إلى أين: ما لنا وللأمم المتحدة؟ – 5
انتهيت في الجزء السابق متسائلاً عن سبب عضوية دول عربية معينة في منظمة الأمم المتحدة وتصديقها على معاهدات تحد من قدرتها في الدفاع عن نفسها في وقت يمتنع فيه أعداؤها عن التزام مماثل.
ودار حوار بيني وبين صاحبي حول كيف يمكن للعرب أن يعيشوا خارج المنظمة الدولية، فخرجت من ذلك الحوار بنتائج لعل أهمها هي مقدرة المنتصر على تكييف عقول أغلب الناس للقبول بما يراه على أنه طبيعي ومقبول. فتأريخ آلاف السنين من حياة البشرية، والتي مرت من دون منظمة دولية يديرها الغرب، ليس مما يعتد به لأن التطور السياسي الأوربي الذي أنتج كل حركات التطرف والحروب المدمرة قضى منذ مائة عام أن الحل الوحيد هو في تأسيس منظمته التي أقنع الآخرين بأن الإنتماء لها هو الطريق الوحيد للخلاص، تماما كما أقنعهم بأن “الديموقراطية” هي الأساس للنظام السياسي وأن اللبريالية هي نتيجة العالم حتى كتب “فوكوياما” كتابه سيء الصيت (نهاية التأريخ)، ليعود فيعترف أنه أخطأ.
وأستوقفني سؤال صاحبي: كيف يمكن لنا أن ننسحب من منظمة الأمم المتحدة أو أي من وكالاتها أو مؤسساتها؟ إذ يبدو أن التكييف الأوربي لعقول الناس قلب المفاهيم حقاً. إذ ان العقل يقضي بأن السؤال يجب أن يكون: لماذا ندخل في هذه المنظمة؟ قبل السؤال عن عقلانية الإنسحاب منها. إذ تقضي الطبيعة البشرية أنك لا تدخل في أي تعاقد دون أن تتأكد، أو تعتقد في أقل حال، بأن حقوقك ستكون مصانة في ذلك العقد وأن في العقد ضمانات لذلك. فاذا كان ذلك حالك حين تتعاقد فردا فكيف لك أن تدخل أهلك وعشيرتك ومدينتك وبلدك في عقد لا يحفظ لأحد منهم أي حق؟
لست أدعو للعزلة بل على عكس ذلك حيث إني من القلة في هذا العالم الذين يؤمنون بأن من حق كل إنسان أن يتحرك وينتقل بكل حرية ويسكن أين يشاء دون الحاجة للحصول على سمة دخول أو إقامة بل وحتى دون جواز سفر ما دام لديه ما يُعَرِّفه. لست أدعو للعزلة إنما أدعو للتعايش والتعارف كما قال عز من قائل: “وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا”. وهذا التعايش والتعارف يجب أن يتم على أسس من المساواة والعدل وصيانة الحقوق. وهذا لا يتحقق في نظام دولي يتحكم به الأقوياء ويقررون فيه ما يجوز لهم وما لا يجوز لغيرهم. فرد صاحبي بأن هذا هو حال العالم. فأجبت ان هذا هو سبب رفضي! أدعو الى نظام دولي عادل فإذا لم يتحقق فلست مجبرا على قبول نظام دولي ظالم. يمكنني أن أقيم علاقات مع أية دولة توافق على المعاملة بالمثل دون الحاجة لمنظمة الأمم المتحدة. وإن كان لا بد من خلق منظمة دولية تجمع الناس فإن هذه المنظمة يجب أن تكون مبنية على عقد بين أطراف متساوية في الحقوق والواجبات والإلتزامات، وإلا فلا.
حين أكتب عن العرب وعن الدولة العربية التي أريدها فإني لا أريد لها أن تكون في منظمة الأمم المتحدة بشكلها الحالي كما أسلفت.
- فالدولة العربية التي أريدها لن تدخل في منظمة دولية يجيز عقدها لخمس دول أن تتحكم بمصيرها ومصائر كل دول العالم الأخرى كما هو الحال اليوم.
- ولن تدخل في منظمة يعطي عقدها كل دولة من الدول الخمس حق النقض مما يتيح لتلك الدولة أن تفعل ما تشاء دون مقدرة المنظمة على اخضاعها للمحاسبة أو حتى المساءلة.
- ولن تدخل في منظمة تجيز للخمسة أن يقرروا وحدهم ما يحق لهم أن يمتلكوه من سلاح وأن يمنعوا عن من يشاؤون ما يقررون من سلاح.
- ولن تدخل في منظمة تتمكن فيها خمس دول أن تفرض حصارا على أي شعب فتجوعه وتذله وتميته وتخرب أرضه حتى يرضى بالعبودية أو يزول.
- ولن تدخل في منظمة يمكن فيها لعدد من السياسيين إصدار قرارات لها سلطة قانون دون أن تخضع تلك القرارات لمراجعة قضائية مستقلة ودون مقدرة الدولة المبتلاة بالقرار على الطعن به.
- ولن تدخل في منظمة دولية فيها محكمة استشارية لا سلطة لها ما لم تكن تلك المحكمة هي السلطة العليا في تحديد قانونية القرارات الصادرة عن المنظمة وكانت تلك المحكمة تضم قاضيا من كل دولة عضوة في المنظمة حتى إذا وقع خلاف أو نزاع أو صدر قرار من المنظمة حسمته هيئة من تسعة قضاة ليس فيهم عضو من دولة طرف في النزاع أو من دولة حليفة مع طرف في النزاع.
- ولن تدخل في منظمة تطبق معاهداتها التي تكتسب صفة القانون الدولي العام على الدول التي تعلن التزامها بالمعاهدة فقط وتترك الدول التي لا تلتزم بها. إن قواعد القانون الدولي العام يجب أن تطبق على الجميع وإلا فهي ليست قانونا.
- ولن تدخل في منظمة يكون مقرها في احدى الدول الخمس فيخضع كل ممثلي الدول الأعضاء للقرار السياسي للدولة المضيفة في السماح لهم للحضور إلى مقر المنظمة من عدمه. إن مقر المنظمة يجب أن يكون ملكا للمنظمة وغير خاضع لقانون أية دولة.
- ولن تدخل في منظمة لا تشارك الدول المتعاقدة بشكل متناسب في إدارتها حتى ينفرد الأوربيون بإدارة المنظمة ووكالاتها وأجهزتها. فيصرح من يشاء منهم مثلا وبدون تفويض بأن كهرباء زبروجيا هو ملك أوكرانيا أما نفط سورية فلا مانع أن تسرقه الولايات المتحدة ما دامت هي التي عينتني ومنحتني سمة الأقامة وتحفظ أمني!
هذه عدد من مشاكل منظمة الأمم المتحدة القائمة اليوم والتي يكفي أي منها لأن أعترض على الإنضواء تحت مظلتها فكيف إذا اجتمعت كلها!
فإذا قامت منظمة دولية بالأسس العادلة التي بينت، أو تلك التي ترضى بها دول العالم بأغلبيتها، فإني سوف أكون أول الداعين للإنتماء اليها والمشاركة في تحقيق العدل والسلم والتعارف بين الشعوب. إما إذا تعذر ذلك فما حاجتي لمنظمة تأخذ مني كل شيء ولا تعطيني شيئا!
ها قد قلت ما أردت قوله حول المنظمة الدولية التي أطمح أن تشترك بها الدولة العربية المرجوة.
فما هو شكل تلك الدولة…..
وللحديث صلة…..
عبد الحق العاني
لندن في 28 آب 2022