الفصل الأول
آلاف السنين من التاريخ الثري للعراق
الدور التاريخي الفريد للعراق
قد يكون القول بأن العراق مختلف قد أصبح تعبيراً مبتذلاً لأنه يمكن القول بسهولة أن كل بلد مختلف. لكننا ننوي القول بأن العراق فريد على الأقل بين الدول العربية والإسلامية الأخرى. وهذا التميز سيساعد إلى حد ما برأينا في شرح صعوبة فهم بعض الأحداث والوقائع في العراق خلال القرن الماضي.
يقف العراق في التاريخ المسجل لآلاف السنين القليلة الماضية كما نعرفها فريداً في كونه أنتج أكثر من إمبراطورية وحضارة. إنها الأرض التي تأسست فيها أولى الحضارات المسجلة في العالم حيث تم اختراع العجلة وحيث كانت الأصول الأولى للكتابة وحيث تم تنفيذ أقدم أنظمة الإرواء وحيث تمت كتابة قوانين الإنسان الأولى. ولهذه الأرض امتداد متصل في التاريخ وتستمد عظمتها من تلك الاستمرارية وذلك الامتداد. ولا تقلل حقيقة أن الإمبراطوريات جاءت وذهبت من قيمة العراق بل هي دليل على وجوده الأبدي كدولة.
إن هذه الطبيعة الفريدة للعراق ومرونته وقدرته على إظهار نهضته (بعثه) والتي تكررت مرات عديدة هي سبب استهدافه من أي غزاة في الشرق الأوسط وسبب الوحشية والتدمير لمثل هذه الغزوات. فقد حاصرت قوات هولاكو بغداد من تشرين الثاني/ نوفمبر 1257 حتى استسلمت في 10 شباط/ فبراير 1258 “ مسببة مذبحة استمرت لمدة أسبوع من قبل المغول وتعد واحدة من أكثر الأحداث المدمرة في تاريخ الإسلام“. واحتاجت بغداد قروناً للتعافي وأصبح دمار 1258 جزءاً من الحكايات الشعبية العامية 1 .
استخدم الغزاة الغربيون في عام 2003، وبعد حصار العراق لمدة ثلاثة عشر عاماً وحرمانه من ضرورات الحياة وتقليص جيشه إلى قوة وهمية، أسلوب “الصدمة والرعب” وهو ما يعني بلغة واضحة استخدام القوة غير المتناسبة والعشوائية بنية التدمير. وأدى الغزو والاحتلال الذي أعقب ذلك إلى تفكيك الدولة بالكامل والانهيار التام للنسيج الاجتماعي الدقيق الذي ميز العراق لعدة قرون، ووفاة أكثر من مليون شخص واقتلاع حوالي أربعة ملايين آخرين في بلد يزيد قليلاً عن خمسة وعشرين مليون نسمة هذا الى جانب التدمير الكامل لجميع المرافق والخدمات العامة مثل المياه والكهرباء والصحة والتعليم. وتم تدمير البنية التحتية بأكملها والتي بذل العراقيون عقوداً من العمل والتمويل في بنائها. وتركت بغداد في حالة خراب ولن تتعافى لعقود إن لم يكن لقرون. ولا تختلف النتيجة والمصير اليوم عن ما سببه غزو المغول عام 1258.
لم تشكل بغداد في أي من الحالتين أي تهديد سواء للمغول أو للغرب. وكان الدمار في كلتا الحالتين شاملاً ولم تكن هزيمة فقط وكان مقصوداً ومتعمداً. ويبدو أن السبب في غزو بغداد ونهبها بمثل هذه الوحشية هو أن كلاً من الاستكباريين أدرك أنه يجب إخضاع بغداد أو تدميرها من أجل السيطرة على كل من الشرق الأوسط في القرن الثالث عشر والعالم العربي في القرن الحادي والعشرين.
كان العراق خلال تاريخه الطويل وحتى بداية القرن العشرين إما مركز إمبراطورية أو جزءاً من إمبراطورية واحدة. فكيف يمكن للمرء تحديد حدود ما كان بالفعل مركز الإمبراطورية العباسية؟ كان العراق التاريخي في الإمبراطورية العثمانية مكوناً من ثلاث ولايات منفصلة (وهي كلمة عربية استخدمها العثمانيون لتحديد نوع من المقاطعة الكبيرة). ولم تكن هذه الولايات وهي: بغداد والموصل والبصرة هيكلاً تماماً بل إنها مثلت ما كانه العراق التاريخي دائماً وثبتت استمراريته. ورثت ولاية بغداد الامبراطوريات البابلية والبابلية الجديدة وورثت الموصل (نينوى سابقاً) الإمبراطورية الآشورية بينما ورثت البصرة أوروك وأور – الإمبراطورية الأكدية / السومرية.
