كنت قد انتهيت في الجزء السابق قبل سنتين في الحديث عن حاجة إيران لرفض الفساد في العراق وذلك لأنه من صالحها وصالح العراق.
لكن استجد من الأمور خلال هذه الأشهر ما دفعني للعودة للحديث في هذا الموضوع لتعلق ما حدث ويحدث في فلسطين بالصراع على العراق بشكل مباشر.
فقد اكتشف الإيرانيون، حين وقعت هجمة الإبادة الأخيرة على غزة هاشم، مقدار محدودية فهمهم للصراع مع الصهيونية والمترتب على عدم فهمهم لحقيقة الصهيونية، كما هو حال أغلب العرب.
فقد اختارت قيادات فلسطينية تفجير الصراع مع إسرائيل دون علم أو استشارة حلفائها في المنطقة، ومنهم إيران. وإن كان هناك سؤال خطير بحاجة لإجابة ملحة: ألا وهو إذا كانت حماس قد اتخذت قرارا ببدء عملية غزة دون استشارة أو علم إيران وحزب الله فهل قامت حماس بذلك دون علم رعاة قيادتها السياسية في قطر، وهذه الأخيرة أكبر حليف للصهيونية في أرض العرب؟ وهذا أمر لا يمكن تجاوزه وتجاوز الإجابة عليه في أية محاولة جدية لفهم ما حدث ويحدث. لكن هذا ليس حديث اليوم!
فكان على إيران وحزب الله التعامل مع الحدث كما فرضته القواعد على الأرض وهي الوقائع التي تجاوزت حسابات الذين خططوا وأعدوا لحرب “التحريك” تلك. فأجبر حزب الله على مشاغلة العدو في حدود معينة لا تنقل العملية لحرب كاملة ولكن بدرجة من التوازن تكفي لمشاغلة كبيرة لقوات العدو مما قد يخفف العبء عن غزة وبقية فلسطين. فما حدث على حدود لبنان وفلسطين مشهود لا يحتاج لتعليق.
أما في إيران فالحال مختلف. فإيران وجدت نفسها محرجة بل عرضة لخطر مجهول. فهي، التي ما انفك مسؤولوها وعلى الأخص قادة “الحرس الثوري” يؤكدون في مناسبة وغير مناسبة إعدادهم لتحرير القدس وكل فلسطين من البحر الى النهر، وجدت نفسها أمام معركة لم تختر هي توقيتها ولا الإعداد لها وتتعلق بتحرير القدس. فايران تختلف عن حزب الله في المقدرة على المناورة في أي عمل عسكري، فحين يقدر حزب الله على الإشتباك مع الجيش الإسرائيلي في أعمال قتال محدودة يفهم فيها كل طرف أين يجب أن يتوقف، فإن إيران لا يمكنها فعل ذلك مع إسرائيل دون الإحتمال الكبير من قيام حرب شاملة ليست إيران مستعدة لها، بل قد تعرض وجودها لخطر الزوال!
لذا فإن التصريحات والخطب الثورية التي كنا نسمعها في كل مناسبة عن قرب زوال إسرائيل قد خفتت حتى أوشكت على الإختفاء. لكن أكثر ما اكتشفه الإيرانيون وأرعبهم هو أنهم فهموا حقا ما هي الصهيونية. فقد تبين لهم كما تبين للآخرين أنها وحدة متكاملة وليست سياسات دول تقوم على المصالح. فما هي إلا ساعات على بداية العمل العسكري المحدود في غزة حتى حشدت الصهيونية قواتها في كل أرجاء الأرض وجاءت بقضها وقضيضها وأعلنت أن إسرائيل ليست حليفا وإنما هي جزء من السلسلة إن لم تكن واسطة العقد.
ثم ما لبثت الصهيونية أن أثبتت جدية ذلك. فحين طلبت إيران من أتباعها في العراق القيام بعمليات ضد القواعد الأمريكية فيه من باب إظهار الدعم للمقاتلين في غزة جاء الرد الأمريكي قاسيا في ضرب أكثر من ثمانين موقعاً مع رسالة حاسمة بان أي عمل آخر ضد قواعدها سوف ترد عليه بضرب إيران نفسها. فهمت إيران الرسالة ومنذ ذلك اليوم توقف الهجوم على أي موقع أمريكي في العراق.
