تهديداً لمصالحهم وهو ما كانت تركيا تحاول إثباته. ورحب الاستكباريون بحذر بـ “الربيع العربي” في تونس.  لأن ذلك سوف يمنع تطور الأنظمة الشعبية العلمانية الحقيقية في كلا البلدين ويضمن أنه بسبب غياب رؤية الإسلاميين ستنشأ الفوضى المتوقعة في أحسن الأحوال.

أما في ليبيا وسوريا فقد كانت الظروف مختلفة ولم يكن من الممكن تكرار نغمة “الربيع العربي” لأسباب لا يمكن تفسيرها في هذه المقدمة. وكانت هناك حاجة إلى خطط جديدة لفرض التغيير. فتم تنشيط العديد من خلايا المعارضة من كلا البلدين من التي تم إيواؤها ورعايتها في الدول الغربية مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا بدعم مالي وتدبيري كامل من دول الخليج. كانت الخطة تقوم على محاكاة تمرد مسلح يمكن استخدامه كمسوغ للتدخل العسكري. ونجحت الخطة في ليبيا ولأسباب عديدة ليس أقلها عدم قدرة القذافي على فهم شعبه بشكل صحيح. واستطاع الغرب بعد وقت قصير من بدء التمرد في بنغازي في إصدار قرار من مجلس الأمن يخول التدخل الإنساني ظاهرياً لحماية المدنيين والذي سرعان ما تم استخدامه من قبل الناتو لشن هجوم كاسح على ليبيا مسبباً موتاً ودماراً لا حصر لهما. وقتل القذافي وسادت ليبيا الفوضى .  

واجهت الخطة شروطاً مختلفة في سوريا لأن سوريا ببساطة مختلفة. كانت الجهود التي بذلت من أجل تغيير النظام في سوريا هائلة حيث شارك جميع جيران سوريا في تهريب الأموال والأسلحة وتم شن حرب إعلامية لم يسبق لها مثيل من قبل على مدار الساعة من قبل وسائل الإعلام العربية والغربية. ومع ذلك فإن مسقط رأس القومية العربية لم يكن ليسقط بهذه السهولة لنفس الخطط التي أعدت للمجتمع البدوي في ليبيا. وكان إدراك روسيا لخطأها في منح الناتو الفرصة لتدمير ليبيا من خلال دعم قرار مجلس الأمن بنفس القدر من الأهمية. ولم يكن الروس ليكرروا هذا الخطأ ويخلقوا منطقة من الفوضى قريبة جداً من حدودهم. وعلى الرغم من أن الأمور ما تزال فعالة أثناء كتابة هذا فإننا نعتقد أن سوريا ستنجو من هذا الهجوم وستخرج بخراب لكنها ربما ستكون أكثر صحة وأقوى. أما إذا وصل التدخل الأجنبي إلى مرحلة يحس فيها النظام أنه حشر إلى ركن ويشعر بأنه مهدد فإن فمن المحتمل في رأينا أنه قد يلجأ إلى حرب إقليمية لتغيير قواعد المعركة.

الغرض من هذا الكتاب

كان فرض العقوبات على العراق من أبشع الجرائم التي ارتكبت في القرن العشرين. فلم يحدث قط في التاريخ الحديث للعالم أن تعرضت أية دولة لمثل هذه العقوبة الجماعية العشوائية الوحشية. لكن تلك الجريمة لم تلق سوى القليل من الاهتمام في العالم الأنجلو أمريكي. تم تلخيص هذا الفشل ببلاغة من قبل الأستاذ توماس ج. ناجي:

يتردد كثيرون بمن فيهم الكاتب في التفكير في إمكانية ارتكاب دولة غربية وخاصة الولايات المتحدة للإبادة الجماعية. لكن هذا الاحتمال المؤلم وحتى المحظور هو الذي قد يحتاج إلى بحث

كتبت بعض الكتب لكنها كانت فقط لمعالجة جوانب معينة من الضرر الناجم عن هذه العقوبات. ولكن على الرغم من الدمار الكارثي الناجم عن العقوبات لم يقم المهنيون القانونيون أو الجامعيون أو الفلاسفة بمحاولات جادة لمعالجة عدم أخلاقية هذه العقوبة الجماعية غير المسبوقة وعدم شرعيتها والوصول فعلاً إلى تسمية الجناة بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية والتي يمكن توجيهها وإثباتها وتقديم الحجج القانونية بموجب قواعد القانون الدولي الداعمة لمثل هذه التهمة.