لم يكن هناك في أي وقت من الأوقات حتى بداية القرن العشرين وحتى بعد وصول المستعمرين أي كيان سياسي من أي شكل على الجانب الغربي من الخليج الفارسي/ العربي بين عمان والبصرة. وامتدت السلطة السياسية لوالي (حاكم) البصرة بدرجات متفاوتة إلى حدود عمان لتشمل معظم الجانب الغربي من الخليج. وعلى الرغم من أن العثمانيين لم يتنازلوا عن أي جزء من الخليج ولم يدع المستعمرون الأوروبيون أية سلطة سياسية أو عسكرية عليه إلا أنه ظهر أن مجرد السماح للمستعمرين بإثبات وجودهم كان خطأ فادحاً للغاية كلف الناس في المنطقة ثمناً غالياً. وقد وصفت الدولة العثمانية ولاية البصرة في التقسيم الإداري للعراق في أواخر عام 1909 وبعد أن ثبت البريطانيون أنفسهم في منطقة ولاية البصرة كما يلي: 2
ولاية البصرة
تقع في جنوب العراق وتحدها من الشمال ولاية بغداد ومن الشرق إيران ومن الجنوب الخليج والإحساء ومن الغرب جبل شمر وسوريا.
تقدر مساحتها بـ 128.800 كيلومتر مربع.
تنقسم إلى أربع مقاطعات: البصرة – وهي عاصمة الولاية والمنتفق ونجد والعمارة وتتكون من حوالي ثلاث عشرة مدينة وثلاثين قصبة و315 قرية موزعة على النحو التالي:
البصرة: البصرة والقرنة والفاو والكويت
المنتفق: الناصرية وسوق الشيوخ والشطرة والمنتفق والحي
نجد: الهفوف والقطيف وقطر والرياض
العمارة: العمارة وشطرة العمارة والجحلة والمجر الكبير وعلي الغربي
تم تأكيد هذا الإقرار بامتداد البصرة في عام 1961 عندما أرسلت السفارة البريطانية في لبنان الرسالة التالية إلى وزارة الخارجية: 3
8 تموز/ يوليو 1961
السير م. كروستويت
قالت مصادر نثق بها هنا اليوم إن رئيس الوزراء العراقي عبد الكريم قاسم (قاسم) قرر السعي لضم محافظة البصرة السابقة في العراق. وتضم محافظة البصرة التي كانت تحت الحكم العثماني منطقتي القطيف والأحساء اللتين تشكلان الآن جزءاً من المملكة العربية السعودية وغنية بحقول النفط.
وكانت بريطانيا قد اقتطعت معظم ولاية البصرة وفقاً لحدود 1909 للإمبراطورية العثمانية وسلمتها لعملائها البدو في الخليج والمملكة العربية السعودية (وهم حالياً الكويت والإمارات العربية المتحدة والبحرين وقطر والمملكة العربية السعودية) وحرمت العراق بهذا من منفذ طبيعي على الخليج. وهذا وضع فريد لبلد مثل العراق فيه نهران رئيسان ينتهيان على أرضه ليتم منعه بعد ذلك من امتلاك ميناء حقيقي على الخليج.
عقدت منذ عام 1990 مؤتمرات وكتبت مقالات وكتب لإثبات أن الكويت دولة قديمة ربما سبقت العراق وأن حدودها قد تم تأسيسها والاعتراف بها من العصور القديمة وأن جميع القوى اعترفت بذلك. وأشار البعض إلى اتفاق 23 كانون الثاني/ يناير 1899 بين مبارك وبريطانيا على أنه اعتراف بامتلاك مبارك للأراضي. وكان وزير الخارجية البريطاني الماركيز لانسداون قد عارض في عام 1902 هذا التأكيد بقوله إن حدود تملك مبارك – وهو أساس حدود الكويت – غير معرفة بدقة. وتابع أن أراضي مبارك لم تمتد إلى ما وراء مدينة الكويت وخليجها 4 .
ولكن الأسوأ من ذلك كله هو إن شرعية وجود العراق كدولة أصبحت جزءا لا يتجزأ من آلة الدعاية في الغرب وخاصة في المملكة المتحدة. وكانت النظرية هي أن العراق ليس بلداً حقيقياً على أي حال – فقد “أنشأته” بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى وقبل ذلك كان جزءاً من تركيا. وكان الرأي هو أنه إذا كان العراق يريد التأكيد على ادعاءاته التاريخية بشأن الكويت فإنه يمكن لتركيا حينها وعلى وفق ذلك أن تطالب بالموصل. وزعموا أن العراق كانت أرضاً تسمى بلاد ما بين النهرين حتى جاء البريطانيون و “أنشأوها” في عام 1921. ثم أخبرونا أن حدود العراق حددتها الإمبراطوريتان العثمانية والفارسية في معاهدة زوهاب لعام 1639 أي تسع سنوات قبل معاهدة وستفاليا لعام 1648 التي حددت الحدود الوطنية في أوروبا! ويبدو الأمر كما لو أن إنكار تاريخ العراق الطويل سيجعله يختفي من ذاكرة البشرية5. ليس هناك شيء جديد في التلاعب بالتاريخ لأغراض سياسية وقد نجح المستعمرون في ذلك لعدة قرون. ويتكرر النمط نفسه في العراق الآن.
