لا يمكن لدارس التأريخ إلا أن يخرج بنتيجة واحدة مفادها أن الأمة العربية منذ استباح هولاكو عاصمة الدولة العباسية في بغداد عام 1258 م فقدت كرامتها وأصبحت لثمانية قرون ألعوبة بيد كل قوة وطأت أرض العرب من أتراك متخلفين إلى أوربيين من كل من هب ودب امتلك سلاحا ففرض سيطرته عليها، فأذلوا أهلها وسلبوا خياراتها وزرعوا بينهم الفرقة واستعلوا منهم بيتا على بيت، ثم قسموهم وجعلوهم قبائل متحاربة تسعى كل قبيلة فيها إرضاء السيد الأجنبي كي يبقي عليها في السلطة. ففي الوقت الذي اتحدت فيه أقوام لم يكن يربطهم رابط تمكن العثمانيون والأوربيون من بعدهم من تفتيت الأمة العربية، واحتجوا أن في أرض العرب اقواماً أخرى غير عربية وكأنّ الولايات المتحدة ولدت من قوم جاؤا من جذر واحد، وليست خليط شذاد كل أهل الأرض!و
خلال مسيرة الأمة العربية وبشكل خاص في القرن العشرين، ارتُكِبتْ جرائم كبرى بحقها. ولم يتمكن قادة الأمة، إما بسبب كونهم أجراء للسيد الأجنبي أو لعدم مقدرتهم على فعل شيء، من حماية الأمة أو الإنتصار لها. ولا يمكن أن تكون أمة عانت ما عانته الأمة العربية في القرن العشرين من جرائم من حيث عددها ونوعها وديموميتها أو تكرارها.
والقضاء الوطني في أرض العرب لا يمتلك الحرية ولا الجرأة الأخلاقية أن يقاضي المجرمين الذين اعتدوا على الأمة. وخير مثال على ذلك القضية الحية في تلويث العراق باليورانيوم المنضب والتي يعرفها الجميع. لكن قاضيا واحدا من العراقيين الذين يعيشون البيئة الملوثة، والتي قد تشوه أجيالاً من نسلهم، لم يتحرك كي يستدعي المسؤولين عن هذا الثلوث للمثول أمامه كما تقضي قوانين العراق، للإجابة عن أسباب الجريمة والزامهم بتطهير العراق والتعويض عن الضرر!
وحين حاول عدد من العراقيين التوجه للقضاء في الغرب (أوربا والولايات المتحدة) بموجب القوانين السائدة هناك فإنهم ووجهوا بتسييس القوانين ورفض القضاة السماح لهم حتى برفع الدعاوى.
فهل يصح أن تقف الأمة العربية متفرجة على الجريمة لمجرد أن المجرم يرفض تطبيق القانون الذي شرعه هو؟
لا شك عندي أن الجواب يجب أن يكون بالنفي.
وهنا يكون السؤال: ما العمل إذن؟
وجواب ذلك هو أن على الأمة العربية أن تثبت تلك الجرائم وتدينها. فالعالم يتحرك بشكل مستمر وما لا يمكن أن يتحقق اليوم لا بد أن يتحقق في المستقبل وقد أثبتت حرب أوكرانيا الأخيرة معنى هذا التحرك والتغير السريع الذي وقع بشكل لم يكن يتوقعه كثيرون من المراقبين.
فالروس والأمريكيون والصينيون كلهم لم يعترفوا بسلطة محكمة الجنايات الدولية والتي لم تقاض أحدا سوى الأفارقة المساكين الذين لا يحميهم أحد. وعلة عدم اعتراف هؤلاء بسلطة محكمة الجنايات الدولية واضحة في أنهم يعرفون جيدا أن سياساتهم سوف تقود لجرائم تنتهي بهم أمام تلك المحكمة لو أنهم اعترفوا بها وشاركوا في إجراءاتها. ولعل الأهم من كل ذلك أن دولا كبرى كهذه تعد نفسها فوق المحكمة لأنها تحسب نفسها فوق القانون كما حدث في تأسيس منظمة الأمم المتحدة حين اتفق الخمسة الكبار على سلب “محكمة العدل الدولية” كل سلطة قضائية وجعلوها منصة استشارية.
وقد تميز البريطانيون عن أولاء حيث إنهم شاركوا في محكمة الجنايات الدولية ليس لأنهم حريصون على القانون بل من اجل التحكم بها وإدارتها وهكذا كان فالمدعي العام بريطاني وأكثر العاملين في إدارة المحكمة بريطانيون أو موالون لها. وهكذا مرة أخرى نجح الإنكليز حين عجز الآخرون!
وقد سكت الروس لعقود عن تحكم الصهيونية العالمية بالمسرح السياسي والعسكري والقضائي والذي تمثل في تشكيل محاكم خاصة باسم مجلس الأمن، والذي لا يمتلك سلطة تشكيلها بموجب القانون الدولي، لمحاكمة من تشاء الصهيونية تأديبه كما حدث في قضية رئيس صربيا “ميلوسوفتش” على سبيل المثال.