يسعى هذا الكتاب للتحقيق في حرب 1990-2003 على العراق. فقد تعرض العراق للهجوم ووضع تحت حصار دولي صارم لأكثر من اثني عشر عاماً قبل الغزو والاحتلال النهائي. لقد اخترنا هذه الفترة بالتحديد بدلاً من إدراج الدمار الناجم عن الهجوم الثاني على العراق في عام 2003 لأن جميع التدابير المتخذة ضد العراق خلال هذه الفترة أعطيت غطاءً من الشرعية بموجب قرارات مجلس الأمن. كان غزو عام 2003 دون أي تفويض مزعوم وهو لهذا خرق صريح للقانون الدولي الذي يتطلب دراسة منفصلة بحد ذاته. إن هدفنا هو إظهار أن القانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان والمعايير القسرية للقانون الدولي قد تم انتهاكها خلال تلك الاثنتي عشرة سنة. ومن الضروري لتحقيق ذلك فهم ما كان عليه العراق عام 1990 وكيف انتهى به الأمر عام 2003. كان العراق عام 1990 نتاجاً لعقود من التطورات السياسية والاجتماعية في العراق الحديث منذ عشرينيات القرن الماضي. كما أن العراق السياسي الحديث موروث من العثمانيين الذين ورثوه من العباسيين. ويمكن القول بأن الفهم الكامل للعراق سيتطلب العودة إلى العصور السومرية لكن ذلك سيحول الغرض من الكتاب عن هدفه الحقيقي وهو التحليل القانوني / السياسي للعقدين الماضيين.

إن من المقبول تاريخياً أن أي غاز في الشرق الأوسط يجب أن يغزو ويحتل بلاد ما بين النهرين. وهذا صحيح بالنسبة لبغداد منذ القرن العاشر كما كان بالنسبة لبابل في وقت سابق. يحاول الفصل الثاني شرح سبب احتلال بغداد في التاريخ الحديث كما يشرح تفرد العراق في كونه مركز الفقه السني والشيعي. وهذه الأهمية للعراق التي تفوق بكثير أهمية الجزيرة العربية هي التي تحدد في الوقت نفسه العراق كهدف. وهي نقطة الضعف التي حاول البريطانيون استخدامها في الحرب العالمية الأولى وفشلوا لكن الولايات المتحدة نجحت في توظيفها في التسعينيات. ويزدهر كل استكبار بالاحتلال والاغتصاب ولا يشذ الاستكبار الأمريكي عن ذلك. يجادل هذا الكتاب بأنه عندما يدرك الاستكبار المعاصر أنه لا يستطيع أن يحكم ويغتصب كما يشاء تصبح الفوضى وتفتت الدولة القومية خياراً بديلاً.

نتناول في الفصل الثالث العراق السياسي بين نهاية الملكية عام 1958 والاحتلال عام 2003. ومن الضروري شرح حركة البعث وتوليها السلطة في العراق والتعامل معها في ضوء مختلف عن الطريقة التي تم التعامل بها معها حتى الآن في الأدب الأنجلو أمريكي وهو أمر لا مفر منه في أية مناقشة عن الحملة ضد العراق.

يعالج الفصل الرابع بشيء من التفصيل إنجازات البعث في تحويل العراق من مجتمع شبه صناعي إلى مجتمع مزدهر وإنجازاته في مستوى المعيشة والتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية التي لم تكن معروفة من قبل في العراق أو في بقية الشرق الأوسط. وقد تحقق ذلك في خطتي تنمية نفذتا على مدى عشر سنوات. وهذا يقضي على الجدل الذي ساقه البعض بأن دولاً أخرى في المنطقة قد تم تطويرها بوتيرة مماثلة . ويجب عقد موازنة بين هذا النجاح وعدم وجود أي تطور في السنوات الثماني منذ احتلال عام 2003.

نلقي في الفصل الخامس نظرة على التطور الاجتماعي والسياسي للعراق في ظل حكم البعث مسلطين الضوء على التقدم الذي تحقق في حل المشكلة “الكردية” والتهدئة السياسية والإنجازات في مجال حقوق المرأة والتعليم والصحة.

يوضح الفصل السادس حجم تدمير العراق من خلال مقارنة العراق في عام 2003 بما كان عليه في عام 1990 إذ تتحدث الحقائق عن نفسها. ونحن لا نعتقد أن أي كتاب آخر تم نشره باللغة الإنجليزية قد أجرى هذا البحث المتعمق والمقارنة بين العصرين.

ويتناول الفصل السابع انتهاكات القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان خلال هجوم عام 1991 والحصار الذي أعقب ذلك بينما يعالج الفصل التاسع الجدل المختلف عليه بشدة بأن ما حدث في العراق يقع ضمن تعريف الإبادة الجماعية على النحو المحدد في اتفاقية الإبادة الجماعية. ونقدم نحن تفسيرنا لمسألة “النية” ونجادل بأنه لا ينبغي النظر إليه كما اقترح بعض الكتاب الأنجلو أمريكيين .

يتناول الفصل 8 لجنة العقوبات. فنحن نعتقد أنه لم يكتب الكثير عن هذا الكيان غير المسبوق الذي مكن رجلاً واحداً في أي وقت من إخضاع العراق بأكمله من خلال رفض تصدير المواد الحيوية للبقاء.

نعتقد أن هذا الكتاب ضروري لمزيد من الفهم لما تعنيه العقوبات الشاملة. ونأمل أن يساعد ذلك في إقناع الناس بعدم فرض نظام للعقوبات مثل هذا على أية دولة أخرى في المستقبل. ونأمل كذلك أن يساعد أولئك الذين قد يتخذون إجراءات قانونية في المستقبل لتحقيق العدالة والتعويضات عن هذه الجرائم الفادحة التي ارتكبت ضد شعب العراق.

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image