قد يسأل القارئ عن سبب كتابتي هذا في الوقت الذي يواجه فيه بوتين قوى الإستكبار الرأسمالي الغربي المتمثلة في حلف شمال الأطلسي. وجوابي على ذلك هو رغبتي في منع سقوطنا في وهم فهم معنى هذه المواجهة على أنها شيء آخر غير مواجهات بين أجنحة متنازعة داخل المعسكر الرأسمالي، أي إنها ليست صراعات حول مبادئ متناقضة وإنما هي صراعات حول هيمنة جناح دون آخر على المشروع الرأسمالي المدمر للعالم. فليس يعنيني كثيرا أن ينتصر الجناح السلافي على الجناح الجرماني أو العكس ما دام الإثنان في جيب الصهيونية العالمية.
وقد يتساءل ساذج عن وصفي لروسيا اليوم بأنها في جيب الصهيونية. فأجيب بعجالة ودون العودة للعراق وكيف كانت صهيونية روسيا الحديثة واضحة وضوح الشمس: انظر لما حدث ويحدث في سورية مما يغنيك عن الجواب. حيث إني أعجب لأي متابع للحدث ألا ينتهي بهذه النتيجة والتي لا تقبل حتى التأويل. فسورية منحت الروس فرصة تحقيق حلم عمره قرون، حلم به القياصرة ولم يتمكنوا من تحقيقه ومنع حتى الشيوعيون السوفيت منه، ألا وهو الوصول للمياه الدافئة. فقد مكنت سورية روسيا من أن تمتلك قاعدتين على شواطئ البحر الأبيض المتوسط وهو البحر الذي استحوذ عليه الأنكلو ساكسون، خصوم السلاف الأبديون، لقرون. ولم تتمكن روسيا من موضع قدم لها فيه. وهكذا أصبح لروسيا وجود مهم وخطير جوي وبحري يراقب ويحمي الأمن القومي الروسي قبل الدخول الى البحر الأسود.
فما الذي حصلت عليه سورية لقاء هذه التضحية الكبرى بسيادتها؟ لا شك أن روسيا منعت حركة الإرهاب المسماة تحت عدد من الأسماء بأنها حركات إسلامية، وهي لا تمت للإسلام بأية علاقة غير الإسم، من الإنتصار. لكن دحر الإرهاب الإسلامي مهم جدا لروسيا لأن عدد المسلمين داخلها وفي الجمهوريات الإسلامية التركية المحيطة بها يثير قلقا كبيرا. وقد مكنت حقيقة وجود روسيا العسكري من التحكم في حرية سورية في اتخاذ القرار السياسي. وحتى نفهم هذه الحقيقة أود أن أشير الى حدث مهم قد يبدو عابرا لكنه بليغ في مدلوله. فقد قاتلت سورية اسرائيل عدة مرات وهاجمت اسرائيل سورية مرات ومرات لكنها تجنبت في جميعها أن تضرب مطار دمشق الدولي لأن ذلك يتجاوز حدود ما تفاهم عليه الجميع من أن المرافق المدنية لا تضرب إلا في حالة الحرب الشاملة والمدمرة. فلماذا فعلت إسرائيل ذلك ومر الأمر بكل سهولة وكأنه حدث عابر من باب حق إسرائيل في الدفاع عن أمنها القومي الذي يتعرض للتهديد الإيراني كما يصفه أصدقاؤها؟
ويجب قبل الإجابة على هذا التساؤل والذي لا يجوز تجاوزه بسهولة أن نثبت ما يهم من الحقائق. وأول هذه الحقائق هي ان قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية وقاعدة طرطوس البحرية تضمان خط الدفاع الأول عن أمن روسيا القومي ويعني هذا، دون أن يكون المرء خبيرا في الشأن العسكري، أن فيهما من مقومات الدفاع ما يؤمن في أدنى حد المقدرة على الكشف والإعتراض وتحييد أي خطر قد يوجه لروسيا مباشرة أو لوسائل أمنها الإقتصادي أو التعبوي إن لم نقل السوقي كذلك. فإن لم يكن الحال كذلك فلماذا قامت القاعدتان؟
ولا أريد أن أرهق القارئ بتفاصيل الكشف الإلكتروني للطائرات وامكانية معرفة هويتها لكنه يكفي تثبيت حقيقة أنه ما من طائرة تحلق في سماء سورية أو لبنان أو الأردن أو فلسطين دون أن تعرف قاعدة حميميم الجوية موقعها ووجهتها. وحيث إن قاعدة حميميم تضم آخر طائرات القوة الجوية الروسية وطياريها فإن القاعدة لا بد أن تعرف أن الطائرة الإسرائيلية المغيرة على سورية ليست تستهدف المواقع الروسية، أو بمعنى أدق هو ان الطائرات الإسرائيلية تطير بعلم وموافقة روسيا. وليت هذا هو كل البلاء بل إن البلاء هو ان روسيا تشترط على سورية أن تستعمل عددا من مقاومة الطائرات للتصدي للطائرات الإسرائيلية وتمنع تزويدها بمنظومات أخرى زودت بها دولا أخر ليست حتى حليفة لها كما هو الحال في تزويد تركيا عضوة حلف الأطلسي الذي أعلن بالإجماع تصنيف روسيا على أنها العدو الأكبر، وتزويد دويلة الإمارات الوهمية. لكنها حجبت عن الحليف في سورية! فليس يليق بوزير الخارجية الروسي، وكأنه يستخف بعقولنا، أن يطلع علينا ليستنكر قصف مطار دمشق. حيث يكفي ان يقوم هو، أو يقوم رئيسه إذا لم يمتلك هو السلطة، برفع سماعة الهاتف وإبلاع رئيس وزراء إسرائيل بأن أي عدوان على سورية سوف يواجه بمنظومة (إس 400) في حميميم، وبعدها لن تطير طائرة اسرائيلية فوق سورية أو لبنان.
