إلى أين: الدولة العربية الموحدة – النظام السياسي المرجو -2
إن بين النصرانية والإسلام ستة قرون. وهذا يعني أن أتباع الديانة النصرانية في العالم يرثون دينا مر بتجارب واختبارت واجتهاد وتطور أطول من أتباع الإسلام بقرون ستة. وبرغم أني لا أعتقد أن تجربة الدين، أي دين، تسير في خط مستقيم مع الزمن إلا أني أجد أهمية ملاحظة ما مرت به النصراينة لفهم شيء من حال المسلمين اليوم دون أن يعني ذلك أن الإسلام يحتاح لستة قرون أخرى كي يصل لما وصلت له النصرانية في حالها اليوم. وأرى هذا ضروريا كي يتأمل ذلك أولئك الذين يعتقدون أن على المسلمين أن يكونوا كنصارى أوربا الغربية اليوم في تبني العلمانية بمعزل عن تجذر الإسلام.
إن من يطلع على تأريخ أوربا بشكل عام يجد أن الكنيسة لعبت أدوارا مختلفة في القرون التي امتدت منذ تنصرت روما عام 313 على يد قسطنطين، وإن كانت الديانة قد دخلت قبل ذلك، وذلك قبل أن تصبح النصرانية دين الإمبراطورية الرسمي عام 380. لم يؤثر سقوط روما على سلطة الكنيسة. بل على العكس حيث إن وجود الجيوش التي سميت “بربرية” وكانت تجوب البلاد دفع الناس للتطلع للأساقفة لحمايتهم وهؤلاء كانوا من الطبقة العليا في المجتمع فأصبحوا يفاوضون تلك الجيوش نيابة عن بقية الناس. وهكذا امتلكوا السيادة.
وكانت الكنيسة أكبر مالك للأرض في أوربا وكان الناس يدفعون للكنيسة عشر مدخولاتهم السنوية مما منح الكنيسة سلطة كبرى تتناسب مع ثروتها. كما كانت الكنيسة تسيطر وتتحكم بالتعليم. وكان لهذه السيطرة أهمية كبيرة حيث إن الصلاة، والتي كان الأوربي يعدها خلاصا له، كانت تتم باللغة اللاتينية والتي لم يكن يعرفها إلا القلة.
وامتلك البابا سلطة طرد من يشاء من الكنيسة فاذا قام ذلك فإن كل رعايا وعبيد ذلك المطرود يصبحون أحرارا من قَسَم الولاء له، ولا يخفى على أحد قوة هذا الإجراء. ومن أمثلة قوة الكنيسة في السياسة أن الملك شارلمان سافر عام 800 الى روما كي يتوجه البابا.
والبابا كريكوري قرر في القرن الحادي عشر أن لديه سلطة ليس فقط تعيين الأساقفة ولكن سلطة عزل الملوك والأمراء وان الكنيسة لها حق حسم الخصومات بين الحكومات والملوك والحكام. والخلاف الأكبر وقع بين البابا والملوك في موضوع تعيين اساقف الدول والذي عده الملوك خطرا عليهم إذا ظل بيد البابا. فحين عين الملك الروماني هنري الرابع (1056 – 1106) اسقفا ضد رغبة البابا تم طرده من الكنيسة ففقد أهليته مما أضطره أن يسافر الى روما ليعلن توبته ويطلب عفو البابا عنه. وكان البابا المحرك الرئيس للحروب الصليبية فلعبت الكنيسة دورا محوريا فيها وفي استيطان بلاد الشام بين عامي 1095 و 1291.
ولم تتحرر إوربا من هيمنة الكنيسة السياسيىة إلا في القرن السابع عشر حيث قاد ما عرف بحركة “التنوير” الى ضعف دور الكنيسة في حياة الناس الإجتماعية والسياسية وبالتالي لظهور ما عرف بالدولة العلمانية والتي نتج عنها، بعد حروب أوربا الطاحنة، مفهوم “الدولة الوطنية” والتي تطورت بنظامها السياسي المعزول عن الكنيسة فأصبحت تعرف اليوم بالديموقراطية.
والعالم العربي يمر بمرحلة مشابهة لما مرت به أوربا قبل قرون. والموازنة واضحة دون الحاجة للتفصيل. فالدين الإسلامي متجذر في أغلب الناس سواء أكانوا يمارسون طقوسه أم لم يكونوا.
والمسلمون يدفعون للمؤسسة الدينية في صورة الزكاة للسنة، والخمس للشيعة، كما كان النصارى يدفعون عشر مدخولاتهم للكنيسة. ويحتكم المسلمون في الأحوال الشخصية للمحاكم الشرعية أو فتاوى رجال الدين كما كان نصارى أوربا في القرون الوسطى يحتكمون للكنيسة في أحوالهم الشخصية، ويقضي فيها الأساقفة.
