إن دارس علوم الطبيعة يجد صعوبة حين تعرض عليه قضايا الإجتماع والسياسة والجغرافية و”النفس” تحت مسمى العلم، ذلك لأنه تَعَّود أن يفهم أن ما يسمى “علما”، كما هو الحال في علم الفيزياء مثلا، يعني دراسة الظواهر لإستخلاص القواعد التي يجري بعد ذلك إثبات نظريات لها ثم تتحول إلى قوانين بعد اختبار الزمن لتلك النظريات. فقوانين الحركة تكاد تكون ثابتة لكل زمان، مع شيء من التعديل بين الحين والآخر، وهي دون شك فاعلة في كل مكان. لكن هذا الفهم لا ينطبق على ما يسمى بالعلوم الإنسانية. فليس هناك قانون اقتصادي يصلح لكل زمان ومكان فالإقتصاد، برغم كونه باب معرفة معقد، ليس فيه قوانين ثابتة مثل قوانين الحركة في الفيزياء. أما السياسة فليس فيها نظريات يمكن أن تنطيق على دول العالم أيا كانت لمجرد أن تلك النظرية نجحت في بلد ما. ولا يختلف الحال كثيرا في “علم النفس” والذي هو في حقيقته ابتداع غربي ذو جذور غريبة ومشوشة ولا تستند الى قواعد مقبولة عقلاً في أغلب الأحوال.
وهكذا أصل الى نتيجة ما بدأت في عرضه في الجزئين السابقين من أن وجود النظام السياسي المسمى بالديموقراطي، كما هو الحال في بريطانيا، لا يقتضي أنه صالح لكل بلد ولكل زمان، وذلك ينطبق على بريطانيا نفسها التي شهدت، كما أسلفت توضيحه، تغيراً جوهريا في النظام خلال ثمانية قرون.
عقد “مركز مكافحة التطرف” في جامعة كمبردج البريطانية قبل أيام مؤتمرا لبحث ما حل بالعراق بعد عشرين عاما من غزوه واحتلاله. وكان اليوم الأول للمشاركين بالعربية والثاني للمشاركين بالإنكليزية. وكان من بين المشاركين المتميزين في اليوم الثاني السير هارولد والكر. وهو سفير بريطاني مخضرم حيث مَثَّل بريطاينا في عدة دول عربية منها العراق والذي عمل فيه في فترة “حصار الإبادة” في تسعينيات القرن الماضي. قد بذل السفير “والكر” جهدا لفهم المنطقة فتعلم العربية. ولا أكتم اعجابي بما كشفه عن فهم للعراق ولقضايا العرب عامة، وذلك أمر فريد في تميزه عما سمعته من سفراء ورجال سياسة واعلاميين بريطانيين خلال أربعين عاما من المتابعة. ولن آتي هنا على كل ما قاله السفير “والكر” أو المحاورة التي أجراها معه الصحفي “جوناثن ستيل”. لكن ما يهمني هو ذكر ملاحظة واحدة تتعلق بما نبحثه عن النظام السياسي الذي يمكن أن يصلح للعراق وعلى الأخص تلك الدعوة الجاهلة أحيانا، والهدامة عمداً أحيانا أخرى، لتطبيق “الديموقراطية” الغربية في العراق. فقد علق الصحفي ستيل بالقول: ان آخر استطلاع للرأي دل على أن نسبة 14% من العراقيين يؤمنون بأن العراق بلد ديموقراطي بل إنه أكثر الدول العربية ديموقراطية. فما راي السفير في ذلك ؟” فما كان من السفير والكر إلا أن إنفجر ضاحكا قائلا عن اية ديموقراطية يتحدث ستيل، ذلك لأن الديموقراطية لا يمكن أن تقوم في ظل الفساد المطبق و”المحاصصة”. واستعمل السفير “والكر” كلمة “المحاصصة” العربية نفسها. وأكتفي بهذا القدر مما قاله السفير والكر الذي أتبعه بتفسير كشف عمق فهمه للعراق والعرب عامة. فقد وجد الحديث عن الديموقرطية في العراق أقرب للسخرية منه للواقع.
وأخال أن إجابة السفير تلك لم تأت لأنه اعتقد أن مشكلة فشل الديموقراطية في العراق هي في التطبيق وإنما لأن هناك أسباباً جوهرية تتعلق بالمحتمع العربي، والعراق جزء منه، لا تستقيم معها ديموقراطية الغرب.
كتبت قبل ثلاثين عاما في مجلتي الفصلية “The Arab Review” أن صداما لا بد أن يقع بين مبادئ الشريعة الإسلامية، التي يقبلها بشكل عام أكثر المسلمين، وبين النظام المسمى بالديموقراطي الغربي. ولم يكن ذلك رجما بالغيب، وإنما كان ملاحظة مني لسير النظام الغربي وفهما للإختلاف الجوهري في العقيدة التي أنتجها الفكر الغربي بشكل عام والعقيدة الإجتماعية السياسية التي أنتجها الإسلام، وهاتان لا تلتقيان. فالفكر الغربي يرى أن المبادئ الإجتماعية والسياسية يقرها الشعب وهي لهذا تتغير بتغير الوقت إذا رأي الشعب، أو بالأحرى ممثلوه، أن يغير عددا منها بحجة التطور. أما الحال في المبادئ الإجتماعية المستقاة مما يسمى “الشريعة” فمنها ما يعد حكما إلهيا غير قابل للتغيير لأنه ليس من صنع الإنسان حتى يغيره.