فلماذا لا تفعل روسيا ذلك؟ ولماذا تقيد حق سورية في الدفاع المشروع عن نفسها؟
إن الجواب على ذلك نجده في صهيونية بوتين! ولست أقول ذلك جزافا لكني استند في ذلك الى سلوك بوتين وأسند ذلك بقوله. فقد صرح بوتين بما أسميته “قاعدة بوتين”، والتي لا تختلف عن “قاعدة مونرو” الأمريكية، حين صرح بأنه يتعهد بالدفاع عن أي روسي في أي مكان في العالم. فإذا عرفنا أن أكثر من نصف شعب إسرائيل هو روسي أدركنا أن بوتين متعهد بالدفاع عن إسرائيل وهو لا يختلف في ذلك عن أي رئيس أمريكي منذ تأسيسها ويختلف عن أي رئيس روسي آخر في كونه الوحيد الذي وضع هذه النظرية والإلتزام بحماية إسرائيل مهما فعلت. فإذا لم يكن هذا الإنتماء هو الصهيونية بعينها فلست أدري ما هي الصهيونية إذن! وهو موقف خطير لا يختلف عن إيمان الصهيونية الغربية في أن لإسرائيل حق الإدعاء بالدفاع عن أي يهودي في العالم. وهذا يكفي بإيجاز لشرح سبب منع سورية من التصدي لعدوان اسرائيل المستمر عليها ويكفي لشرح مقدرة أي رئيس وزراء إسرائيلي أن يركب الطائرة ويهبط في مطار موسكو كي يجتمع ببوتين قبل أو بعد أي عدوان إسرائيلي على سورية.
إن سياسة بوتين في منطقتنا تقوم على رأسها وليس على قدميها وهو واهم إذا اعتقد أن بمقدوره بموجبها إجبار سورية على الإعتراف باسرائيل وحماية اخوته من الغزاة المستوطنين الروس والذين هاجر أغلبهم واستوطنوا فلسطين في عهده. ذلك لأنه حين يعجز عن منع الحصار المدمر على سورية ويعجز عن تمكين سورية من استعادة جولانها المحتل ويعجز عن وقف العدوان الإسرائيلي المستمر على سورية فقد يأتي يوم يفعل السوريون ما فعله المصريون فيلجؤون لأمريكا التي ترفع عنهم الحصار وتعيد لهم نوعا من الأمن وتعطيهم تسوية تصون ماء الوجه في الجولان. لا يمكن لروسيا ان تكون لها قواعد في سورية إذا كانت تؤمن بحق اسرائيل في التصرف كما تشاء!
ماذا عن العراق ولعنته؟
لا بد أن كل من يبحث عن سبب مشاركة روسيا في حصار العراق وغزوه واحتلاله وخرابه سوف يواجه بمن يرد على ان سبب ذلك هو ان روسيا لم تكن عام 1990 تمتلك زمام أمرها كي تعترض. وقد يكون في هذا نوع من التسويغ وإن لم يكن كافيا فقد امتنعت حكومة الأردن الضعيفة عن دعم العدوان على العراق عام 1991 فهل كانت روسيا أضعف من الأردن كي تقف موقف المتفرج في أضعف حال؟ إلا اننا إذا قبلنا بذلك لعام 1991 فكيف يمكن لنا أن نقبل بأن روسيا لم تكن قادرة على الإعترض بعد عام 1991 حين كان حصار الإبادة يتضح عاما بعد عام، فكانت توافق على كل قرار يتخذه مجلس الأمن الواقع تحت الهيمنة الصيونية وتوجت ذلك بالموافقة على القرار رقم 1441 والذي استندت له الصهيونية في غزو واحتلال العراق. ولا يغيب عن متابع التأريخ أن يتذكر أن غزو العراق واحتلاله تم بعد أن قام توني بلير بزيارة موسكو والإجتماع ببوتين. فهل يعقل أنه لم يبلغه بنية غزو العراق واحتلاله خصوصا وان بوتين كان قد أعلن عن عدم تصديقه أن العراق لم يكن يمتلك اسلحة دمار شامل. وقد أثبتت الأحداث هذا. فقد سكتت روسيا عن خرق قواعد القانون الدولي التي تتحدث عنها اليوم حين بحث مجلس الأمن طلب الولايات المتحدة وبريطانيا سلطة حكم العراق. فهي لم تعترض على حق هذه الدول أن تحتل وتغير النظام السياسي في دولة عضوة في الأمم المتحدة، فصادقت على القرار وثبتت سلطة الصهيونية في رسم الخريطة التي تريدها.