لكن الأخطر من كل ذلك ما وضح لإيران وحلفائها في المنطقة من خلال التصعيد العسكري الإسرائيلي ضد أهداف إيرانية أو موالية لها والذي كانت آخر حلقاته هدم القنصلية الإيرانية في دمشق على رؤوس قادة الحرس الثوري الإيراني. وهو إن كل العمليات الإسرائيلية ترمي لجر إيران لمواجهة عسكرية مباشرة. ذلك أن الصهيونية التي تمكنت من الهيمنة على دول مجلس التعاون الخليجي والعراق ومصر والأردن لم يعد يوقف هيمنتها الكاملة سوى المقاومة الفلسطينية وحزب الله وسورية. لكن هذه الثلاثة لا يمكن لها أن تستمر دون إيران. لذا فإن التمكن منها جميعا سوف يتحقق في التمكن من إيران.
وليس هناك وقت أفضل من الآن لجر إيران الى مواجهة شاملة حيث إن أساطيل الصهيونية المتمثلة في حلف شمال الأطلسي تحيط بالمنطقة وطائراته في المطارات في أرض العرب على أتم استعداد للمعركة الفاصلة. ففي ضرب إيران سوف يقف الدعم لكل القوى التي توقف الهيمنة الصهيونية على المنطقة وسوف يتحقق المطمح الذي بدأت به هذه السلسلة في الحديث عن الصراع بين جبال زغروس والبحر الأبيض المتوسط.
إن العقل يقضي ألا تقدم إيران على الإنجرار في طريق المواجهة، لذا فهي لم ترد على أي ضربة وجهتها لها إسرائيل. وهي تفكر كيف ترد على الضربة الأخيرة على القنصلية. إن عدم الرد ليس خيارا حتى إن أعداءها أحرجوها بالحديث عن وجوب الرد من خلال عرض احتمالاته. لذا فهي تفتش عن نوع الرد وحجمه مما يمكن أن يتناسب مع الفعل الأصلي في قتل قادة الحرس الثوري من دون أن يكون الرد مسببا في مواجهة عسكرية شاملة.
ليس هناك شك لدى أي مراقب للحدث أن ما حدث في 7 تشرين الأول منعطف خطير في وجود دولة إسرائيل لا سابق له حيث لم يسبق في تأريخها أنها تعرضت لضربة من داخلها. فكل حروبها السابقة كانت خارج أرضها تقوم بالرد عليها من خلال سلاحها الجوي المتفوق والذي لا تمتلكه دول رئيسة في حلف شمال الأطلسي، دون أن يشعر مواطنيها بأثرها وثقلها. إن التغيير الذي جاءت به المواجهة الجديدة هو قواعد جديدة للمواجهة تمس الجبهة الداخلية مما دفع المستوطن للتساؤل عن مصداقية أرض الميعاد. لكن سذاجتي ليست بالمستوى المتدني حتى أعتقد أن دولة نووية سوف تزول بسبب هزيمة عسكرية واحدة إذا افترضنا أن هذه هي النتيجة المرتقبة.
إن امتلاك السلاح النووي هو الضمانة الأخيرة في حماية أمن الدولة التي تمتلكه. لذا نجد الصهيونية وهي تعمل على منع امتلاكه لمن يمكن أن يشكل تهديدا لمصالحها كما هو الحال في كوريا الشمالية. وتذهب للحرب لمنع أية دولة عربية من امتلاكه كما فعلت في العراق. وتعمل منذ عقود على منع إيران من امتلاكه. وإيران تعرف أن أية مواجهة مباشرة مع الصهيونية يجب ألا تتم إلا بعد امتلاكها لذلك السلاح والذي يشكل الردع المقابل.
ذلك انه في حالة قيام مواجهة عسكرية شاملة بين إيران وإسرائيل وتعرض الأخيرة لهزيمة عسكرية حقيقية على مستوى سَوْقي يمكن أن يضع مستقبل الدولة موضع تساؤل فإن إسرائيل سوف تستعمل سلاحها النووي لضرب إيران ضربة تخرجها فيها من معادلة الدول لعقود أو قرون، وذلك بتقسيمها لدويلات مذهبية وعرقية متنازعة. وهذا ما تدركه إيران وتخشاه. فماذا ستفعل إيران؟
إني أعتقد أن إسرائيل سوف لن تتوقف عن محاولة جر إيران لمواجهة عسكرية شاملة فاذا لم تنجح في ضربتها الأخير فسوف تحاول مرة أخرى بتصعيد قد يطال أرضا إيرانية مباشرة.
عبد الحق العاني
6 نيسان 2024