فإذا بحثنا عن شواهد لذلك وجدناه في العلاقات بين الناس. فقبل سبعين عاما، على سبيل المثال، كان الإنتكاس النوعي (الشذوذ الجنسي) يعد جريمة يعاقب عليها بالسجن. أما اليوم فإنه ليس مجازا فحسب لكن الإعتراض عليه والطعن به اصبح يعد جريمة في القانون الأنكلوساكسوني الذي يشكل سيد القوانين في أوربا الغربية وقائدها فاذا تغير هو تغيرت هي. وكذلك الحال بالنسبة للزواج “المثلي”. لكن هذه العلاقات تعدها الأحزاب الدينية التي تتحكم بالشارع العربي من المحرمات التي لا يجوز حتى الإقتراب منها ذلك لأن الشريعة تعد العلاقات بين “النوعين” مقررة عند خلق الإنسان وليست موضع اختياره. وهذا ليس حال المسلمين في العالم وحدهم فإن النصارى (المسيحيين) في أمريكا الجنوبية وأفريقيا وأغلب دول آسيا ما زالوا يعتقدون بالحكم التوراتي، والذي لا يختلف كثيرا عن الإسلام، في تحريم هذه الممارسات.
وليت الأمر توقف عند الإختلاف في الممارسة وإيجاد التفسير لها. لكنه ليس كذلك. ذلك أن الغربي، وكما بينت سابقا، والذي عانى لقرون من عقدة النقص الناتجة عن حقيقة أنه أخذ دينه وفلسفته من منطقتنا، حَوَّل تلك العقدة الى تعال لا مثيل له فادعى حقه في الوصاية الفكرية على بقية العالم ونسب المسيحية والفلسفة له وهو أبعد ما يكون عن الإثنين. وحيث إنه يعتقد أن له تلك الوصاية الفكرية على العالم فقد ادعى أن له وحده الحق في منح حقوق الإنسان وسحبها وتغييرها وهكذا هي قوانينه اليوم. فاذا قرر الغربي ان “الزواج المثلي” أصبح حقا جديدا من حقوق الإسان فإنه يتوقع من بقية العالم أن يعدل قوانيه وقواعده الإجتماعية لتتفق مع الجديد في حقوق الإنسان الغربي. والويل الويل لمن لا يفعل ذلك لأنه يصبح معتديا على حقوق الإنسان. وهنا يقع الصدام. ولست أريد بهذا أني أدافع عن كل ما ينسب للشريعة في الإسلام أو ما يقال انه وليد عنها فلي في ذلك كتابات تبين خلاف ذلك. لكن الذي أعترض عليه هو حق الفكر الغربي في أن يغير القوانين كما يشاء وبفرض على العالم أن يحذو حذوه.
والخلاف ليس بين الغرب والمسلمين فحسب بل هو أوسع من ذلك. فالنصارى في أفريقيا أجمعوا على رفض هذه الإستبداد. ومثال ذلك ما حدث في الكنيسة الأنكليكانية (كنيسة إنكلترة). فقد وجد رئيس اساقفة الكنيسة في انكلترة، وهو الرئيس المعنوي لتلك الكنيسة في العالم، رفضا شاملا من كل أساقفة أفريقيا على التصديق على قرار مجلس الكنيسة في لندن بقبولهم مباركة “الزواج المثلي” في الكنيسة، وعَدُّوه خروجا عن أمر الله الذي جاءهم في الإنحيل.
إن حقيقة الديموقراطية الغربية هذه لا تصلح للمجتمع العربي الذي لا ينفصل العراق عنه. فالمجتمع العربي شأنه في ذلك شأن أمريكا الجنوبية وأفريقيا يرفض القاعدة الأساس التي يقوم عليها الفكر الغربي في أن الإنسان مصدر التشريع. إذ ان العرب يعتقدون بأن الله هو مصدر التشريع وان الإنسان حين يشرع فهو إما يستقي تشريعه من نص إلهي جاء في كتاب مقدس وإما انه يهتدي بالكتاب المقدس في أي تشريع لم ينص عليه الكتاب كلما أمكن ذلك. وهذا تناقض جوهري مع الديموقراطية الغربية.
فما هو النظام السياسي الذي أراه يصلح لنا إذا كنت لا أعتقد أن ديموقراطية الأنكلوساكسون ستنفعنا؟
هذا ما ساحاول أن أكتب عنه في الجزء القادم..
فللحديث صلة…..
عبد الحق العاني
لندن في 29 آذار 2023