ولا يختلف الأمر كثيرا في حال احتكار الكنيسة للتعليم في اوربا في القرون الوسطى عن حال التعليم في العالم العربي مع إختلاف بسيط ذلك ان المؤسسة الدينية في العالم العربي لم تتحكم في التعليم العام وانما تحكمت بتعليم الإسلام والذي قاد بحكم كونه أساس السياسة والعلاقات الإجتماعية للتحكم بكل مرافق الحياة وإن كان بشكل ليس واضحا. ذلك أن كل شريعة الإسلام أصلها في القرآن، والقرآن صعب في عربيته ممتنع الفهم على أغلب الناس. ومما زاد الأمر تعقيدا وصعوبة هو أن العرب عاشوا قرونا من التخلف والجهالة تحت الحكم العثماني او التغلغل الأوربي الذي انتهى بالإحتلال والإستعمار. وقد زاد هذا الحال في صعوبة فهم القرآن مما أعطى المؤسسة الدينية، سنية كانت أم شيعية، الوصاية التامة على الثقافة الدينية فغدى استفتاء المؤسسة الدينية فصل الخطاب في أمور الدنيا والدين.
والمؤسسة الدينية المتمثلة في “المفتي” عند السنة و”المرجعية” عند الشيعة غدت تمتلك قوة دينية واجتماعية وسياسية ومالية لا حدود لها، كما كان حال الكنيسة في أوربا في القرون الوسطى. فتمكنت من قيادة جمهور المسلمين حيث تشاء. وحيث إن الإسلام لا يتطابق مع مفهوم “الديموقراطية” فإنه يغدو من العسير تصور نظام سياسي ديموقراطي أوربي ناجحاً في بلد تتحكم فيه مؤسسة دينية إسلامية. ذلك أن وصول حكومة إسلامية للسلطة ليس معبرا عن نجاح الديموقراطية بل هي سبيل للوصول للحكم، ثم ما يلبث الحال أن يتغير في تأمين ديمومة الحكم إذا ما تبين أن السلطة قد تخرج من أيدهم فيتم إثارة مبادئ الشريعة وتشرع قوانين جديدة تؤمن ديمومة الحكم لهم.
ذلك ان الإسلام السني المتمثل في حركة الإخوان المسلمين يؤمن بمبدأ “الحاكمية لله” بينما يؤمن أغلب الشيعة بـ “ولاية الفقيه”. وكلاهما ينكر أن مبادئ السياسة وأمور الدولة هي من اختصاص الإنسان إذ هي لله وحده والتي يفسرها المفتي أو الفقيه.
وقد نجحت الصهيونية ضمن نجاحاتها الكبرى في تأجيج رفض جيل من نصف المتعلم العربي للنظام السياسي العربي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية بحجة عدم ديموقراطيته واستبداده بالحكم، وداعية للمطالبة بنظام “ديموقراطي”. فانساق القطيع في الحملة والتي كانت الصهيونية تعرف مسبقاً نتائجها. ذلك لأنه للأسباب التي أوجزت أعلاه فإن البديل الوحيد الذي كان سيولد بعد الإطاحة بنظام الحزب الواحد سيكون نظاما دينيا يقوده أو حزب أو أكثر من الأحزاب الدينية.
وحين كان دعاة “الديموقراطية” يهللون لدعم الصهيونية لتطلعاتهم للحرية المزيفة في التعبير واللغط دون أثر أو فاعلية، فإن الصهيونية كانت تعمل على تأمين اختراقها للنظام الديني الجديد وذلك عن طريق اختراقها للمرجعية الدينية أو الحزب الديني. ولعل هذا هو أسهل ما حدث وأخطر ما نتج. فإن كل ما كان لصهيونية ان تفعله هو أن تجد لها أجيرا تعتمده كي يخترق تلك المؤسسة وبعدها يكون النظام في جيبها الصغير. وهذا الحال أخطر بكثير من اي حزب واحد. ذلك أنها ما أن اخترقت المرجعية الدينية حتى أصبح الحكم كله بيدها. فالناس الذين يتبعون المرجعية لا يناقشون ولا يعترضون. وخير دليل على ذلك ما حدث في الكارثة التي سميت دستور العراق لعام 2005 فما أن تم إقناع المرجع عن طريق أحد رجال الصهيونية به حتى أفتى بذلك فانقاد الناس حتى متعلموهم للتصويت عليه وها هم اليوم يعيشون كارثة عدم مقدرتهم على عمل شيء.
فقد تم استبدال استبداد المرجعية الدينية باستبداد الحزب الواحد عن طريق “الديموقراطية”؟
فما هو النظام السياسي الذي أراه يصلح لنا إذا كنت لا أعتقد أن ديموقراطية الأنكلوساكسون ستنفعنا؟
هذا ما ساحاول أن أكتب عنه في الجزء القادم..
فللحديث صلة…..
عبد الحق العاني
لندن في 7 نيسان 2023