إلى أين: الدولة العربية الموحدة
انتهيت في الجزء السابق سائلا ما شكل الدولة العربية المرجوة.
حين أحدث أصحابي عن الوحدة العربية فإن الإعتراض يأتي في الغالب من الذين لا يريدونها لأسباب ليس هذا محل بحثها لكن الإعتراض يستند الى انه لا يمكن تحقيقها لأن الناس لا يريدونها أو لأن الوضع الدولي لا يسمح بها أو لأن القانون الدولي لا يجيزها أو لأن وقتها لم يحن بعد، وما شاكلها من أعذار واهية لا علاقة لها بالمبدأ ولا بجوهر الفكرة.
وبرغم أني سبق وكتبت عن جوهر الإيمان بوحدة الأمة العربية والسعي لتحقيقها لكني لا بد أن أعيد ذلك هنا ليس فقط من أجل التأكيد على وحدة الأمة في ارتباطها اللغوي والتأريخي والثقافي وإنما من أجل إثبات أن لا مستقبل للعرب في الزمن المتوسط قبل البعيد من دون وحدتهم خصوصا والعالم يتجه بتسارع نحو خلق تكتلات سياسية واقتصادية وعسكرية كبيرة. فهذه أوربا التي تتكون من أعراق ولغات وثقافات لا تكاد تحصى انتظمت في تكتل كهذا. وأغلب دوافع هذه التكتلات هي البحث عن الحماية العسكرية والأمنية والتكامل الإقتصادي. ومن ينظر الى الأمة العربية لا يحتاج لجهد كبير كي يدرك مقدار حاجة الأمة العربية لهذا، فالتكامل الإقتصادي بين طاقات شعب مصر وبين مصادر الثروة في جزيرة العرب ليس صعب الفهم في قيامه وفي نتائجه المثمرة لكل الأمة. أما الحاجة للحماية العسكرية وسبل تلبيتها فواضحة وضوح الشمس. فهل يعقل أن أي مواطن في الكويت أو في (أبو ظبي)، على سبيل المثال، سوف يتمكن من تأمين الحماية لنفسه أمام خطر محتمل من دولة قوية مثل إيران، مهما كدس من صواريخ ومقاومة طائرات! فحين صحى من الغفلة أو الجهالة فإنه اكتشف ان القوة الحقيقية التي كان يمكن أن تؤمن له الحماية هي جيش العراق، والذي ساهم هذا العربي في هدمه وحله، وليس الوجود الصهيوني غير المضمون في استعداده للدفاع عنه أو حتى في احتمالات ديمومته!
وليس عسيرا فهم سبب عدم قبول عدد كبير من الناس لمبدأ الوحدة المرجوة حيث إن من الطبيعي أن يشعر المتنعم أن الوحدة قد تقلل من نعيمه المادي الآني إذا ما شاركه فيه آخرون. لكن الفكرة يجب أن تعرض على أنها تبحث عن مستقبل أبناء هذا المتنعم وأحفاده، وتبين كيف يمكن لهذه الوحدة أن تكون الضمان الوحيد لمستقبلهم. فقد يكون في الوحدة تحجيم لطموحه المادي، وإن ليس هذا سيقع بالضرورة، إلا ان ما يقابله هو ضمان مستمر للمستقبل المزدهر لكل القادمين.
وفوق كل هذا وذاك فإن مصائر الأمم لا يمكن أن تقررها مصلحة مجموعة من الناس في أية فترة من تأريخ أية أمة. وشواهد التأريخ على ذلك عديدة نأخذ منها القريب وليس البعيد. فالولايات المتحدة الأمريكية، والتي يعدها الكثيرون من أعداء الوحدة العربية نموذجا يحتذى به في الحرية والديموقراطية، ما كانت لتكون ما هي عليه اليوم لولا أنها توحدت بحرب دموية أجبرت أهل الجنوب على أن مصلحة الأمة تقضي بتوحيدها وكان ثمن ذلك التوحيد خسائر في الأنفس لم تشهد مثيلها. أما إيطاليا الحديثة فقد كانت تتألف من إمارات متعددة ومتنافسة ولم تولد إيطاليا الحديثة الموحدة إلا بعد عقود من القتال في القرن التاسع عشر. ولا يختلف حال ألمانيا عن إيطاليا فهي كذلك لم تصبح تلك الدولة القوية التي غزت أوربا وحققت اكبر ازدهار اقتصادي قبل الحرب الثانية وبعدها، إلا بعد أن وحدت بالقوة في نهاية القرن التاسع عشر. ولم يسأل ماوتسي تونغ احداً من أهل الصين رأيه في توحيد البلاد حين قاد حرب التحرير ليبني بلدا أصبح في طليعة دول العالم في ازدهاره ونموه لتحقيق حياة كريمة لأكبر تجمع سكاني خلال سبعين عاماً.