وقد يحاول الروس اليوم الحديث عن التجاوزات الصهيونية لكل القواعد خلال العقود الثلاثة المنصرمة لكنهم لا يجيبون عن سبب سكوتهم حين أرتكبت تلك التجاوزات، بل إنهم لم يسكتوا فقط بل ساهموا في التصديق على قرارات مجلس الأمن التي استند لها الصهاينة في الإستهتار بكل شيء من غزو العراق إلى نزع سلاح ايران الى ادانة كوريا الشمالية اذا اطلقت قمرا صناعيا حين يمكن لأية شركة صهيونية أن تفعل ذلك.
وسبب مشاركة الروس في الوصول لهذا الحال هو جهدهم المستمر في إرضاء الصهيونية العالمية لقبولهم في ناديها الراسمالي. وهي محاولة مازالت قائمة وتتجلى في الإصرار على تسمية حربهم في أوكرانيا على أنها حرب ضد النازية أو الفاشية. وكل العالم يعرف أنه ليس في الغرب حكومة أو حركة فاشية أو نازية. وكل العالم يعرف أن روسيا تحارب الغرب كله. وكل العالم يعرف أن الغرب الذي يحارب روسيا اليوم هو حلف شمال الأطلسي. وكل العالم يعرف أن حلف شمال الأطلسي هو الأداة العسكرية للصهيونية العالمية! فأين هي الفاشية التي يحاربها الروس؟ لكن الروس غير قادرين على الإعتراف بأنهم يحاربون الصهيونة العالمية لأن ذلك سوف يلزمهم باتخاذ قرارات مصيرية هم غير قادرين على اتخاذها حيث إن أكثر من ثلثي سكان إسرائيل هم من أصول روسية!
فكيف يمكن للعرب أن يستفيدوا من الوضع الدولي الجديد؟
إن الفوضى القضائية التي تفجرت في أعقاب حرب أوكرانيا وخرجت للسطح تكاد تعدم دور محكمة الجنايات الدولية، أو تجعل قراراتها في أفضل حال ليست أكثر من إعلانات لا قيمة لها من حيث الفعل أو التنفيذ.
فاذا لم يتمكن العرب من عرض الجرائم التي أرتكبت بحقهم خلال قرن من الزمن على محاكم دولية تمتلك سلطة قضائية حقيقية لأن الكبار لم يتفقوا، فليس هناك ما يمنع العرب من أن يقيموا محكمة جنايات عربية تتولى مقاضاة اولئك الذي اعتدوا على الأمة العربية.
فاذا قال قائل: ما الفائدة من محكمة لا يعترف بها العالم ولا يمكن تنفيذ أحكامها؟ ونجيب على ذلك بما يلي:
إن اعتراف الأمة العربية بها حتى إذا أنكرها العالم كله يكفي من باب اثبات كرامة الأمة وانتصارها لنفسها.
إن محكمة “نورمبرغ” التي حاكمت الألمان في اعقاب الحرب العالمية الثانية لم تكن تمتلك شرعية قضائية أكثر من شرعية محكمة الجنايات العربية.
إن ضعف المسوغ القانوني لا يلغي قيمة المسوغ الأخلاقي والذي هو بدوره أساس كل قانون.
إن رفض اي متهم أمام محكمة الجنايات العربية الإعتراف بها أو الرد على التهم الموجهة له منها لا يختلف كثيرا عن رفض الرئيس الروسي “بوتين” الإعتراف بسلطة محكمة الجنايات الدولية والإستدعاء الموجه منها له.
إن عدم مقدرة محكمة الجنايات العربية من تنفيذ أي من أحكامها لا يمنع قيامها بواجبها في تثبيت الجريمة في اقرب وقت من وقوعها وذلك أمانة للتأريخ وانصافا للضحية، مما قد يمكن لاحقا من تنفيذ تلك الإحكام حين يتغير الوضع الدولي والذي لا بد سيحدث.
إن هناك نتيجة أخلاقية مهمة في اضعف الأحوال تتحقق من قيام محكمة الجنايات العربية وهي تعرية المتهمين وكشفهم أمام العالم. فلو لم يقم مسوغ آخر لقيامها لكان هذا وحده كافياً.
إن محكمة الجنايات العربية سوف تعتمد الجرائم التي أقرها العالم خلال القرن الماضي أساسا لدستورها. كما إنها سوف تتبع الإجراءات التي اتبعتها محاكم الجنايات العالمية ولن تبتدع جديدا في ذلك.
لذلك نعلن اليوم للأمة العربية وللعالم أجمع تأسيس محكمة الجنايات العربية لمحاكمة من اعتدى على الأمة العربية.
عبد الحق العاني
دكتوراه في القانون الدولي
دكتوراه في الهندسة الإلكترونية
رئيس الإدعاء العام
محكمة
الجنايات العربية
باسم الأمة العربية
6 حزيران 2023