لعل من الواضح هو إن الحقائق الاجتماعية – السياسية في الخليج في نهاية القرن التاسع عشر دعمت بوضوح إمكان تطور دولتين رئيستين فقط في الخليج وهما العراق وإيران. فقد كان لكل منهما مجتمع حضري وتقاليد وثقافة وتاريخ تؤهلهما للحفاظ على نظام سياسي. وبما أنه كان من المتوقع أن ترث السلطة السياسية في العراق ولاية البصرة فإن الجانب الغربي الكامل من الخليج سيصبح جزءاً من النظام السياسي العراقي الجديد. وكان واضحا للمخططين البريطانيين أنه في حين يمكن تحييد نفوذ إيران على الجانب الغربي من الخليج فإن تحييد قوة العراق لن يكون بهذه السهولة.
وعلى الرغم من توقيع اتفاقية سايكس بيكو في عام 1916 بين بريطانيا وفرنسا، وبموافقة روسيا، لتفكيك الإمبراطورية العثمانية بتقسيم الشرق الأوسط العربي بينهما إلا أن المخططات البريطانية للعراق على الأقل بدأت قبل وقت طويل من ذلك 6. كان أمام بريطانيا بديلان مفتوحان لبسط سيطرتها على الخليج، أولهما كان احتلال العراق في أول فرصة والثاني هو احتواءه أثناء زراعة فكرة الدويلات التابعة على الخليج من خلال توطين القبائل البدوية والحفاظ عليها مقابل ولائها غير المشروط كما حدث في معاهدة 1899 بين بريطانيا ومبارك.
وعندما بدأت القبضة العثمانية في التراخي وجدت بريطانيا في المطالب غير النهائية لـ “المتوحش غير الموثوق به“ 7 الكويتي وسيلة جيدة لتقييد العراق. فتم اتخاذ الخطوات الأولى من خلال تشجيع مبارك على المطالبة بجزيرتي وربة وبوبيان القاحلتين واللتين لا قيمة لهما من حيث الزراعة أو المعادن أو الصيد حيث هما مغمورتان تحت الماء معظم الوقت. كانت الأهمية الوحيدة لهذه الجزر أنها كانت تسيطر على وصول العراق إلى البحر. وكتب الوكيل السياسي س. ج. نوكس بتاريخ 9 حزيران/ يونيو 1908 إلى ب. ز. كوكس المقيم البريطاني في الخليج أن ادعاء مبارك بشأن بوبيان يمكن إثباته من خلال شهادة العوازم وحكم محكمة الشريعة والذي كان قاضيها قد عينه مبارك. إلا أن الأمر لم يكن كذلك فيما يتعلق بجزيرة وربة وهو الادعاء الذي اعتقد البريطانيون في تلك المرحلة أنه من الأفضل عدم المضي فيه. فقد صرح مكتب الهند في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1907 أن “حق الشيخ في جزيرة وربة لم يثبت أبداً“ 8.
كانت السياسة الرسمية البريطانية في أواخر عام 1908 هي أن الوقت لم يكن مناسباً لإثارة قضية مطالبات مبارك بشأن وربة وبوبيان. وتمكنت بريطانيا في نهاية الأمر من احتلال العراق لكنها سرعان ما اكتشفت أن الاحتلال المباشر للعراق كان مكلفاً عسكرياً. فقد أذن ونستون تشرشل باستخدام الغازات السامة في المناطق الكردية في العراق والتي تم رشها من الطائرات ضد المدنيين للمرة الأولى في التاريخ 9.
حدد بيرسي كوكس والذي كان آنذاك المفوض السامي في انتداب العراق في عام 1923 الحدود بين العراق والكويت. وتظهر الطريقة العرضية التي تم بها ذلك دون أن يتم ترسيمها فعلياً على الأرض الكثير من احتقار الحكومة البريطانية لشعب المنطقة وتجاهلها لاحتمال الصراع في المستقبل. وكان ينبغي على كوكس بما أنه كان رجلاً عسكرياً ودبلوماسياً قديراً أن يدرك – وربما أدرك – أن تعامله مع قضية الحدود بين العراق ومشيخة الكويت سيزرع بذور الصراع لعقود قادمة.