إن ما أردته من هذا هو تثبيت حقيقة تأريخية مفادها أن الأمم تصنع بتضحيات وان مما قد تحتاجه الأمة العربية من أجل بقائها ومستقبلها هو تضحية قد تعني استعمال القوة لتوحيد الأمة إذا عجز الإقناع. وهذا ما يجب فهمه وشرحه والتربية على قبوله للقادمين من العرب. فإذا احتاج الأمريكيون للتضحية بالدم من أجل بناء أمريكا القوية التي سادت في العالم فربما يجب على العرب التضحية بالدم من أجل بناء دولة عربية موحدة تصون نفسها وأبناءها دون الحاجة أن تعتدي على أحد.
لكن الأهم في الإعتراض على فكرة الوحدة هو القول بأنها غير ممكنة بسبب الحدود السياسية التي رسمها المستعمر والتي أصبحت مقبولة عالميا بل ربما أصبحت ثابتة بموجب القانون الدولي. وهذا الإعتراض يخلو من فهم القانون الدولي القائم على الإعتقاد بأن مجلس الأمن يصنع القانون وأن الحدود التي رسمها المحتل ملزمة، وهذه أوهام جهلة بالقانون والسياسة لكني لن أعرض لها هنا حيث كتبت عنها كثيرا ومن أراد الإستزادة في هذا الباب أمكنه أن يجدها.
لكن الذي حدث خلال الأشهر الماضية أظهر صحة ما سبق وقلته وهو ان حدود الدول ليست قوانين ثابتة، بل هي خاضعة للتغيير اعتمادا على الطريقة والظروف التي تم فيها رسم تلك الحدود. فقد قرر بوتين تغيير حدود روسيا التي رسمها الشيوعيون خلال حكم الإتحاد السوفيتي وذلك في توزيع الأرض لأسباب ليست مرتبطة بالخريطة السكانية لأهل تلك الأرض. وقد نتج عن تلك الحدود مشاكل في اعتقاد عدد من الناس أن الحدود الجديدة مقدسة لا يمكن المساس بها بينما اعتقد آخرون أن تلك الحدود لا يمكن أن تستمر. وليس بوتين سوى قائد يمتلك القوة لتغيير تلك الحدود التي قسمت الشعب الروسي ووزعته بين عدد من الدول. وما يفعله بوتين اليوم ليس جديدا في أوربا أو في العالم. فلا أحد يحصي عدد المرات التي رسمت فيها حدود أوربا في القرون الثلاثة الماضية حتى ان من ينظر الى خريطة أوربا في القرن السابع عشر يجد أن لا علاقة لها بأوربا التي نعرفها اليوم.
وما يفعله بوتين يؤكد ما كتبت عنه مرارا من أن الحدود التي رسمها المستعمر لأرضنا ليست مقدسة وان تغييرها بأيدينا ممكن بل ضروري لبناء الدولة العربية الموحدة، خصوصا وان المستعمر لم يخف يوما هدفه من خلق الدول العربية الهامشية ومن رسم الحدود المصطنعة.
ولست أدعو أن تقوم دولة اليوم على حدود الدولة العباسة والتي مثلت أوسع وحدة تأريخية لأرض العرب. لكني أدعو في أضعف حال العمل لعودة أرض العرب لما كانت عليه قبل الغزو الأوربي في القرنين التاسع عشر والعشرين. أي أدعو للعمل من أجل سورية الموحدة، أي بلاد الشام كما كانت منذ آلاف السنين. أدعو لعودة العراق السياسي دولة واحدة كما كان في الدولة العثمانية. أدعو لعودة دولة مصر والسودان. أدعو لوحدة المغرب مع الصحراء ومورتانيا والتوقف عن المطالبات البائسة والهدامة بمزيد من التقسيم في مغرب أرض العرب.
وهذه الدعوة هي المرحلة الأولى في توحيد الأمة والتي يتبين بعدها صحة الهدف من أجل ضم تلك الكيانات الجديدة في دولة أوسع وأكبر حتى تضم كل أرض العرب.
فما هو النظام السياسي والإقتصادي الذي أرجوه لهذه الكيانات الجديدة وللكيان الموحد الذي أتمناه؟
وللحديث صلة…..
عبد الحق العاني
لندن في 20 تشرين الأول 2022