ويكتشف بوتين معضلته اليوم فهو في صراعه مع الصهيوني الغربي يجد نفسه يواجه كل الذي وافق عليه في العراق. أسمع مرارا من قنوات تلفاز تدعي العلم والعروبة وهي تردد أن حصار الغرب لروسيا لم يسبق له مثال. وهذا هراء ذلك لأنه ليس إلا جزءا يسيرا مما شهده العراق فحصار العراق لم يسبق له مثيل من حيث إنه لم يسبق حصار بلد بالكامل وأشك أنه سيمكن فعله مرة أخرى، فلم تمنع عن أطفال روسيا أقلام الرصاص كما منعت عن أطفال العراق على سبيل المثال! فحصار الغرب لروسيا يجده بوتين ويصفه بانه خلاف القوانين لكني لم أسمعه قبل اليوم يتحدث عن أن حصار العراق كان خلاف القوانين، وكان كذلك. ولا أدري كيف يشير اليوم الى حصار العراق دون أن يتذكر أنه دعم ذلك الحصار، فهل يظن هو ومن معه في وزارة الخارجية الروسية أن ذاكرة كل أهل الأرض هي كذاكرة الأوربي غير المعني إلا بنفسه؟
ويستهجن بوتين التهديد بمصادرة أموال روسيا على أنها سرقة وهو الذي وافق على سرقة اموال العراقيين حين سمح للأمم المتحدة أن تصرف ثلث ورادات نفط العراق أجورا لعبث موظفيها ولطعام كلاب لجان التفتيش في الوقت الذي كان فيه أطفال العراق يتضورون جوعا. نعم فقد كانت حصة أي كلب من كلاب لجان التفتيش أعلى من حصة المواطن العراقي من ورادات النفط.
واستنكر بوتين أن يسمح مجلس الأمن لمن تشاء الصهيونية الغربية أن يشارك في مداولاته ويمنع من يشاء. وينسى بوتين أنه لم يؤيد مرة واحدة طلب العراق مخاطبة مجلس الأمن لأكثر من 12 عاما حين كان المجلس يبحث موضوع العراق والحصار وحال الناس.
ويستغرب بوتين ألا يفهم الناس أن خريطة روسيا الأخيرة رسمتها الحروب والأوضاع السياسية الشاذة وهي ليست خريطة روسيا الحقيقية وان له الحق في تعديلها. لكنه نسي أن روسيا أقامت الدنيا ولم تقعدها مع الصهيونية العالمية حين قرر العراق تصحيح الخطأ التأريخي الكبير الذي صنعته الصهيونية في تغيير خريطة وادي الرافدين منذ عهد السومريين مرورا بالدولة العباسة ثم العثمانية في اقتطاع ميناء العراق الذي سمته عام 1961 دويلة الكويت.
إن هذه هي لعنة العراق التي تلاحق بوتين وليس له أن يتحدث عن سلوك مجلس الأمن المخالف لقواعد القانون الدولي فقد شارك هو في هذا الخرق للقانون الدولي في حال العراق. وأدل تلك المخالفات هو موافقة بوتين عام 2003 على السماح للصهيونية الغربية أن تحكم العراق خلافا للقانون الدولي الذي لايجيز للمحتل تغيير النظام السياسي.
إن ما يترتب على هذا الكشف هو ان اللعنة التي تلاحق بوتين تلزمه أن يتخذ موقفاً واضحا من قضايا الشعوب. فهو لا يقدر أن يطالب بحق شعب الدونباس في الإستقلال، ولا أعترض على ذلك، بينما يدعم إسرائيل في إنكارها التام ليس لحق الفلطسينيين في وطنهم وإنما في إنكار وجود شعب فلسطيني. إن لعنة العراق التي تلاحق بوتين تلزمه أن يختار وليس أن يحاول استرضاء حكام الجزيرة والخليج قبل أن تسترضيهم الصهيونية الغربية. إن قضية القانون وتطبيقه ليست قضية انتقاء واختيار بل هي قضية مبدئية. فإذا أراد بوتين أن يطالب بتطبيقها فيجب أن يطالب بتطبيقها في العالم كله وليس حيث يشاء هو. إذا كان للقانون أن يسود في العالم فيجب أن يسود في فلسطين والعراق وسورية واليمن وليبيا والسعودية والإمارات وليس في الدونباس وحدها.
عبد الحق العاني
30 حزيران 2022