أعلنت كل حكومة عراقية بين عامي 1930 و1961 بما في ذلك أكثر الحكومات ولاءً لبريطانيا موقفها من وضع الكويت. ففي عام 1938 استخدم ملك العراق غازي قضية الكويت كنقطة تجمع لشعبه داخل العراق الرئيس والكويت (التي كانت ما تزال تحت الحكم البريطاني) ضد الهيمنة البريطانية. وقام بتركيب محطة إذاعية في قصره ولعب على وتر الحماسة الوطنية للمطالبة بعودة الكويت. وصوت مجلس الشورى الكويتي المعين من قبل الشيخ مرتين ضد الإرادة البريطانية من أجل الوحدة مع العراق ودعا الملك غازي إلى السيطرة على أراضيهم. كان الرد البريطاني سريعاً: إقالة المجلس وسجن بعض أعضائه وترحيل آخرين. توفي الملك غازي في حادث سيارة غامض في 4 نيسان/ أبريل 1939 واختفى رفاقه في السيارة واحتفظ السير هنري سندرسون بجثته بين وقوع الحادث ودفنه. وقد تم تعيين الدكتور سندرسون من قبل البريطانيين ليكون طبيب الملك وأول عميد لكلية الطب في بغداد ولكنه كان في الواقع حاكم العراق بامتياز 10.
وعندما أعربت بريطانيا عن نيتها إنهاء سيطرتها المباشرة على الكويت عام 1961 رحب زعيم العراق اللواء عبد الكريم قاسم بعودة الكويت إلى العراق وهنأ شيخ الكويت بهذه المناسبة. وكان حكيماً بما يكفي لعدم التفكير في أي عمل عسكري لكنه كرر فقط موقف الحكومات العراقية السابقة والقناعة العامة: الكويت كانت جزءاً من العراق الجغرافي والسياسي ويجب إعادتها. كان الرد البريطاني سريعاً بشكل واضح وحازماً متمثلاً في إرسال وحدات عسكرية إلى الكويت. وخدم الخلاف العربي بريطانيا عندما عارضت مصر جمال عبد الناصر وهي الداعية الرئيسة للوحدة العربية الدعوة لإعادة توحيد الكويت مع العراق. وكان على قاسم مثل غازي من قبله أن يدفع ثمناً باهظاً لقناعاته عندما تم إسقاطه بعد عام ونصف في انقلاب شباط/ فبراير 1963. 11
وللحديث صلة…..
1 Battle of Bagdad, Hulagu Khan, <http://en.wikipedia.org/wiki/Hulagu_Khan>
2 Salih, Zaki, Britain and Iraq: A Study in British Foreign Affairs, London, Books & Books 1995, pp. ix-x.
3 نفس المصدر
4 Lauterpacht, E., Greenwood, C. J. , Weller, Marc, The Kuwait Crisis: Basic Docu-ments, Grotus Publication Limited, United Kingdom, 1991, pp. 17-18.
5 Dekker, Ige F., Post , H. H. G., The Gulf War of 1980-1988: the Iran-Iraq War in international legal perspective, T.M.C. Asser Instituut, The Hague, 1992, p. 8.
6 عبد الحق العاني، “محاكمة صدام حسين – غزو العراق وبداية الربيع الصهيوني للعرب“، دار أمجد للتوزيع، عمان، ص 99
7 راجع: Lauterer–pacht, E., Greenwood, C. J., Weller, Marc, The Kuwait Crisis: Basic Documents, Grotus Publication Limited, United Kingdom, 1991, p. 17-18.
8 The Kuwait Crisis: Basic Documents, نفس المصدر السابق p.27
9 Simons, Geoff, Iraq, From Sumer to Saddam, Macmillan Press Ltd., 2nd Edition, London, 1996, pp. 213-214
10 http://www.smithsonianmag.com/people-places/unruly.html?c=y&page=7
“بعد ست سنوات من توليه العرش صدم غازي سيارته الرياضية في عمود خدمات في بغداد بعد أمسية من الشرب. واستدعى طبيباه البريطانيان زميلاً عراقياً إلى مسرح وفاة الملك الجريح. كتب الدكتور هنري سي. سندرسون وكان كبير أطباء الملك في مذكراته قائلاً: “كنت خائفًا من أنه إذا لم يكن هناك طبيب عراقي حاضراً فقد يخلق الكارهون لبريطانيا إشاعات تقول إننا كنا مسؤولين عن وفاة الملك“. ومع ذلك اندلعت تظاهرات عنيفة في الشوارع في بغداد في اليوم التالي وقتل الغوغاء في الموصل القنصل البريطاني. وأصر العديد من العراقيين لسنوات على أن غازي قتل على يد البريطانيين وحلفائهم. وقد خلفه ابنه فيصل الثاني.”
11 Simons, Geoff, op.cit. pp. 257-259.